هذه الورقة تقدما بها كل من عبدالرحيم تفنوت وأحمد دابا للجنة التحضيرية للمؤتمر الثالث للحزب الاشتراكي الموحد، نعممها على جميع الأصدقاء لعلمنا أن الحياة الحزبية هي بكل المقاييس شأنا عاما وليس شأنا حزبيا خاصا. مقدمات على سبيل التوضيح لا تتوخى هذه المساهمة الثانية التي نقترحها على الرفيقات والرفاق في لجنة التحضير أن تجيب على كل الأسئلة والانشغالات التي وجدت تعبيرها فيما يفوق العشرة جلسة من المناقشة المفتوحة حول موضوعات المؤتمر القادم. وحين نقر بهذا فليس من باب التواضع المجاني الذي يعلن الشيء ويرتكب ضده .فنحن فعلا ليست لنا إلا بعض من الأفكار حاولنا أن نخرجها من " برودة " اللغة والتواءاتها التي تخفي أكثر مما تكشف ، وتركب حصان عبارات لا تنتمي إلى قاموس السياسة فعلا ونظرا . لقد أكدنا أكثر من مرة أن زمن الوثائق " المذهبية " قد ولى مع زمن الكليات اليقينية والحقائق الثابتة ، التي تملك مؤسسات المكاتب السياسية وحدها نواصيها فالزمن أصبح زمن المطالبة بالديمقراطية ، داخل الحزب وداخل المجتمع وداخل الدولة بكل فضاءاتها . ومن العلامات المؤسسة للفكرة الديمقراطية – كما يعلم جميع الرفاق – أن تتأسس على العقل الذي هو أعدل قسمة بين الناس الذي من بينهم رفيقاتنا ورفاقنا رفاق الصف اليساري المغربي ، ومن يؤمن بهذه المعادلة سيكون مجبرا على الإيمان بفكرة النسبية ، نسبية الآراء والمعلومات والتحاليل والمقترحات وكذا المشاريع المتناقضة أو المتفاوتة . وإننا لا نخفي أن الأجواء التي يجري فيها التحضير لمؤتمرنا القادم أخذت توفر جزءا من هذه الروح خارج ضغط المساطير التنظيمية الباردة التي لا يعني بالضرورة إتقان آلياتها النجاح في مهمة إنجاز مؤتمر نوعي مساير لزمنه السياسي . وفي هذا الباب نرى – في البداية – أن أهم المهمات وأعجلها والتي على مؤتمرنا القادم أن لا يقدم فيها تنازلا معرفيا هي مهمة التشخيص الصريح للذات اليسارية قبل ومن أجل إعادة الحيوية والأمل للنضال من أجل فوز قضية الديمقراطية في بلادنا . وهنا يقوم السؤال الأكبر في وجهنا والذي علينا تقع مسؤولية الإجابة عنه والذي علينا أن نعرض فيه أجوبة غير متهربة : - ما مسؤوليتنا في فشل المشروع الديمقراطي في المغرب ؟ وما حصتنا في تراجع الحلم الاشتراكي ؟ والرأي الاشتراكي والسلوك الاشتراكي في بلد أخذت الأفكار الرجعية باسم الدين أو باسم الدولة تعلن عن نفسها جهرا ودون احتشام ؟. لكم هي لحظة رائعة أن نجد أنفسنا في وضعية تسود فيها النسبية وبالتالي يكون الرفيقات والرفاق متساوون أمام بعضهم بعضا في الآراء وفي التعبير عن الآراء دونما ادعاء من أحد أن له الصواب الكامل أو النهائي ، أو أنه وحده قلبه وعقله على الفكرة والمشروع الذي انخرطنا فيه جميعا عن وعي ودونما وصاية من أحد . ولكم هو أكثر روعة أن يرافق هذا المناخ غنى وفير في الأفكار والمقاربات التي يبدو أن اليسار المغربي بكل فصائله وكأنه قد أزاحها من اهتمامه ، لصالح منهج في التعامل مع السياسة " يحتقر " علانية وبدعاوي مختلفة قيم التأمل ، والتفكير والتحليل والإطلاع على الكتابات النظرية العالمية والوطنية . إن قدرنا المحتوم علينا في هذه الظرفية التاريخية الدقيقة ، هو أن نلعب دورنا كفاعل في السياسة وكفصيل يساري حيوي في مد اليساريات واليساريين بخميرة تفكير وتساؤلات تساهم في إعادة صياغة مشروعنا الديمقراطي ، بل والأهم في ذلك تدفع في اتجاه أن تصبح السياسة فعلا مدنيا مشاعا ، وحقلا مفتوحا لتجاذب وتعدد المشاريع . مؤتمرنا في سياقه التاريخي والسياسي يتزامن التحضير للمؤتمر الثالث للحزب الاشتراكي الموحد مع نهاية معادلة سياسية أطرت لمرحلة سياسية بكاملها ، دفعت المغرب لدخول موجة من التحولات الكبرى التي كانت أبرز علاماتها وقوع حدثين بارزين أطرا كل المسار السياسي للعقد الأخير الذي لا زلنا نحيا تبعاته الارتدادية إلى اليوم هذين الحدثين يمكن إجمالهما في : - وفاة الملك الحسن الثاني واعتلاء ابنه محمد السادس كرسي العرش .وخروج الدولة من هذه اللحظة الانتقالية دون خسائر ودونما أن تقطع بتبصر تاريخي مع تركة العهد السابق الذي بقيت استمرارية تقاليده وطقوسه وسلوكيات رجالاته حاضرة وكأنها تراقب حدود ما سيسفر عنه هذا الانتقال من ملك غادر الحياة ، إلى ملك ملك عقدت عليه فصائل من النخبة السياسية المغربية أمالا ورهانات لم يكن لها ما يسندها في الواقع سوى معطيات لها علاقة بالجانب النفسي والرمزي . فلقد أحست هاته النخب بنفسها وقد تحللت من ثقل نظام مغرق في السلطوية وفي النزوع الفردي للحكم مما قد يفتح الباب مشرعا – في نظرها - لإنجاز انتقال أعمق من مجرد انتقال خلافة الملك أي انتقال نحو الديمقراطية وبناء دولة العدالة والقانون . ولقد كان لبعض المبادرات ذات الطابع الرمزي التي اتخذها الملك الجديد وقع الجاذبية النفسية في رفع درجات الآمال والطموحات عند بعض قوى المعارضة التاريخية التي سبق لجزء من قياداتها أن دشنت مسارا للتوافق مع نظام الحسن الثاني بمقتضاه جرت عملية تفاهم سياسية تقضي بإدراجها إلى مسؤولية التسيير الحكومي ، كلحظة اختبار لنواياها ولمدى استعدادها لإزاحة الجوهري في مطالبها أي إشكالية الحكم والسيادة الشعبية كمصدر للسلطة . في ذات الوقت الذي كانت فيه قيادة هذا الجزء من المعارضة تراهن على إمكانية التدرج خطوة خطوة في اتجاه تغيير ميزان القوى من داخل هاته اللعبة وطرح القضايا الرئيسية المرتبطة بمسألة التداول على السلطة . وفي هذا الباب يمكن استجلاء معنى التسوية السياسية التي سهر على إنجاز تفاصيلها المعلنة وغير المعلنة الكاتب العام السابق للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية عبد الرحمان اليوسفي من موقع رمزيته التاريخية كرجل عايش المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي ومعارضة نظام الحسن الثاني حتى قبل أن يصبح ملكا . ولقد ظهر فيما بعد أن مستوجبات هاته التسوية قد فرضت أن تعلن في البدء هذه القوى التي كانت تشكل الطرف الرئيسي في الكتلة الديمقراطية ما يسمى بإعلان النوايا الأول للملكية الذي بموجبه تخلت - و لأول مر ة في التاريخ السياسي الحديث لمغرب ما بعد الاستقلال - عن اعتراضها على الدستور الذي اقترحه الملك في صيغة ما يعرف بدستور 96 . وعلى عكس ما دافع عنه دعاة هذا التصويت الإيجابي قبل وبعد هذا التصويت فإن ما أفرزته صناديق الاقتراع أثناء الانتخابات البرلمانية التي ستلي لحظة التصويت على الدستور ستؤكد أن التوافق المتفاهم عليه بالنسبة للملكية هو توافق لا يقضي بتبديل ميزان قوى كان سائدا بميزان قوى جديد تعلن فيه الدولة المغربية تخليها عن ممارستها القديمة التي مدخلها السياسي هو قيام مؤسسة التزوير كمؤسسة رئيسية في ضبط الحقل السياسي وضبط خرائطه وفق أفق منظورها الخاص . فلقد أسفرت تلك الانتخابات على نتائج دالة المعنى عنوانها الرئيسي هو ألا أحد في الانتخابات المغربية بإمكانه أن يدعي أن له القوة الانتخابية التي تؤهله أن يقود سياسة البلاد من موقع السلطة التنفيذية بتحالف أو بغير تحالف . فالقوة الرئيسية تقع خارج الحقل الانتخابي إنها : القوة الملكية بأدواتها التي بنت هياكلها طيلة الأربعين سنة التي مضت منذ الستينات ، داخلية وجيش وبيروقراطية فاسدة تعيش من الريع وعلى الريع وأحزاب هلامية خلقتها الملكية ورعتها بأقطابها وأطرها ومالها ونفوذها المتسلل للاقتصاد . إن النتائج التي حصلت عليها الأطراف الثلاثة التي صوتت على الدستور من داخل صف الكتلة الديمقراطية .كانت تعني في العمق تقزيم الصف المطالب بالديمقراطية وبالإصلاحات السياسية الدستورية وخلق الشروط الواقعية لقبوله العرض الملكي بالمساهمة الحكومية الشكلية التي لا صلاحية لها سوى ما يهبه لها الملك بالرغبة وبالمزاج وبشكل شفوي غير مكتوب . وعليه فإن كل المعارك التي حاول عبد الرحمان اليوسفي والمناصرين لأطروحته التي ركز صياغتها في مفهوم الإشارة والإرسالية أهم من النص سيكتب عليها الفشل مسبقا ... لأن مقدمات العرض المذكور والشكل الذي تم به العرض والقوى التي أعطاها الملك الحسن الثاني الأمر بتقديم المساعدة لعبد الرحمان اليوسفي (أحزاب وزارة الداخلية الإدارية ) كانت تلغي أو على الأقل تؤجل لتاريخ غير مذكور مطلب توازن السلط بين المؤسسة الملكية والجهاز التنفيذي ، وما سيسمى بمطلب استقلالية مؤسسة الوزير الأول وتزويدها بالصلاحيات ليكون وزيرها الأول رئيسا لفريق يحكم وله برنامج يعرضه على الغرفة التشريعية ، يقنع به الرأي العام ويكون أساسا لمحاسبته في نهاية الولاية الحكومية . إن ما لم يأت به دستور 1996 بواسطة أسلوب عدم الذكر قد جرى التأشير عليه سياسيا من خلال نتائج انتخابات 1997 , حيث ارتفع اللبس وتبين أن وهم تغيير المخزن من داخل أدوات المخزن هي عملية تقترب من الاستحالة ، وأن الحلم باقتسام السلطة مع الملكية يحتاج إلى مقدمات أخرى لا يلبس فيها حاملي مطلب الإصلاح الديمقراطي لباس أبطال التراجيديا الذين يموتون واقفين وأسلحتهم إلى الوراء . لقد كان هذا هو مال المحاولة الثانية لإنقاذ المغرب من سطوة النظام الملكي الفردي عبر الانتقال إلى نظام ملكي برلماني ، وهذه إحدى الخلاصات الثمينة التي نصص عليها قائد هذه التجربة الثانية في عرضه أمام الأممية الاشتراكية ببروكسيل ، وهي نفس الروح النقدية الذاتية التي كان قد تضمنها النص الشهير للمهدي بنبركة المعروف عنوانا بالاختيار الثوري . وهو الأمر الذي يدعوننا اليوم إلى طرح السؤال الجوهري بشأن انتكاسة أصحاب المشروع الديمقراطي : لماذا فشل مشروع الإصلاح الديمقراطي المغربي منذ 1956 إلى اليوم ؟ وهل الخلل في المشروع نفسه أم في الحاملين لرايته ؟ وهل الأمر يتعلق فقط بمسألة ميزان قوى تحتل فيه الملكية موقع الغالب والقوى الوطنية الديمقراطية موقع المغلوب ؟ وما معنى أن يتكرر الفشل لمرات عديدة حتى يصبح مشهد الفشل وكأنه قدر لا راد لقضائه ؟ – النهاية المأسوية لسنة 2002 أو انتهاء صفقة التناوب التوافقي : لن نكون مفرطين في الوصف إذا ما شبهنا مرة أخرى لحظة التخلي عن عبد الرحمان اليوسفي كوزير أول بلحظة إقالة عبدالله إبراهيم بعد ما يقارب السنتين من تحمله لمسؤولية رئاسة الحكومة التي سيذكرها التاريخ السياسي المعاصر بأنها الحكومة التي باشرت بناء الأسس الأولى لدولة ما بعد الاستقلال . والتشابه المذكور الذي نحيل عليه بالدرجة الأولى في أن الرجلين عبرا وبنفس الدرجة عن صدق النوايا على رغبة في إمكانية صنع لحظة وطنية مشتركة بين الملكية من جهة والجزء الرئيسي المهيمن داخل صفوف الحركة الوطنية ، غير أن هذه الرغبة في الحالتين معا ستصطدم بجدار المعارضة المكشوفة من المحيط الملكي الذي لا يحبذ أصحابه بنوعية أفكارهم ونوعية مصالحهم أن يتساوى الطرفان الملكية / وفصائل الحركة الوطنية الديمقراطية ، وأن يكون لهما نفس الوزن والكلمة في رسم مسارات المغرب وآفاقه القادمة . غير أن المثير في هذين الاختبارين من الزاوية السياسية ليس الوقوف عند نتائجها المباشرة والقول " أنه لم يكن بالإمكان أحسن مما كان " ، فعبدالله إبراهيم ورفاقه فعلوا ما كان بإمكانهم فعله ؟؟ ونفس الشيء قام به عبد الرحمان اليوسفي والمتحمسين لمقاربته طيلة سنوات 1998 – 2002 ، إن ما هو مطلوب تمحيص النظر فيه : هو لماذا وقع ما وقع وكيف وقع ؟ وهل كان بالضرورة أن يتكرر المشهد نفسه لينتج الإحساس بالهزيمة ، وتفرق وتشظي القوى الحاملة لمشروع الإصلاح الديمقراطي وتساويها في الضعف والتراجع ، وأن لا ينبثق من صلبها تيار أو تيارات لها من الحنكة السياسية والعزيمة الميدانية ما يجعلها تأخذ على عاتقها تجدير الفكرة الديمقراطية وحماية الوسائل والأدوات المؤذية إليها ( حركة جماهيرية سياسية وميدانية واسعة ) وكذا استئناف نهوضها في حالة الكبوة والأزمة ؟؟؟ إن الذين اعتبروا أن أزمة المشروع الديمقراطي ، وأزمة اليسار عطفا عليها قد دشنت فترة تصاعدها " بالنهاية المأساوية " لسنة 2002 يخفون في العمق كثيرا من الحقيقة ويقدمون الأمر كما لو أن لا مسؤولية لنا ( هم ونحن ) ( موالاة ومعارضة ) في هذا الإخفاق ، فكما لو أن القضية هي قضية سوء تقدير بالنسبة لنا وبالنسبة للملكية هي قضية انقلاب على اتفاق جرى بين عبد الرحمان اليوسفي والملك الحسن الثاني ، وأن أصحاب " العهد الجديد " لم يعودوا بعد أن تصلب عودهم ومرت مراحل خلافة الملك بسلم كبير ، معنيين بذلك الاتفاق . والحال أن ما يستوجب المسائلة في هذا السياق ، هو هل كان هناك فعلا اتفاق قد حصل بالفعل ؟ اتفاق بالمعنى التاريخي ، مكتوب ومعروف وحصل عليه نقاش وطني وضح الأسس ورسم الضمانات وحدد الأفاق وبين معالم المشروع الوطني المغربي الذي ستأتلف عليه الدولة والمجتمع ؟ والخلاصة الكبرى أن تسوية 1996 و1998 التي خاضتها جزء مهم من فصائل الحركة الوطنية الديمقراطية ، لم تفض كما كان مأمولا إلى وضع الأسس الموضوعية والسياسية والمؤسساتية التي تصنع التناوب أو التداول السلمي والديمقراطي على الحكم ،ودون أن تتمكن في ذات الوقت القوى التي عارضت هذا المنحى خصوصا تيارات اليسار الراديكالي أن تتبلور كحركة معارضة وذات نفوذ جماهيري ، وما يطرحه ذلك من أسئلة وإشكالات ترتبط لحد كبير بالمنظور الإستراتيجي والرؤية السياسية والبرنامجية التي أطرت عمل هذه الحركة الديمقراطية التقدمية واليسارية مجتمعة ، بما فيها منظورها لإستراتيجية النضال الديمقراطي . وبالمحصلة ينعقد المؤتمر إذا في طل تحولات جوهرية في المعطيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي حكمت المراحل السياسية السابقة - وفي ظل معطيين سياسيين مترابطين بالغ الأهمية ، تقف فيه الدولة على عتبة اقتحام مرحلة سياسية جديدة في الأداء وفي العلاقة مع مكونات المشهد السياسي وفي تثبيت نفسه النظام السياسي الذي ساد في المراحل السياسية السابقة ، وتقف فيه القوى الديمقراطية وهي في منتصف الطريق عاجزة حائرة ومترددة - ولا يمكن نهائيا لحزبنا أن يستشرف منظوره لمعالم المرحلة السياسية الحالية دون أن يستوعب أهمية هذه التحولات وأن يأخذها بعين الاعتبار من أجل بلورة التوجه والنظرة الجديدة لمسار تطور المغرب في أفق ذات المهمة التاريخية المطروحة استكمال مهمة بناء الدولة والمجتمع الديمقراطيين ، إنها المهمة التي يجد الحزب نفسه أمامها ، ولا يشفع له وضعه الذاتي ولا حجمه في الخريطة السياسية أن يدير لها الظهر ويكتفي أو يستبطن أن حجمه وقوته في المشهد السياسي لا تتطلب منه أكثر من الحفاظ على الذات . السياق السياسي الذي ينعقد فيه المؤتمر انتخابات السابع من شتنبر لحظة مفصلية في نظرنا لا تنفصل هذه المحطة عن ما سبقها ، فهي بالنسبة لنا كانت التتويج الميكيافلي لأطراف من الدولة وهي تشعر أن لحطة ضعف الحركة الديمقراطية واليسارية تمنحها فرصة دفع عجلة التاريخ السياسي المغربي الراهن في اتجاه يقضي أو يقلص إلى درجة قصوى أي إمكانية أخرى لانتصار المشروع الديمقراطي .ولقد ساعد في غلبة هذا المنحى الكيفية الرديئة التي أدار بها من خلفوا غياب عبد الرحمان اليوسفي أشواط الصراع السياسي ليصبح البقاء في الحكومة بمبرر استكمال أوراش الإصلاح وبلغة المنهجية الديمقراطية غاية في حد ذاته ، بل أهم وجوهر كل الغايات . لقد شكلت انتخابات السابع من شتنبر لحظة مفصلية في الحياة السياسية المغربية ،لا بسبب العزوف الانتخابي الذي تميزت به ، ولا بسبب فقدان الحركة الديمقراطية والتقدمية لنسبة مهمة من جمهورها رغم أهمية ذلك في سياق التحليل ، وإنما باعتبارها كشفت بشكل لا غبار عليه عن انتهاء معادلة سياسية كانت في جوهرها قد تأسست على معطى تاريخي جعل من الحركة الوطنية بكل امتداداتها ، و القصر الطرفين الأساسيين في أي تحول يمكن أن تدخله البلاد . وبات واضحا مع كل التجارب التي حدثت في سياق التفاهم مع هذه القوى انه لم يكن في جوهره ينم عن أية إرادة سياسية لنقل المغرب نحو الديمقراطية الحقيقية ، و بأن التوافق كما أجريت فصوله منذ بداية التسعينات إلى تاريخ تشكيل حكومة عبد الرحمان اليوسفي ، لم يكن في أحد أهم عناصره يريد غير تطبيع علاقة الحركة الديمقراطية التقدمية بالأحزاب الإدارية ومنح الشرعية لهذه الأخيرة باعتبارها احتياطيا يضمن لحكومة التناوب ما يسمى بأغلبيتها . ولم يكن التوافق يعني سوى إدخال هذه القوى لمربع ضئيل في لعبة السلطة وإنهاء حالة الاعتراض السياسي الذي طبع سلوكها المنازع منذ الاستقلال ، وتحويل ذلك التوافق من طابعه الإيجابي العام لتوافق سلبي غير منتج مع المتنفدين داخل الدولة والمفسدين الراغبين في حماية مصالحهم وشبكاتهم الزبونية والامتيازات غير المشروعة التي راكموها بسبب غياب الديمقراطية وقواعد المحاسبة والمسائلة ، وهم اليوم يضعون المغرب مرة أخرى أمام الباب المسدود . لقد كان من الممكن بعد وفاة الملك الحسن الثاني واعتلاء ولي عهده الملك أن يشكل هذا الحدث انعطافة حقيقية في الحياة السياسية المغربية ، وأن يتم مواجهة الإرث الثقيل الذي خلفه العهد السابق ، إلا أن هذه الانعطافة لم تحدث ، وهذه المراهنة لم تتحقق وأن الانفراج السياسي الذي حدث سرعان ما تم طيه بل والأهم من ذلك نحن نعيش اليوم اختلالا حقيقيا في موازين القوى بسبب أن جزءا هاما من الحركة الديمقراطية قبل بما هو دون الحد الأدنى الذي تبلور في برنامج الكتلة في بداية التسعينات والذي اصطلح عليه ببرنامج الإصلاحات السياسية والدستورية و قبلت التعايش والقبول بالأمر الواقع الذي يعطي للمؤسسة الملكية الدور المحوري والأساسي والوحيد في العملية السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لقد حافظ الحزب على جزء هام من الدور الاعتراضي ، وظل عموما متمسكا بالمدخل السياسي والدستوري وإصلاح النظام السياسي المغربي كفتح لا غنى عنه لتدشين سيرورة نهضة مغربية على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، إلا أن هذا الاعتراض ظل اعتراضا مبدئيا غير مسنود بحركة جماهيرية متعددة الروافد والرؤى هي جزءا من ذلك الاعتراض وسنده الحاسم . أزمة اليسار أزمة الحركة الديمقراطية ... - جزء من أزمة المشروع الديمقراطي - ينعقد المؤتمر في ظل وضعية عنوانها الأساسي ضعف وهامشية الحركة الديمقراطية والتقدمية واليسارية ، فإضافة لفقدان هذه القوى لجزء هام من شعبها خلال الانتخابات الأخيرة ، وإضافة لتشتت أغلب أدوات الدفاع المدني التي كان لهذه القوى دور هام وأساسي في استنهاضها . إضافة إلى ذلك كله تعيش هذه القوى وضعية لم تكن مسبوقة تتمثل في تأكل تنظيماتها وفي تراجع تأثيرها وفي ضبابية عروضها السياسية وفي ازدواجية سلوكها بين ما تدعيه وما تمارسه حقيقة . بل الأنكى من ذلك افتقاد قياداتها وقسم كبير من قواعدها للبوصلة وللرؤية البعيدة التي صارت مطلبا نظريا وعمليا داخل محيطها القريب بمناضليه وعاطفيه الذين توسعت أسئلتهم وتوسع قلقهم . إن هذا الوضع الذي لم تعد تخفى سماته على أحد هو ما تواضع جميع المناضلين اليساريين اليوم على تسميته بوضع أزمة اليسار وأزمة الحركة الديمقراطية . مع العلم –وهنا يجب التوضيح – أننا حين نتحدث في هذه المساهمة عن أزمة اليسار فإننا نرى انه من الواجب النظري أن نميز بين أزمة اليسار وبين أزمة الحركة الديمقراطية . فالأولى في اعتقادنا ذات طبيعة إيديولوجية سياسية ، أما الثانية فبحكم شمولها لتيارات مجتمعية أخرى ليست بالضرورة من طبيعة يسارية فإنها ذات جوهر سياسي ومجتمعي . وللأسف فإن قوى اليسار بعموم مشاربها لم تستطع أن تقيم الفاصل بين الأمرين وهو ما ينطوي في نظرنا على ما يشبه الخدعة النظرية والسياسية التي ستنعكس على ممارسة اليساريين وهم يتناولون موضوعة أزمة اليسار وأزمة الحركة الديمقراطية. صحيح أن قوى اليسار تاريخيا هي القوة السياسية التي كلفت نفسها قبل الآخرين بمشكلة الديمقراطية في بلادنا ونذرت ذاتها للنضال العسير والمكلف معنويا وماديا في ظل نظام استبدادي فردي من أجل رفع راية الحق في بناء الدولة الديمقراطية ...لكن هذا لا يعني بتاتا أن قوى اليسار من الزاوية السوسيولوجية الموضوعية هي وحدها المعنية بهذا المطلب . فهناك قوى أخرى كامنة لها نفس المصلحة فكريا وطبقيا في إنجاز هذه المهمة ، ومن أهم هذه القوى ما كنا نصطلح عليه في أدبياتنا اليسارية بالبورجوازية الوطنية أو في ما صارت أدبيات علم السياسة تصطلح عليه بالطبقة الوسطى. إن القول بأن أزمة اليسار المغربي هي أزمة إيديولوجية وسياسية يعني أن هذا اليسار لم يعد قوة وضوح في مجال الفكر السياسي وفي مجال وضوح انتمائه للإيديولوجية الاشتراكية ذات النفس الكوني كما كان في الماضي ، على الرغم من تفاوت تقييماتنا لذلك الماضي ، بحسناته وبأخطائه الصغرى والكبرى . وحتى تتوضح صورة ما ندعيه نسارع إلى ذكر الأسباب التي أدت إلى ذلك . إن بقاء قوى اليسار المغربي - بعد سقوط جدار برلين وتفتت دول المعسكر الشرقي السابق - بعيدة عن الاجتهادات الإيديولوجية والعلمية التي تفجرت أوراقها وكتاباتها في كل بقاع المعمور جعل منا كعائلات اشتراكية مغربية صوتا خارج السياق الاشتراكي العالمي واجتهاداته ، وبالتالي حولنا ذلك الابتعاد إلى مجرد قوى سياسية تمارس السياسة بغير معرفة . وهو ما خلق انطباعا لدى الرأي العام بأننا صرنا كباقي القوى الأخرى التي لا فكر لها تقدمه في السياسة . لقد شاهدنا في لحظات نضالية عديدة كيف تشابه على الناس مشهدنا ونحن ندعو الناس إلى التصويت على لوائحنا بمشهد قوى من اليمين ومن الوسط تتكلم نفس الكلمات وتدعو لنفس البرامج . وقد زاد من تعميق نتائج هذا الابتعاد ذلك الفقر المريع في إنتاج الأفكار على الصعيد الوطني اعتمادا على كفاءات أطرنا واعتمادا أيضا على ما تبلور كاجتهادات في الماركسية نفسها . أما عن أزمة المشروع الديمقراطي فالتحليل يجب أن يأخذ بعده السياسي والطبقي ، ففي تقديرنا كل حديث عن مشروع ديمقراطي بدون وجود حركة اجتماعية قوية تسنده حديث مجرد يسقطنا كفاعلين سياسيين في أخطاء قاتلة تصور لنا أن المعركة من أجل الديمقراطية معركة نخب معزولة وليست قضية بشر على الأرض ينتمي إلى مواقع اجتماعية وإلى قيم فكرية تنحاز إلى الاختيار الديمقراطي أو تعاديه . كما أن هذه المقاربة تعوقنا على صعيد الممارسة ألا نعطي القيمة الكبرى لمسألة التحالفات التي هي واحدة من أثمن المداخل الضرورية لممارسة السياسة المؤثرة في الواقع وفي أحداثه وفي مجريات تحوله. ولا نخفي سرا إذا قلنا أن هذا التمثل المثالي اللامادي اللاتاريخي للمعركة الديمقراطية هو من أحد الأصول التي تفسر أزمة المشروع الديمقراطي في المغرب وعدم قدرة الديمقراطيين المغاربة بمشاربهم الفكرية والاجتماعية المختلفة على جعله عنوان انتقال المغرب من زمن الاستبداد المزين إلى زمن العصر الحديث زمن المؤسسات والديمقراطية. وعليه فإن الكلام عن أزمة المشروع الديمقراطي ستقتضي منا أن نفتح العين على مجمل الخريطة الاجتماعية لنقرأ حاله قواها ومكوناتها ونفكك العلاقات القائمة بينها لعلنا نصل إلى تشخيص علمي بالأرقام والمؤشرات يهدينا في نهاية المطاف لمعرفة من هم أصدقاء وحلفائنا في هذه المعركة ومن هم الخصوم والأعداء فيها . إن تعاطيا كهذا سيعيد الاعتبار للقيمة الخلاقة للتحليل الاشتراكي الذي تعلمنا منه منذ بدايات علاقتنا بالسياسة ، أن السياسة لا يستقيم معناها إلا بربطها بمسالك الاقتصاد ومسالك المجتمع . - من سوء حظ حركة اليسار المغربي أن الأزمة التي يعيشها الحقل السياسي المغربي هي أزمة مزدوجة هي أزمة يسار وأزمة حركة ديمقراطية ، فعلى عكس مجموعة من التجارب العالمية التي لا تكون فيها أزمة الطرف الأول تعني في نفس الوقت أزمة الطرف الثاني بالضرورة أو العكس صحيح حيث تكون أزمة الطرف الثاني لا تلقي بظلالها على الطرف الأول فإن حالة المغرب تتجمع فيها معطيات الأزمتين معا . وهو ما سيفيد بأن جدول أعمال النضال السياسي والاجتماعي عسيرة ومليئة بالمهام التي ستتطلب التسلح بذكاء تاريخي ثاقب ومطابق لحاجيات بلد يحلم بناته وأبنائه بأن يعيشوا على أرضهم بكرامة وفي رخاء . - إن المشروع الديمقراطي المغربي الذي ظل يراوح نفسه المكان بعد أزيد من نصف قرن ، وبعد كل التجارب الكفاحية التي خاضتها القوى الحاملة لهذا المشروع ، و ما راكمته من دروس وخبرات ثمينة تجد نفسها اليوم وهي لم تتمكن من تحقيق أهدافها الأساسية . إن المؤتمر ملزم أن يجري تقييما شاملا وموضوعيا ، لا لما سطرته هذه القوى كأهداف وشعارات فقط بل أيضا وضع الممارسات على مشرح الدرس ، وذلك بغية الوصول للأسباب الرئيسية وللأعطاب الجوهرية التي قادت هذه القوى للوضع البئيس الذي وصلت إليه ، إن النقد والنقد الذاتي المفروض اليوم لا يستهدف تصفية حسابات ولا تسجيل نقط على أحد ، إن هدفه الأساسي هو التقدم في الخروج من وضعية الاستمرارية المطلقة لصالح بدايات قطيعة أو قطائع . إن الاستمرار في التمسك بنفسها الممارسة ، والاستمرار في نفس الادعاء والقول المكرر أننا غير مسؤوليين عن فشل المشروع الديمقراطي ، و رمي الكرة في اتجاه الأخر معناه لا فقط تقوية منطق الاستمرارية وإنما الحكم علينا بالتلاشي والانقراض . إن الطموح يفرض أن نضع حزبنا في قلب مهمة إعادة تأسيس المشروع الديمقراطي بمختلف أبعاده السياسية والاجتماعية والفكرية والثقافية ، وهي مهمة قبل أن تكون في جدول أعمال الآخرين - أو أن نتصورها كذلك - هي مهمة في جدول أعمال حاملي هذا المشروع والمدافعين عنه ، وهي مهمة قبل أن تكون محض مهمة عملية هي اليوم تأخذ في جزئها الغالب أبعادا تأسيسية فكرية . إن إعادة الأمل للمشروع الديمقراطي وخلق أوسع التفاف حوله لا يمكن إنجازها خارج هذا المجهود الفكري التأسيسي , إن توضيح هذا المشروع وإعادة تعريفه يمر بالضرورة عبر إعادة تعريف اليسار كجزء من هذه القوى بل أحد أهم مكوناتها . - ومن هذا المنطلق فإن لليسار هوية تميزه عن اليمين وعن المحافظين ، إن الوضوح يقتضي القول بكلمة بسيطة إن اليسار هو المستقبل بكل ما يعنيه هذا الانتماء للمستقبل من جرأة في الدفاع عن قيم الحريات وبما فيها طبعا الحريات الفردية ، وبكل ما يعنيه من جرأة في مواجهة دعاة العودة للماضي ودعوات الانغلاق والتطرف والشمولية ، إن اليسار هو التحيز للضعفاء ولصالح عدالة اجتماعية بكل ما يستلزمه ذلك من شجاعة في الجهر وفي مواجهة كل مظاهر الرشوة واقتصاد الريع ومظاهر البذخ والمزاجية في تحديد الأولويات الاقتصادية لهذه البلاد ، وبكل ما يعنيه أيضا من جرأة في مناهضة الاحتكار وتوظيف الشرعيات الدينية والتاريخية والسياسية للاستحواذ ومركزة الثروات والتهرب من الضرائب ، وبكل ما يعنيه ذلك من مواجهة مفتوحة مع الفاسدين والمفسدين الذين ينهبون المال العام ويستفيدون من أوضاع اختلالات توازن المؤسسات ، وغياب سلطة القضاء ، واليسار يحترم التعدد ويقدر التنوع بكل ما يعنيه ذلك من جرأة في مواجهة الهويات المنغلقة والوطنية الشوفينية ، واليسار ديمقراطي ومنسجم مع الديمقراطية حتى حدودها القصوى ، بكل ما يترتب على ذلك من جرأة في مواجهة الاستبداد والحط من كرامة الناس أيا كان مصدرها وكيفما كانت حيثياتها وأسبابها . إن إعادة تعريف وتحديد هوية اليسار والممارسة على أساسها ليست مهمة ترف فكري وثقافي ولا هي نزوع أكاديمي بحث كما يعتقد البعض ، إنها جزء لا يتجزأ من إعادة بناء مشروع الانتقال نحو الديمقراطية والحداثة . - إن مستقبل اليسار اليوم يكمن بالضبط في ماذا يمكن أن يقدم انطلاقا من هويته وقيمه لقاعدته وجمهوره ، وفي نفس الآن هل سيقتنع جمهوره وقاعدته الاجتماعية المفترضة بأن هذا اليسار – بعد تجربة كل هذه العقود – قادرا على إنجاز ما يقترحه على هذا الجمهور ؟ إن هذين السؤالين يثيران أيضا جملة من الأسئلة التي تتفرع عنهما . أبسطها وأعقدها في نفس الآن ما هي انتظارات جمهور وشعب اليسار ؟ وهل يعرف بالضبط هذا الجمهور انتظاراته من أحزاب اليسار؟ ؟ وفي هذه الحالة كيف يمكن لأحزاب اليسار وحزبنا ضمنها أن تحدث هذا الربط ؟ و أمام هيمنة التفكير في وهم الهوية الصافية النقية واعتبارها في أحيانا كثيرة أكبر من الدستور الديمقراطي ومن الصحة والتعليم هل وضعا كهذا يشكل عائقا أمام اليسار المغربي ؟ وما أسباب ذلك ؟ .