لطالما تحدثتْ أمي مع الأشياء والمخلوقات وعاملتها كما البشر؛ فأمي تتخذ إجراءاتٍ تخصّها وحدها عندما يَحْرِن صَّاج العواسة* ويخرب لها كِسرتها (فطائرها) بأن يمزِّقها أو يلصقها به أو تُصبِح شديدة الطراوة والليونة مع بقايا العجين على سطحها. مشاكل الصَّاج عادةً إما لحاجته إلى قطرة زيت تُمسح به وتُطوعه، أو لانخفاض درجة الحرارة، أو لارتفاعها بسبب تراكم الحطب والجمر تحته. هذه المشاكل حلولها بانتفاء أسبابها، لكن لدى أمي فالحلول مختلفة كما هي تفاسيرها؛ فالصَّاج يُصبح متمرداً، عنيداً وقليل الأدب ويحتاج للتقويم، يكون ذلك بالتحدث معه بلهجة صارمة متوعدة، وإن لم يستجب، تقوم وتُحضر المدق وتضربه به على أم رأسه مهددة بتهشيمه له. وللغرابة فأن الصَّاج بعدها يؤدي مهمته على الوجه الأمثل. ولطالما تحدثتْ أيضاً مع الأباريق، والأبواب، كذلك مع الحليب عندما تضعه على النار وتحذره من الفوران إن هي قامت لقضاء أمرٍ ما، وهي تخاطب البعوض، والنمل وتخشى نوعاً معيناً من النمل هو النمل الطائر (أبْ رِيش) كما نسميه، ولأنها تخشاه فهو غالباً ما يلسعها ولسعته مثل الجمر الأحمر، وكذا تخاطب الفئران والقطط والضِبوب، باختصار كل تتعامل معه أو يحوم حولها في لحظةٍ ما. فالفئران المختبئة والمتربصة والسريعة التي تنقض، تخطف، وتعود لجحرها قبل أن يستطيع أحدٌ منا -نحن المتواجدين في المطبخ- تحديد كيفية إبعادها: بفردة حذاء أو ملعقة أو بغطاء أقرب قِدر إليه! عندما يقرر بعد تلك الحيرة يكون الفأر قد اختفى في جحره يستمتع بغنيمته. تقول له أمي: شيل من الواطة (الأرض) دي العاوزو، لكن أوعك ألقاك يوم جوَّه حلة أو بتفتح فيها، ح يكون آخر يوم في عمرك. مع هذا، ولأن القطط ليست فئراناً؛ وجدتْ ابنة أختي قبل أيام القطة وهي تحاول فتح قدر وجبة الغداء، وكانت لتكون كارثة. لكن إن فشلت محاولة القطة هذه المرة، فقد نجحت في مرةٍ سابقة. حدث ذلك عندما وضعتْ فائقة أختي كيس الخُضار واللحم على الأرض الترابية، وخرجت من المطبخ لتُحضر بعض الماء، فجاءت القطة وخطفت اللحم وشرعت في الهرب في ذات اللحظة التي دخلت فيها فائقة ورأتها، جرتْ خلفها تلاحقها رافعة فردة حذائها وتصرخ: - بِسْ.. بِسْ.. بِسْ، الكديسة الملعونة دي خطفت اللحمة! فحضر ابنها الصغير وطارد القطة. بعد عشرة دقائق جاء بقطعة من اللحم تفضلت بها القطة بعد أن شبعتْ وتركتها في المخزن معفّرةً بالتراب. غالباً ما نكون مع أمي في المطبخ أثناء إعدادها الطعام وحواراتها مع الأشياء حولها. تجلس أمي على المقعد القصير وتضع أوانيها قربها، وبجانبها ترقد قطة أو أكثر في انتظارٍ قلقٍ لرزقها. نتندرُ نحنُ ونضحك على أنسنة أمي للأشياء والكائنات ولا نجزم تيقناً من أن الاستجابة تحدث، مع أن بذور الشك تكون منثورة داخلنا، لكنها ترفض ضحكنا وتشككنا وتؤكد أن للأشياء حياتها وروحها وحسّها، بل لها آذان أيضاً! من عاداتها أن تصنع شاي الصباح على موقد الفحم؛ لأنها تقول: إنه أطيب وأكثر حلاوة من شاي البوتوجاز السريع والخالي من المتعة. ذات صباحٍ خريفي كان كل شيء مغطى بحبيبات الندى الرقيقة، عدا الأرض فقد كان يغطيها الطِّين والوحل؛ لذا كنا نسير حافييّ الأقدام، تغوص أقدامنا في نعومة الطِّين ويخرج من بين أصابعنا مثل العجين من فمِ الخلاط. في الليلة السابقة كانت قد نسيتْ الفحم والورق وقطع الكرتون في الخارج فابتلَّ معظمها. أحضرتْ أمي الموقد ووضعت الفحم عليه وحشرت الورق وقطع الكرتون من فتحته بالأسفل. وبدأت بكل طاقتها تخبر نفسها والورق والفحم بأنه جاف وسيشتعل، ثم أشعلت عود الثقاب. وبالطبع لن تصدقوا إن قلت إن النار اشتعلت في الورق، إلا أن هذا ما حدث. بدأ الورق في الاشتعال ليس من المحاولة الأولى، إنما مع عود الثقاب الرابع. إثر نجاح محاولاتها في التودد إلى الأشياء أو الإيحاء لها أو تهديدها فهي عادة ما تبتسم وتلتفت إلى من بجانبها وتقول بفرحٍ وانتصار: - ما قلت ليكم! قبل مدَّة أنجبت القطة داخل الغرفة، وأقامت مع أبنائها الثلاثة عند الزاوية تحت السرير. أمي هي الوحيدة التي لم ترَ القطة أو أبناءها، مع أن لكل واحد منا قصة مع هذه الأسرة السعيدة. ذات يوم دخلتُ الغرفة وشعرتُ بشيءٍ ناعم مخملي يلامسني ويتحرك تحت أقدامي، صرختُ وقفزتُ وطفر قلبي معي، وحطَّ عندما وضعت قدمي مرة أخرى على الأرض، حينها سمعتُ مواءً واهناً من تحتي؛ فقد وطأتُ على ذيل أحد الصغار. وحدث نفس الشيء مع أختي عدا أنها لم تطأ ذيلاً. كان هذا الفزع في أيام الولادة الأولى، ولكن عندما تعودنا على الأمر وتعودوا هم وتعايشنا معاً، أصبحنا نرى الأم مستلقية على البلاط البارد قرب المنضدة وهي تمارس دورها الأمومي الأزلي في إرضاع الصغار، أو يلعبون هم حولها وينتشرون في أرضية الغرفة. أثناء استعدادي للخروج لعملي تكون معي ابنتي رغد تضع هذا، تأخذ ذاك وترمي تلك، وتكون معها صديقتها توته بنت الجيران وأسرة القطة، أحدهم يرضع والآخر يتمشى والثالث يلعب مع رغد ذات العام والنصف، ولأن الخوف إحساس لم تدركه -على الأقل من القطط النفساء- لا تكتفي بمن يلعب معها وفي غفلةٍ مني تذهب لتلمس الرضيع وهو في حضن أمه. تنبهني توته: - يايا.. يايا.. سوفي يغد. لا تستجيب رغد لتحذيري، أخشى عليها شراسة الأم، إلا أنها لا تهبّ فيها، فأخالها نائمة، لكن أهي فعلاً كذلك؟ ذلك اليوم هو اليوم الوحيد الذي صادفتْ فيه أمي القطة وكانت دوما ما تنبهني: - أعملي حسابك من الكَدِيسة دي ما تخربِش رغودة! وجدتْها في مكانها الأثير قرب المنضدة تُرضع في صغارها، نظرت في عينيها وقالت: - ولدتي وحمد لله على السَّلامة. إنتي وأولادك قاعدين جوه هنا ما سألناك ولا طردناك ولا عارفين بتعملوها وين! ثم أردفتْ بحسم: - فترة النفاس انتهت، وأولادك كبروا شوية، لِمِّي أولادك وأمشي مكان تاني لا نضرك ولا تضرينا! وجاءت الجملة الأخيرة تحسباً من أن تكون القطة مُتلبسة بأرواحٍ شريرة فتنتقم كردِ فعلٍ على إخراجها من الغرفة. القطة الطيبة فهمت جيداً ما قالته أمي، ورحلتْ في ذات اليوم لتسكن في المخزن القريب من المطبخ، بل يمكن لها ولأبنائها الدخول والخروج من خلال الشّباك المطل على الزقاق حيث يفتح أيضاَ باب المطبخ. وجدتُها بعد أيام من رحيلها مضطجعة على الأرضِ الرطبة في ظل الضُحى أمام المطبخ، ابتسمتُ لقدرة أمي العجيبة في الإقناع! الصغار ممددون ويلقمون بنهمٍ حلماتها الممتدة على طول بطنها، أما هي فكانت في قيلولتها أو هكذا بدا لي.