بعد مرور 53 سنة على عملية اختطاف و اغتيال المناضل الأممي المهدي بن بركة ، لا زالت الحقيقة دفينة دهاليز قصر الإيليزي و دهاليز قصر الرباط ، و لا زالت الدولتان الفرنسية و المغربية تمتنعان عن الكشف عن تلك الحقيقة ، رغم كل المحاولات القضائية و الخطوات السياسية و الدبلوماسية ، و رغم كل مطالب قوى العالم الديمقراطية و مطالب المنظمات الحقوقية ، الوطنية و الدولية ، من أجل الكشف عن الحقيقة . فكل المساعي التي تم بذلها على أكثر من صعيد لم تجد استجابة من لدن الدولتين ، الفرنسية و المغربية ، اللتين لهما المسؤولية المباشرة في ارتكاب جريمة الاختطاف و الاغتيال . الأولى أي الدولة الفرنسية التي تمت الجريمة على أرضها و بمشاركة مخابرتها. و الثانية ، أي الدولة المغربية منفذة الجريمة على يد عملاء أمنيين و عسكريين مغاربة في مقدمتهم الجنرال أفقير و الكولونيل ادليمي . كما أن المخابرات الإسرائيلية ” الموساد ” و المخابرات الأمريكية CIA لم تكونا بعيدتين عن مصرح الجريمة بل عملتا على إعداد شروط تنفيذها حسب صحيفة “يدعوت أحرنوت” الاسرائيلية التي نشرت تحقيقا في شهر مارس من سنة 2015، تحدثت فيه عن ضلوع المخابرات الإسرائيلية في اختطاف واغتيال بنبركة، وأكدت أن اسم الشفرة الذي أطلقه الموساد على قضية التعاون مع المخابرات المغربية آنذاك كان “بابا بترا” لقد ظلت الدولتان ترفضان الكشف عن الحقيقة لأنهما يعتبرانها ضمن أسرار الدولة. و هنا يطرح السؤال : فهل فعلا هناك جرائم تعتبر من اسرار الدولة حتى و إن كانت تمس مشاعر شعب بكامله و كرامة أهل و أسرة الشهيد ؟ أم أن الدولتان تخافان من محاكمة الرأي العام الوطني و الدولي ؟ أم مخافة من محاكمة المتورطين؟ و إلا فلماذا فرنسا و المغرب يمنعان القضاء من أجل اكتشاف الحقيقة ؟ و لماذا إخفاء الحقيقة و لصالح من .؟ أم هناك جهات مشاركة تضغط بدورها على استمرار التعتيم و المغالطة حتى لا تظهر الحقيقة؟ ؟. إن الأجوبة على هذه الأسئلة يجعلنا نستحضر أولا ، السياق التاريخي السياسي و الاستراتيجي الذي تمت فيه عملية اختطاف و اغتيال الشهيد المهدي بن بركة و الجهات التي كانت لها مصلحة في اغتياله ، و ثانيا المهدي و الامبريالية/ الصهيونية ثم ثالثا الدوافع التي أدت إلى اختطافه و اغتياله . أولا السياق التاريخي : إن المرحلة التي تم فيها اختطاف و اغتيال المناضل الأممي المهدي بن بركة ، أي نهاية الخمسينات و بداية الستينات من القرن الماضي ، كان يطبعها الصراع الجيوسياسي و الاستراتيجي و العسكري الذي خلفته الحرب العالمية الثانية ، بين الدول الغربية بزعامة أمريكا من جهة، و بين دول أوروبا الشرقية و دول آسيوية بزعامة الاتحاد السوفيتي من جهة ثانية ، و هو ما أصبح يصطلح عليه بالحرب الباردة ، أي حرب المواقع الاستراتيجية الاقتصادية و السياسية و العسكرية ، أو ما يسمى بتوازن الرعب . و تميزت المرحلة بتنامي حركات التحرير الشعبية في كل من أمريكا اللاتينية و آسيا و إفريقيا و التي عرفت مساندة مباشرة من قبل الدول المناهضة للاستعمار. كما كان للاشتراكية الشيوعية تأثير في بث بذور الثورة على الرأسمالية و الإمبريالية المتمثلة في دول الاستعمار الأوربي و في توسعه ، كما كانت الاشتراكية الشيوعية سببا في تنامي حركة التحرر في جميع القارات . و لقد عرفت المرحلة كذلك انتقال الحرب الباردة من أوروبا إلى دول شرق آسيا ، حيث تم إنشاء حلف في الفلبّين أو حلف جنوب و شرق آسيا ضمّ الولاياتالمتحدةالأمريكية ، و حلف بغداد الذي تم إنشاؤه عام 1955 ، و هي أيضا من الأحلاف التي شهدتها مرحلة الحرب الباردة للوقوف ضد المد الشيوعي في أسيا و في الشرق الأوسط و محاصرة الصين الشعبية ، و بالمقابل عمل الاتحاد السوفيتي على كسب بعض الدول العربية ، و إنشاء تحالف سمي بحلف بغداد باسم CENTO اختصارا ل Central Treaty Organization ). . ( ثانيا المهدي و الإمبريالية /الصهيونية : في هذه المرحلة و وسط هذه البراكين كان المهدي يتحرك بقوة على مستويين ، المستوى الأول سياسي و استراتيجي من أجل الامتداد التحرري ، و المستوى الثاني فكري و علمي من أجل مواجهة الفكر اللبرالي /الإمبريالي . أما على المستوى الأول فإن تحركات المهدي كانت تتجلى في التنقل بين الدول الداعمة لحركات التحرر و المعادية للاستعمار و للإمبريالية و للصهيونية ، مثل الصين الشعبية و مصر الناصرية و سوريا و كوبا و الجزائر ، و تجلت حركاته كذلك بمشاركته في مايو 1957 في المؤتمر الرابع لمنظمة تضامن شعوب إفريقيا وآسيا الذي حضره 500 مندوب يمثلون 35 بلدا المنعقد في أكرا ، و كذلك الاتصالات بعدة شخصيات سياسية شهيرة من بينها الزعيم الأمريكي مالكوم إكس وقائد الثورة التحررية الغينية اميلكار كابرال، الذي كان واحدًا من أبرز قادة إفريقيا الذين حاربوا الاستعمار و الذي اغتيل في 20 يناير من سنة 1973. و قد كان اللقاء التاريخي الذي جمعه بالزعيم الثوري تشي غفارة مرحلة تحول نوعية اتجاه الاختيار الثوري والانخراط في مشروع الأممية الاشتراكية . كما تعددت مبادرات المهدي بن بركة من أجل تطويق التناقضات بين العواصم العربية التي تحكمها أنظمة تقدمية . في هذه المرحلة كان كثير التحرك، ليس فقط للدفاع عن أفكاره و عن مواقفه فيما يرتبط بقضايا المعرب، و لكن كذلك لدعم حركات التحرر في الوطن العربي و العالمي. أما على المستوى الفكري فكان يعد من أبرز القيادات الثورية اليسارية في العالم و المخططين لإنجاح المؤتمر القاري الذي كان من المقرر أن ينعقد في هافانا عام 1966. وكان الاستعداد لهذا المؤتمر هو النقطة التي أفاضت الكأس بالنسبة للنظام المغربي و الإمبريالية و بداية التخطيط لاغتياله. و رغم علمه عن طريق الزعيم الصيني آنذاك ماتسيتونغ خلال زيارته للصين بمخططات الإمبريالية الهادفة إلى تصفية رموز حركة التحرر العالمية (رسالة المهدي للرئيس الجزائري بن بلة 1965 ) . لم يمنعه ذلك من الاستمرار في العمل على تقوية جبهة الأممية الاشتراكية عبر العالم و الانخراط في وضع منظومة الكفاح المشترك ضد الإمبريالية. حتى أصبح ضمن المخططين لمواجهة الاستعمار و الاستعمار الجديد و من الداعين إلى الثورات المتكاملة في المجال السياسي و دون فصلها عن الاقتصادي والاجتماعي، و هي أفكار تقاسمها و الزعيم غفارا.و من انشغالاته دراسة واقع الدول العربية التي نالت الاستقلال ، لكنها سقطت في يد الاستعمار الجديد مؤكدا بأن التفاوتات الاقتصادية و الفوارق الاجتماعية أصبحت متأصلة بالمنطقة العربية بفعل الاستعمار الجديد و الرأسمالية الاحتكارية و تغلغل الإمبريالية . لقد كان من أشد الزعماء المناصرين للقضية الفلسطينية، حيث حذر بمناسبة المؤتمر الذي نظمه فلسطينيون بمصر من التغلغل الإسرائيلي في القارة الإفريقية. و ما سينتج عن ذلك من تأثير سلبي على القضية الفلسطينية. و خلص إلى “أن هناك الاستعمار و الشعوب المستعمرة و هناك الاستعمار الجديد و الاستقلال المزيف ، هناك الصهيونية و فلسطين ،هذا هو التقسيم الحقيقي للعالم اليوم “(عن مجلة مواقف لمحمد عابد الجابري ) ثالثا : الدوافع لاختطاف و اغتيال المهدي بنبركة : لما بدأت تظهر بوادر انهزام الامبريالية في عدة مناطق بآسيا و إفريقيا و انتشار الوعي التقدمي بضرورة التصدي للصهيونية و للإمبريالية و الثورة على الاستعمار الجديد و الأنظمة الرجعية في البلدان التي حصلت على الاستقلال الشكلي و انفراد عملاء الاستعمار بالسلطة . هناك بدأت تخطط الدول الغربية الأمريكية و الإسرائيلية و الفرنسية و كذلك الدول التابعة لها من بين الدول العربية بالاعتماد على مخابرتها و جيوشها من أجل الحد من أنشطة الزعماء الثوريين عبر العالم بالاغتيالات و الانقلابات العسكرية ، و في مقدمتهم المهدي الذي أصبح في نظرهم عنصرا مقلقا للامبريالية / الصهيونية خاصة لما نجح في مشروع القارات الثلاث . فبدأت أنشطتها بالانقلابات العسكرية على الشرعية الوطنية كما هو بالنسبة للكونغو حيث تم اغتيال الرئيس الشرعي باتريس لومومبا سنة 1961 الذي حصل على 90 °/° من أصوات الكنغوليين، على يد عملاء الاستعمار البلجيكي ، لأنه كان له ميول اشتراكي ، ويتعاطف مع الشعوب التي تكافح من أجل التحرر، ثم الانقلاب العسكري الذي اطاح بأحد زعماء العالم الثالث الكبار و هو أحمد سوكارنو يوم 18 أكتوبر من سنة 1965 بمساعدة وكالة الاستخبارات الأمريكية. و لما تناهى إلى المهدي بنركة خبر الانقلاب كان عازما السفر إلى جاكارتا عبر القاهرة , إن هذه الأنشطة وغيرها التي حفلت بها سنة 1965 حسب موريس بيتان محامي عائلة بنبركة موريس بيتان كانت تعد تفسيرا لإمكانية تورط قوى دولية عظمى في تصفية المهدي بنبركة بسبب المواقف المعادية التي جاهر بها اتجاه الأمريكيين والإسرائيليين وعموم القوى الإمبريالية ستعمارية. هكذا لم يعد المهدي بنبركة يواجه خصما واحدا الذي هو الملك الحسن الثاني ، بل اصبح يعتبر خصما للصهيونية و الإمبريالية و الرجعية بشكل عام و في مقدمتها النظام المغربي . لذلك كانت كلها لها مصلحة في اغتياله و كلها تحول دون الكشف عن الحقيقة.و يقبى مفتاح اللغز بين فرنسا و المغرب أولا .