السجال الذي فجرته رسالة ناشر(الأيام) إلى مدير عام(سابريس) وبلاغ هذا الأخير حول ذلك، ينبهنا مرة أخرى إلى حاجة مهنتنا إلى كثير نقاش صريح وشجاع فيما بيننا وعلى مستوى المجتمع برمته. لم نكن نتمنى أن يتطاير هذا السجال بمثل هذا العنف في الكلام والتعبير وتبادل الاتهامات، ولكن وددنا لو جرى طرح موضوع توزيع الصحف وآلية مراقبة الانتشار، بشكل هادئ ورصين بين كل المعنيين، وأن ينطلق الجميع من الوقائع الملموسة والدلائل، وأيضا من الرفض المبدئي لكل عمليات التحايل من أجل النفخ في حجم المبيعات، والحرص على الالتزام الجماعي بقواعد الشفافية والمنافسة الشريفة والخضوع لحكم السوق، والعمل من أجل تقوية وشائج الثقة بين أطراف العملية الإنتاجية في المجال الصحافي، وتقنين العلاقة التي تربطها من الناحية الأخلاقية والمهنية والاقتصادية. وبغض النظر إذن عن أشكال التعبير واللغة المستعملة، فان كثير حديث جرى في مرات عديدة عن هذا(التحايل) نفسه، وعن اتفاقات ومنافع تتم تحت الطاولات من أجل تيسير ذلك، كما أن منشورات تولد وهي أصلا ممتلكة لكل شروط الثراء المالي غير المفهوم، وكل هذا يعرفه أهل القطاع، وتتكلم عنه صالونات الدارالبيضاء والرباط بالوقائع والأسماء والألقاب. من جهة ثانية، فان الريع لا يتجلى هنا فقط، وإنما أيضا في أسلوب تعامل مؤسسات اقتصادية مستشهرة، خصوصا في قطاعات العقار والاتصالات والسيارات وغيرها، ومقاييس إغداق الأموال الطائلة عن هذا وإغلاق الأنبوب عن ذاك، والفوضى المستشرية في تعامل كثير من وكالات الإشهار والإعلان الوسيطة مع الصحف، وأحيانا تطبق بعض المؤسسات العمومية بدورها هذه الأساليب الريعية والمزاجية في التعامل مع الصحف، وهنا يوجد الاختلال الكبير الذي يتسبب في (التحايل) وفي(النفخ في الأرقام) الذي يتكلم عنه اليوم نور الدين مفتاح. إن صحافتنا الوطنية يجب أن تتطور عبر مقاولات صحفية متينة وواضحة، ومن خلال نسيج مقاولاتي يحيا ضمن الشفافية، وقواعد الحكامة الجيدة، وأيضا في إطار دولة القانون وبمنظومة اقتصادية وبنكية وجبائية ملائمة لقطاع الصحافة والإعلام، وفي إمكانها أن تؤمن له التأهيل والتقدم. الأمر إذن ليس مرتبطا فقط بالنجاح في رهان تجويد التشريعات ذات الصلة، وإنما أيضا بتطوير النموذج الاقتصادي والمقاولاتي، ثم بامتلاك الإرادة السياسية القوية لتطهير القطاع، وإعلان قرارات وخطوات وبرامج متكاملة وشجاعة بلا ريع أو (دوباج)، أي بجعل السلطة السياسية تقف على نفس المسافة من كل الفاعلين، ويكون سوق الإشهار والإعلانات واضحا ومنظما ومقننا . إن المغرب في حاجة اليوم إلى صحافة جادة حقا، ورصينة وممتلكة لشروط الحياة والنمو، وليس إلى منشورات منفوخ في حجمها، ولا تعمم سوى التسطيح، وعند أول رهان وطني نجدها على هامش الانشغالات الحقيقية لبلادنا وشعبنا، وأحيانا ضدها.