تكثف هذه الأيام النقاش حول الصحافة في بلادنا، وأقيمت ندوات ومناظرات وبرامج تلفزيونية، كما صدرت تقارير وطنية وأخرى دولية، ونشرت عديد مقالات وتصريحات وتغطيات، ولم ينج كل هذا الحوار طبعا من تطفل كثير من الأدعياء، كما اختار بعض المتدخلين الإصرار على كلام معلق في السماء بلا معطيات أو منطق ... إن الحديث عن الصحافة اليوم يقتضي أولا التزام صراحة الكلام ووضوح التشخيص والرؤى من لدن الجميع، وبدون هذا الشرط المبدئي سنواصل الاستماع دائما إلى المدعين والمزايدين وإلى الذين لا يخجلون... لقد حدث توافق واسع منذ سنوات بأن تطور القطاع»الصحافة المكتوبة أساسا» يجب أن يتم ضمن بناء مقاولاتي مهيكل وعصري وشفاف، وهذا يعني، ترتيبا، بلورة نموذج تمويلي»وبنكي» واقتصادي يتيح تأهيل القطاع تأهيلا حقيقيا، وهذه مسؤولية الدولة»الاتصال، الاقتصاد والمالية وغيرهما»، والقطاع الخصوصي، والأبناك، بالإضافة طبعا إلى المقاولات الصحفية. وقبل سنوات أيضا، وفي عشرات المرات، كان جرى تشخيص مشكلات القطاع واختلالاته، وصارت كلها معروفة، وهي واضحة، بالإضافة إلى مصاعب التمويل والعلاقة مع الأبناك، أيضا في التوزيع وفي كلفة الإنتاج وفي النظام الضريبي، وخصوصا في الكوارث المستشرية في مجال الإشهار والعلاقة مع المعلنين. وإن النجاح في تجاوز هذه الاختلالات البنيوية سيساهم في تطوير مقاولات صحفية مستقرة ومهيكلة قانونا وتدبيرا، وتكون كذلك متينة ماليا واقتصاديا، ما سيجعل حينها الحديث ممكنا عن قطاع اقتصادي حقيقي بإمكانه أن ينتج وينمو. من جهة ثانية، وعدا نظام الدعم العمومي، الذي تحكمه مقتضيات قانونية واضحة ومعروفة، فإن باقي تجليات تمويل الصحف أو دعمها تتطلب اليوم شفافية كبيرة، وهذه هي المعضلة الخطيرة في مهنتنا هذه، أي المال غير الواضح. بعض الذين اشتهروا بيننا بأفواههم المفتوحة وبكثير من صراخ المزايدة يصابون بالخرس متى ووجهوا بهذا الموضوع، بل وحتى لما نشرت مؤخرا معطيات تعدى صداها الحدود الوطنية، وجرى ذكر الأسماء والمبالغ والسياقات لم يرد المعنيون، وحين اعترف بعضهم إما بتلقي الأموال المخملية أو ببداية الحديث حولها لم نسمع عن تحقيق قضائي معهم أو بحث في تصريحاتهم، وبالتالي ترتيب المقتضيات القانونية ذات الصلة، ثم عندما يخرج فاعل سياسي أو غيره ليقول بأن هذه الصحيفة أو تلك تسلمت منه أو من غيره هذا المبلغ أو ذاك، أيضا لا نشاهد ردا قانونيا أو إداريا عما قيل، وعندما تنكشف فضائح يتورط فيها هذا الاسم أو ذاك من أشباه المنظرين و»بياعي الكلام» فالملفات تطوى ولا أحد يخبر المغاربة بالمآلات، تماما كما يحصل عندما لا تعرف مآلات الغرامات المحكوم بها ومصير التنفيذ، وكل هؤلاء الملتصقين بهذه الفضائح والورطات يجب على الأقل أن يخجلوا اليوم ويريحونا بصمتهم، كما يجب على من»صنعهم» ويوجههم من وراء ستار أن يتجرأ ويخبر المغاربة عما استفادوه من هؤلاء، وعما جنته البلاد وقضاياها من وراء الأموال التي التهمها هؤلاء. ليس مهما إذن»تخراج العينين» في وزير الاتصال أو رمي كلام غير مسؤول في وجهه كما فعل رجل أعمال لا يكل في البحث عن مكان تحت الضوء، ولكن الأجدر اليوم بعدد من هذه الأسماء المتربصة بالنقاش المهني أن تسمي الأشياء بأسمائها. ما معنى اليوم هذه الحرب المفاجئة حول أرقام المبيعات؟ ولماذا لا تتدخل السلطات الإدارية ذات الصلة للبحث والتحقيق في هذا الذي يقال عن الموضوع، وكان قد قيل مثله أو أكثر قبل شهور؟ وأيضا ما معنى أن يردد الكثيرون بأن حجم المبيعات شرط لتوزيع الإشهار، وفي نفس الوقت نرى عناوين لا تكمل عامها الأول وقد ملأت نصف صفحاتها بالإشهار؟ مرة أخرى نعود للقول بأن صحفا وطنية تملك أصلها وتاريخها وهويتها ومرجعياتها ووضوحها هي التي تتميز اليوم بحرصها على الأخلاقيات، وتجتهد في توفير الموارد لتمنح مستخدميها رواتبهم ومستحقاتهم المادية والاجتماعية، كما أنها بالرغم من ثقل ما تراكم عليها من ديون ومصاعب، وبالرغم من اختلالات التنافس وتفاقم الريع والتمويل من تحت الطاولة لعدد من المدعين، فهي تصر على الاستمرار، وعندما تكون البلاد في حاجة إليها، تحضر بقوة خطابها وبعمق تجربتها ومصداقيتها. ومن حسن حظ البلاد أن هذه العناوين المتمسكة بجديتها وتاريخها لم تمت ولم تنقرض، لأنه لو قدر الله ذلك لاستفرد الأدعياء والمرتشون بالبلاد وقضاياها. هذه المهنة تحتاج اليوم أن تكون كل العيون مفتوحة، وأن يفكر الجميع في دقة ما تحياه البلاد وما تعبره من مسارات، وأن يقتنع الكل بحاجة المغرب إلى صحافة مهنية فعلا وجدية ووطنية حقيقة، وتكون ذات ارتباط وتفاعل مع واقع البلاد ومع أفقه الديمقراطي. رجاء، بلا سطحية نقاش أو... «سنطيحة» في الكلام . هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته