ليحل اليوم العالمي لحقوق الإنسان ككل سنة و روح المهدي ظلت دون إنصاف. وقضية اختطافه و اغتياله تراوح مكانها من حيث الكشف عن الحقيقة و متابعة المجرمين الذين قاموا بالعملية.لقد ظل الرأي العام الوطني و الدولي معا ينتظران الإفراج عن هدا الملف الذي أصبح يزداد تعقيدا و لبسا. و المثير للجدل هو سكوت الحكومات الفرنسية التي تعاقبت بعد عملية الاغتيال و منها الحكومات التي قادها الاشتراكيون، و كذلك حكومة اليوسفي التي تقلد فيها الاشتراكيون مناصب وزارية هامة ، أي الوزارة الأولى و وزارة العدل ، و هما وزارتان لهما علاقة بالموضوع ، خاصة و أن الأمر يتعلق بزعيم ينتمي إلى الحركة الاتحادية الأصيلة و إلى حركة التحرر الوطنية و العالمية و من مؤسسي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية . إن هذا السكوت من جميع الأطراف سواء الدولية أو المغربية يطرح عدة تساؤلات و منها : 1 هل هناك تواطؤ فيما يخص هذا الملف بين النظام المغربي و الدولة الفرنسية لمصلحة البلدين ؟ 2 لماذا سكوت الهيئات الأممية لحقوق الإنسان دون تحريك ساكن في شان هذه الجريمة ؟ إن الإجابة على هذه التساؤلات تحيلنا على شخصية المهدي من جهة و على تدبير المؤامرة من جهة ثانية. المهدي مركز اهتمام لذى الأنظمة الرجعية و الأنظمة الديكتاتورية لقد شكل المهدي في مرحلة الاستعمار الفرنسي و بعد الاستقلال الشكلي مركز اهتمام لذى الأنظمة الرجعية و الأنظمة الديكتاتورية ،لأنه كان زعيما أمميا و مناضلا ثوريا، له القدرة على فهم الواقع الذي ميز المرحلة ،التي عرفت بالشوط الأول من الحرب الباردة ، و انعكاساتها على شعوب العالم الثالث ، كما ظل يتميز بالقدرة على الإقناع وبالشجاعة في اتخاذ المواقف و القرارات ، و له منهجيته الخاصة لبسط الأمور . ولأنه كان كذلك يتناول قضايا الجماهير وفق حاجياتها و تطلعها . فهو لا يقبل بأنصاف الحلول أو يقبل الخنوع. كما أصبح يعتبر من بين كبار المفكرين المتشبعين بالقواعد العلمية لتأسيس المواقف و من الزعماء المبدئيين مما جعله يكون في مقدمة المناضلين الأمميين الذين برزوا كأنداد للقوى الإمبريالية و للنظام الصهيوني . لقد حمل في ذاكرته كل الملفات المرتبطة بالتخلف و بحركة التحرير العالمية و بالمخطط الإمبريالي من خلال تحركاته عبر مجموعة من الدول الاشتراكية منها على الخصوص ، الصين الشعبية و الاتحاد السوفياتي و كوبا و مصر و الجزائر .و لقد كان يشعر بالمخطط الامبريالي /المغربي الذي كان يستهدفه في حياته ، فلم يثنيه هذا المخطط عن برنامجه النضالي و تحركاته من أجل بناء تحالف أممي لمواجهة المد الإمبريالي ، كما لم تنل من عزمه كل المؤامرات و لا الإغراءات . و الدليل على ذلك ما كتبه في بداية 1965 إلى الصحفية Christiane Darbor ، ما يلي : " J'ai du quitter Genève précipitamment pour Rome afin d'éviter le sort d'Argoud. Je ne peux pas aller à Paris. J'y suis menacé. Paris truffé de policiers marocains et je pourrais être élevé à Orly même". Bernard Violet. " L'affaire Ben Baeka" . op . cit p .143" لأنه يعلم بأن الأجهزة الأمنية الفرنسية مكتظة بعدد من العملاء والضباط والمسئولين الذين كانت لهم مواقف مناهضة للحركة الوطنية المغربية. ويعرفون جيدا قادة المقاومة وجيش التحرير والقادة السياسيين، ولذلك كانت عملية الاختطاف تجري تحت غطاء عدد من هؤلاء. لقد أصبح حجمه السياسي منذ 1960 أكبر من شخصية سياسية تنتمي إلى دولة عربية كالمغرب ، فهو الرجل الذي أصبح يطلق عليه الرئيس بن بركة، ويستقبل استقبالا رسميا من طرف زعماء الدول المناهضة للاستعمار و الإمبريالية كالصين و كوبا و مصر الناصرية. لأنه كان يعتبر منسقا لحركات التحرر العالمية، وزعيما مقبلا لمؤتمر القارات الثلاث الذي يهدف إلى تأسيس تنظيم يفض بتوازنات جديدة في السياسة الدولية . لقد " جمع الرجل بين الفتناميين والكوبيين ، وأقنع السوفيات والصينيين بأن مؤتمر القارات الثلاث يهم الشعوب أولا قبل الأنظمة" المهدي على طريق الاستشهاد لقد شكل الصراع بين المهدي و الحسن الثاني بداية التخطيط لاغتياله انطلاقا من حادثة سير تم تدبيرها من طرف المخابرات المغربية . هذه الحادثة كانت توحي ببداية فصول جريمة الاغتيال .لكن شجاعة المهدي جعلته عند كل محاولة لتصفيته يزداد تشبتا بالقضية ، قضية التحرير و الديمقراطية و الاشتراكية . لقد جعلته هذه المحاولة يرحل إلى القاهرة ليستمر في عمله والاشتغال بمنظمة التضامن الإفريقي الآسيوي التي تَرَأَّسَ لجنةَ دعمِ حركاتِ التحررِ فيها، ومن هناك بدأ الرجل يعمق امتداده العربي والإفريقي ساعيا إلى تحقيق حلم الولايات الإفريقية المتحدة إلى جانب الزعماء التحرريين والأمميين الكبار مثل هوشي مينه، جمال عبد الناصر و فيديل كاسترو و الذين ظل يلتقي بهم و يتقاسم معهم فلسفة التحرر .لهذه الأسباب اصبح المهدي بن بركة مركز إزعاج و قلق للدول الإمبريالية و في مقدمتهم إسرائيل ، فرنسا و امريكا و من طبيعة الحال النظام المغربي .إذن فاستمرار المهدي في الوجود سيضر بالمصالح المشترك لهذه الأطراف . و لهذا فإن تدبير مراحل الجريمة لم يكن وليدة الصدفة او نتيجة تخطيط قصير المدة ، بل هو تدبير و تخطيط بدأ التحضير له منذ بداية الستينات بعد أن اكتشف النظام المغربي و المخابرات الإسرائيلية مكانة المهدي الاممية . إن عملية الاختطاف قد تمت يوم 29 أكتوبر 1965، بتخطيط كبير اشتركت فيه المخابرات الفرنسية وجهات نافذة في أحهزة الأمن والاستعلامات العامة ، إضافة إلى المخابرات الأمريكية والموساد ورجال المخابرات المغربية. في الزمن القريب جدا من عملية الاختطاف قامت الصحفية الفرنسية جوزيت عاليا بإنجاز ريبورتاج عن الاختطاف بالمغرب ، ومن ضمن خلاصتها في المقال المنشور في النوفيل أوبسرفاتور، 2 فبراير 1966، أن همسا يجري بالرباط ، وفي أماكن خاصة ، مفاده أن الأمريكيين فرضوا أن يتحول مشروع اختطاف بن بركة وحمله إلى المغرب ، إلى عملية تصفية جسدية. غير أن الصحفية الفرنسية لم تفصح عن مصادر خبرها هذا ، هل هي أوساط مغربية أم فرنسية ، لأنه في نفس الوقت اتهمت شخصيات وزارية فرنسية المخابرات الأمريكية بالضلوع في عملية الاختطاف والاغتيال. لقد تواطأت الدول المشاركة في الجريمة لإخفاء الحقيقة .لكن لماذا هذا التواطؤ على إخفاء الحقيقة من طرف فرنسا المغرب بالدرجة الأولى ؟ إن عنوان هذا التواطؤ هو الخوف من الكارثة السياسية التي ستعرفها الدولتان الرئيسيتان في تنفيذ الجريمة.لأن فرنسا تعتبر نفسها و أمام العالم الدولة الديمقراطية، دولة حقوق الإنسان و دولة الإخاء و المساواة . ذلك ما يتضمنه ميثاق الجمهورية الفرنسية. و الشعب الفرنسي ظل يناضل من أجل ترسيخ هذه القيم حتى باتت فرنسا هي محج المنفيين و اللاجئين السياسيين من ربوع دول العالم. فكيف سيتعاطى الرأي العام الدولي مع فرنسا حين ظهور الحقيقة ؟ و كيف للضمير الفرنسي أن يتقبل وقوع جريمة اختطاف و اغتيال مناضل أممي على أرضها ؟. إن الدولة الفرنسية هي في سراح مؤقت إلى حين الكشف عن الحقيقة ، وهي تفضل هذا السراح أملا في النسيان او التجاوز . و هذا ما يبرر إقدام أجهزتها الاستخبراتية على صنع السيناريوهات المتعددة لتضليل الرأي العام حتى تظل الدولة الفرنسية دون مسائلة أمام الرأي العام . لقد سعت إلى صناعة تعدد المصادر من أجل خلق تناقض حول حقيقة الجريمة ، كما أنه عملت عبر إعلامها و عملائها في فرنسا و في المغرب على نسج الروايات المتلفة من أجل تعقيد الحقيقة المرتبطة بمصير المهدي بن بركة حتى يتحول هذا المصير ، منذ ظهيرة يوم 29 أكتوبر 1965 ، إلى خيوط دخان و تتحول كل رواية من حقيقة الأمر إلى سراب. كل هذا حتى لا تدان الدولة الفرنسية، دولة الحق و القانون و الإخاء و الحرية و ليست دولة مسرح الجرائم الشنيعة. كل هذا و حتى لا يدان النظام المغربي الذي لا زال الرأي العام الوطني و الدولي يعتبره فاعلا أساسيا في ارتكاب الجريمة. لكن وقائع تورط فرنسا و أمريكا و المغرب في الجريمة ورد في الجريدة الفرنسية الساخرة ، لوكنار أونشيني في يناير 1975 : "أولى المعلومات حول مراقبة الاستخبارات الأمريكية لعملية الاختطاف ، من خلال ذكر ثلاث أسماء: Vernon Walters ، الرجل الثاني في جهاز الاستخبارات الأمريكية العاملة في أوربا ، و Henri Tosca ، السفير الأمريكي بالمغرب إبان عملية الاختطاف ، و Robert Wells أمريكي قاطن بالقاعدة العسكرية بالقنيطرة ، والذي كان يطلق عليه سفير السيا CIA في المغرب . هذه الأسماء سبق ذكرها في شهادة صحفية تسمى Annette Lena ، أدلت بها إلى محامي الطرف المدني إبان انعقاد المحاكمة ، ويتعلق الأمر بما فاه به صديقان لها يوم الاختطاف عندما كانت هذه الصحفية صحبة الكاتبين في مقهى ليب ، وعندما سألت الصحفية زميلها فيما إذا كان" إزرا بوند"سيتوجه إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية همس زميلها في إذنها : " لا تتفوهين بهذا أمام أحد رؤساء السيا بباريس . كان الأمر يتعلق بشخص يجلس في الطاولة الأمامية لواجهة المقهى ، وإلى جانبه جلس رجل آخر متميز بطوله وملامحه السمراء ، تحرك كثيرا بين مقهى ليب ومحل آخر قريب منها. وعندما خرجت الصحفية من المقهى صحبة تصديقيها في الساعة الواحدة وخمس وأربعين دقيقة ظهرا، لمحت رجل السيا والرجل الآخر على الرصيف قريبا من نفس المكان. كان رجل السيا خلالها يحمل حقيبة سوداء . وأن احد صديقيها Jean- Edern Hallier تحدث إلى الرجلين مباشرة بعد خروجهم من المقهى وأن الرجل صاحب الملامح السمراء قدم لهم كمثقف من أمريكا اللاتينية لكن الصحفية قالت إنه لا يتحدث اللغة الفرنسية بلكنة أجنبية. وعندما ذكرت الصحفية صديقها فيما بعد بحدث اختطاف بن بركة أمام مقهى ليب وحضور رجل السيا ، نبهها هذا الصديق إلى عدم ترديد هذا أو أنه لم يقل لها شيئا. هذه الصحفية المصورة ستلقى حتفها بعد ذلك في حادثة سير ." وكشف الصحفي برنارد فيولي في كتابه حول عملية الاختطاف أن جهات ما داخل جهاز الأمن الفرنسي تكلفت بأتعاب المحامين وبتعويضات الشرطيين . كما كشفت تحقيقات هذا الصحفي أن صاحب المكالمة الهاتفية من " السيد أوبير " ، في خط هاتفي داخلي للأمن الفرنسي ، صباح يوم 29 أكتوبر 1965 ، إلى سوشون للتأكد من أن هذا الأخير سيكون في الوعد ، قد أبانت أن المسألة قد تتعلق بجاك أوبير ،مدير ديوان وزير الداخلية آنذاك روجي فري ، وقد تكون أيضا صادرة من كابرييل أوبير ، أحد ضباط الأمن الفرنسي الذي كان منتميا إلى أمن باريس إن تعاطي فرنسا و المغرب مع هذا الملف من حيث الإهمال و المناورات و عدم مكاشفة الشعبين الفرنسي و المغربي يؤكد تورط الدولتين في عملية الاغتيال و محاولتهما اللعب على عامل الزمان من أجل إدراج القضية في علبة النسيان و ذلك لسببين : السبب الأول : مصلحة فرنسا ظلت فرنسا منذ الاستقلال تراهن على المغرب على المستوى الاقتصادي و الثقافي و الاستراتيجسي كما ظلت تعتمد عليه كبوابة لها لدول جنوب الصحراء .و لذلك فهي لا تريد أن تخسر المغرب لدوره الاستراتيجي بالنسبة إليها ، كما لا تريد أن تخسره لأنه المتنفس الرئيس بالنسبة إليها عل مستوى الاستثمار وكذلك البلد الوحيد الذي ظل يجعل اللغة الفرنسية في مقدمة اللغات الأجنبية من حيث التدريس و التداول بالمؤسسات التجارية و الإنتاجية .لهذه الأسباب و غيرها كانت حاضرة و بقوة في اغتيال المهدي لأنه يعتبر من مناهضي سياستها و أنها من الدول المستهدفة في برنامجه الأممي التحرري,لذلك فهي تخفي الحقيقة و تتواطأ على طمس معالم الجريمة ... السبب الثاني : هو تخوف فرنسا من فقدان مكانتها على مستوى الدول الأوروبية و الدول الفرنكفونية و أيضا من الإدانة الشعبية على مستوى العالم . أما النظام المغربي فهو أيضا يخفي الجريمة لنفس الأسباب لكن ببعض التفاوتات ومنها الخوف من استنهاض كل القوى اليسارية المغربية و العربية حول هذا الملف مما سيجعل النظام على كف عفريت خاصة في السنوات الأخيرة التي أصبح فيها شعار المحاسبة للمجرمين السياسيين هو السائد . و ما يزيد الملف تعقيدا هو السكوت الممنهج للمنتظم الدولي رغم خرق هذه الدول لمبادئ و قيم حقوق الإنسان و تجاوزهم مقتضيات العهد الدولي للحقوق المدنية و السياسية ( المواد 2 ،4 و 6 من العهد الدولي للحقوق السياسية و المدنية). إذن لم يعد هناك أي أمل في انتظار الكشف عن حقيقة اغتيال المهدي، نظرا للمؤامرة الرباعية /الدول ، أي المغرب و فرنسا و أمريكا و إسرائيل . و لم يبق لرفاق المهدي من يساريين و ديمقراطيين في المغرب و في فرنسا وفي بلجيكا و في الجزائر و في تونس و في مصر و في هلاندا و في كوبا و في الصين إلا رفع دعوة لمحكمة الجزاء الدولية لمتابعة الدول المعنية في الملف ، أي إخراج الملف من مسارات النفاق السياسي و الحقوقي إلى المحاكمة الدولية إنصافا لروح المهدي و للشعوب المتطلعة إلى الحرية و العدل و الكرامة . البدالي صافي الدين / قلعة السراغنة