سؤال مآل جثة الشهيد المهدي من ضمن علامات الاستفهام الكبيرة التي تنتصب في وجه كشف الحقيقة في ملف عريس الشهداء، كل الحقيقة. هل دفنت في غابة حيث شيد مسجد إيفري؟ أم نقلت إلى المغرب؟ وإذا كانت قد عادت إلى الرباط، فهل عادت كاملة أم نقلت الرأس مفصولة بمفردها؟ وما الذي جرى بعدها؟ هل دفنت في معتقل سري أم تمت إذابتها في حوض من الأسيد؟ هل فعلا أحرقت الجثة كما روى ذلك مؤخرا ضابط البحرية الفرنسية المتقاعد جورج فلوري؟ أم كان مصيرها السقوط قرب سواحل أصيلة مع الطائرة التي كانت تقلها؟ في سلسلة حوارات أجراها المخبر لوبيز تمهيدا لصدور كتابه «اعترافات جاسوس» سنة 2000، وفي الكتاب كذلك، يقول عميل المخابرات الفرنسية إن المهدي بن بركة، حين ذهب قرب مقهى شارع سان جرمان دي بري، إلى مطعم ليب، كان مرفوقا بطالب مغربي يدعي الزموري. حين رأى هذا الشاهد الوحيد شرطيين، هما سوشون وفواطو، يخرجان بطاقاتيهما ويدعوان بنبركة الى مرافقتهما، لاذ بالفرار تاركا الفرصة سانحة أمام المختطفين. أما أنطوان لوبيز، فإنه كان مختبئا في شارع سان جرمان بعد أن تنكر بوضع أنف وشاربين اصطناعيين. لقد كان مكلفا بمهمة سرية: استلام زعيم المعارضة المغربية. تناقضات المخبر أنطوان لوبيز ظل الشهيد المهدي، حسب ذات الرواية، محتجزا في بيت المجرم ذي السوابق بوشيش، في منطقة فونتوناي - لو - فيكونت، في انتظار وصول الجنرال أوفقير والكومندان الدليمي. وفي نهاية مساء 30 أكتوبر، انطلقت سيارتا «مرسيديس» من أمام الفيلا. ثمة واحدة لونها بنفسجي، خلف مقودها بوشيش وجنبه أوفقير، أما المقعد الخلفي فقد جلس عليه الدليمي والممرض المغربي الحسوني. وثمة ثانية لونها أبيض، يقودها دوباي ويجلس الى جانبه فيجون، وفي الخلف يوجد لوناي وباليس. وفي الصندوق الخلفي للمرسيدس البيضاء، وضعت جثة الشهيد المغتال قبل ساعات. الجثة كانت ملفوفة على شكل «طرد»، يضيف لوبيز، في غطاء عسكري، كانت على هيئة جنين في بطن أمه. بسرعة اتجهت السيارة نحو الطريق الرئيسية 153، باتجاه الطريق الوطنية رقم 7. كانت الساعة قد تجاوزت الثالثة صباحا، والصمت يخيم على الأجواء. اجتازت السيارة بلدة «ليس» وبعد الوصول على ملتقى الطرق المؤدي الى قرية «كوركورون» انعطفت نحو اليمين ثم نحو اليسار في طريق مشجر. هناك، وبعد الانتهاء من الحفر بواسطة فأس، وضعت الجثة بحذر كبير: حسب رواية أنطوان لوبيز، وبكامل التبجيل الذي تفرضه ظروف اللحظة! لم يتردد القتلة في تلاوة الصلاة، كأي مسيحيين مؤمنين! وبعد ذلك، تمت إعادة كل شيء كما كان، وفي ظرف نصف ساعة، لم يعد هناك أي أثر للجريمة. بناء على هذه المعلومات التي نقلها أنطوان لوبيز عن جورج بوشيش، أنجزت بعض التحقيقات الصحفية لتحديد المكان بالضبط قرب الطريق الرئيسية 153 المؤدية الى «كوركورون» ، لكن عمليات البناء والتجديد التي عرفتها هذه المدينة الحديثة خلال عقد السبعينيات جعلت تحديد المكان صعبا ونتائج التحريات متباينة. ذهبت بعض هذه التحقيقات، وخاصة التحقيق الذي أجرته الصحفية الفرنسية صوفي مونيي، إلى الاعتقاد بأن «قبر» الشهيد يوجد في المساحة التي شيد عليها مسجد «إيفري» الكبير الذي تمتلكه ودادية العمال المغاربة المهاجرين بفرنسا. لكن لوبيز غير متفق مع هذا الاستنتاج، فالجثة في رأيه دفنت في غابة لاغارين عند مخرج كوركورون، أما سند روايته هذه فيكمن في كونه قاد أوفقير والدليمي إلى هناك في سيارته بعد الجريمة حيث توقفا ونزلا من السيارة. «ولجا الغابة على مسافة عدة أمتار حتى حجبهما منحدر عن الطريق، يقول لوبيز، التفتت قليلا، فلمحت مرتفعا وشكلا دائريا لقناة مائية يلف نصفها التراب. وبعد دقائق من ذلك عاد أوفقير والدليمي. وحسب اعتقادي، فإن أوفقير كان يريد رؤية قبر بنبركة. كانا يتحدثان بالعربية، لكن كلمة «تعرية» المنطوقة بالفرنسية تكررت خلال حوارهما. بعد ذلك، اتجهنا الى أورلي. إنني أعتقد بأنهم دفنوا بنبركة بسرعة في هذه الغابة». بعد روايته الأولى هذه، سيتراجع لوبيز عن مضمونها ليحكي سيناريو مغاير مفاده أن الجثة نقلت إلى المغرب على متن طائرة عسكرية، وأن أوفقير والدليمي قاداه إلى غابة لاغارين بنية تضليله فقط. عودة الرأس مفصولة عن الجثة إلى المغرب رواية أخرى حملها الصحفي أحمد ويحمان إلى أسبوعية «الأيام» في شهر نونبر 2005 مسندا إياها إلى الفقيه البصري، ومفادها أن «رأس الشهيد المهدي حملت إلى عشاء فاخر بالرباط». يحكي ويحمان أن الفقيه أسر له خلال إحدى المناقشات بينهما: «سأحكي لك قصة ما وقع في إحدى ليالي الرباط النتنة حتى تنزعوا من أذهانكم أية أوهام بشأن مآل المهدي(...) بعد إدخال جثمان المهدي إلى المغرب، نظم حفل عشاء فاخر دُعي له عدد من الوزراء وأعضاء القيادة العامة للجيش والمستشارين وباقي أعضاء الحاشية... وبعد استنفاد الأطباق الشهية من البسطيلة والطواجين والكسكس والفواكه، نودي على الشاي والمكسرات.. ثم بعد ذلك، تم التصفيق والمناداة على «الباقي»!.. وبعد هنيهة، جيء بطبق من فضة عليه كرة ملفوفة في ورق الألومنيوم، وشُرع، أمام اندهاش وترقب الجميع، في إزالة الورق عن الكرة الملفوفة، فإذا هي رأس الشهيد المهدي!!!» هذا الحدث، يضيف ويحمان، نقلا عن الفقيه البصري، سجل بعض ردود الفعل أشهرها نوبة القيء التي انتابت المستشار الملكي إدريس السلاوي قبل إصابته بالإغماء وحمله تواً الى المستعجلات. أما علي بوريكات فيروي أنه صادف المجرمين الفرنسيين الذين شاركوا في اختطاف واغتيال الشهيد أيام اعتقاله بمعتقل PF3 بالرباط، فكشفوا له أنهم هم الذين فصلوا رأس المهدي عن الجسد بباريس، وأن الذي حمل الرأس إلى المغرب هو الجنرال أوفقير، وأن الذي دفن الرأس شخص يدعى موحند بوثولوث، وأنها دفنت قرب دوش كان يوجد بنفس مكان اعتقالهم. الجثة أذيبت في حوض من الأسيد بعد سنوات طويلة من عملية الاختطاف والاغتيال التي ذهب ضحيتها الشهيد المهدي بن بركة، ظهرت رواية جديدة، وهذه المرة على لسان عميل المخابرات المغربية، أحمد البوخاري، الذي ذكر أن جثة الشهيد تم تذويبها في حوض من الأسيد، مقدما تفاصيل عديدة حول العملية التي أطلق عليها جهاز المخابرات المغربي «بويا بشير». وحسب شهادة البوخاري، التي كشف عنها في يونيو 2001، فإنه بعد اختطاف الشهيد واقتياده إلى فيلا بوشيش سيجد المهدي بن بركة نفسه وجها لوجه أمام عناصر الكاب 1 ، وبعد أن ذكرت هذه العناصر للشهيد أنه سيلتقي بمبعوث خاص من الملك الحسن الثاني، لترتيب مسألة عودته إلى المغرب، سيتغير الوضع بعد وصول الدليمي الذي سينهال على الشهيد بوابل من الشتم قبل أن ينقض عليه ويحاول خنقه، حينها تأكد المهدي أنه وقع في الفخ . بوبكر الحسوني، الممرض العميل للكاب 1 ، والذي كان أيضا متواجدا في فيلا بوشيش، سيقوم بحقن المهدي بمخدر جعله يفقد الوعي لمدة ثلاث ساعات، وحسب البوخاري، فإن المجموعة المتواجدة أنذاك انقسمت إلى قسمين، قسم يريد إتمام العملية دون اللجوء إلى العنف، وأخرى ترى العكس، غير أن قدوم الجنرال أوفقير سيميل كفة المجموعة الثانية، حيث أن الجنرال غضب بشدة لأن الشهيد رفض أن يجيب عن الأسئلة التي كانت تطرح عليه، عندها بدأ يتعرض إلى تعذيب وحشي، وقام الدليمي بخنقه بواسطة خرقة مبللة بمياه قذرة ، بعد أن تعرض لطعنات عديدة بواسطة سكين أوفقير . سيعود عملاء الكاب 1 ، بالإضافة إلى أوفقير والدليمي، إلى المغرب عبر منافذ متعددة، في حين استقل ميلود التونزي وبوبكر الحسوني طائرة عسكرية كانت أيضا تحمل جثة الشهيد التي نقلت إلى مقر الكاب 1 ، وهناك سيتم وضعها بحوض مملوء حتى ثلثيه بحامض الأسيد، حيث تمت إذابتها لمحو آثار الجريمة ، وأضاف البوخاري أن عملية تذويب جثة الشهيد تم تصويرها على شريط فيديو ! فينفيل يتهم الجمهورية الرابعة كان الكولونيل مارسيل لوروي، الملقب ب «فينفيل» من ضمن الذين قدموا للمحاكمة التي تمت في فرنسا حول اختطاف واغتيال الشهيد المهدي بن بركة، وقد كان «فينفيل» مسؤولا عن الشعبة السابعة بمصلحة التوثيق الخارجي ومكافحة التجسس، « السديس» الإسم الذي كان يحمله جهاز المخابرات الفرنسية آنذاك، والذي اتهمه لوبيز بكونه كان على علم بعملية الاختطاف، وأنه أخبره بذلك في نفس اليوم الذي ستنفذ فيه الجريمة. ورغم أن المحكمة برأت ساحته إلا أن «فينفيل» سيغادر « السديس» نهائيا قبل أن تنهار بكاملها. وقد نشر «فينفيل» بعد سنوات من ذلك مذكراته خصص جزءا كبير منها لقضية الشهيد المهدي بن بركة، حيث قام بتقديم روايته الخاصة عن هذه الفترة ، متهما ليس لوبيز وعصابة بوشيش فقط، بل النظام السياسي للجمهورية الرابعة، وحقبة ديغول التي جعلت من مجرمين عتاة يعملون كمخبرين لدى مختلف الأجهزة الأمنية والمخابرات، قائلا إنه بعث بتقريرين الى المسؤولين يحذرهم مما يحاك في الخفاء ضد المهدي بن بركة.. ومن بين ما جاء في مذكرات « فينفيل» أن المهدي كان مراقبا من طرف المخابرات الفرنسية، التي كانت تعمل بشتى الطرق على تفتيش حقيبته كلما حل بمطار أورلي، بمساعدة لوبيز . وفي محاولة للإمساك بطرف الخيط الذي سيؤدي الى اختطاف الشهيد المهدي بن بركة، يذكر فينفيل أنه بعث بتقريرين الى رؤسائه بعد أصبح يشك في أن هناك شيئا غير عادي يحاك حول الزعيم المغربي والعالم ثالثي. التقرير الأول، طبقا لمذكرات الكولونيل فينفيل، يعود الى 19 ماي 1965، أي بالضبط خمسة أشهر و 10 أيام قبل اختطاف بن بركة، ففي ذلك اليوم سيخبره «ميشيل بولان» رئيس فريق المخبرين بمطار أورلي أن لوبيز، الذي عاد للتو من المغرب سرب له معلومة تتعلق بمحاولة التقرب من المهدي بن بركة. وحسب فينفيل، فإنه فوجئ بهذه المعلومة من طرف لوبيز، ذلك أن رئىس مصلحة المرور بمطار أورلي حتى عندما كان مخبرا لمصلحة التوثيق الخارجي ومكافحة التجسس، لم يكن مكلفا سوى ببعض العمليات ذات الطابع التقني، وأن القضايا السياسية لم تكن تعنيه، لكن فينفيل الذي كان على علم بعلاقة لوبيز بأوساط مغربية نافذة، وصداقته مع الجنرال أوفقير لم يشك في صحة المعلومة. وهكذا طلب رؤية لوبيز شخصيا لمعرفة معلومات إضافية. ومن خلال هذه التصريحات نستشف أن لوبيز رغم ما ذكره فينفيل ظل في الواقع على اتصال بالمخابرات الفرنسية رغم تسريحه بصفة رسمية. وسيخبره لوبيز أن الملك الحسن الثاني، يريد عودة بنبركة الى المغرب، وتكليفه بمهام حكومية والتفاهم مع المعارضة. وقد تكلف أوفقير بمهمة الاتصال بالزعيم المغربي. لكن فينفيل حسب مذكراته، لم يستبعد أن يقوم أوفقير باللجوء الى «وسائل غير شرعية» للتقرب من المهدي بنبركة، وبدا له أن هناك شيئا ما ليس على ما يرام، فقرر تضمين شكوكه في التقرير الذي ذكرناه وتحدث عن «الوسائل غير الشرعية» التي قد يتم اللجوء إليها للتقرب من بن بركة. وهكذا طلب فينفيل من أحد محرري الجهاز، المدعو «موشون» بتحرير التقرير الأول عن المهدي بنبركة، لكن عكس ما كان معمولا به، يقول فينفيل إنه لم يتوصل بأي رد فعل ولم يبد جهاز المخابرات أي اهتمام بالتحذير الذي ضمنه في تقريره حول «الوسائل غير الشرعية» للتقرب من المهدي بن بركة!! بعد ذلك يذكر فينفيل، أن لوبيز قام بأربع زيارات للمغرب من ماي الى غشت 1965، والتقى بالجنرال أوفقير، دون أن يطلع الجهاز عن فحوى هذه اللقاءات، إلى يوم 22 شتبنر حين اتصل به «ميشيل بولان» ليطلعه على معلومات جديدة أخبره بها لوبيز. وطبقا لهذه المعلومات، فإن الجنرال أوفقير، أعد فريقا عهد إليه بربط الاتصال بالمهدي بن بركة ويتعلق الأمر بكل من الدليمي، المسؤول عن الفريق، وميلود التونزي الملقب ب «الشتوكي» المكلف بمهمة من طرف الرباط والصحفي، فيليب برنيي وفيجون وهؤلاء كما نعلم ستذكر أسماؤهم ضمن العديد من المشاركين في اختطاف المهدي بن بركة. ويذكر فينفيل أنه أعد ثاني تقرير له حول بنبركة، في 22 شتنبر 1965، شهر وسبعة أيام قبل الجريمة ، وبعثه الى «بومون» مدير قسم التحريات، الذي كان أكثر صرامة واصرارا على قراءة جميع التقارير قبل إعادة ارسالها للجهات المختصة، وقد ذكر فينفيل في التقرير الثاني، جميع المعلومات التي أخبره بها لوبيز، والمتعلقة بفريق مكون من مغاربة وفرنسيين، كلفوا بالاتصال بالمهدي بنبركة، كما ضمن تقريره الشكوك المثارة حول هذه العملية المريبة، رغم أنه أدرك أن لوبيز لم يخبره بكل شيء، وأنه كان متورطا أكثر مما ذكر. وحسب القواعد المتبعة، أرسل «بومون» التقرير الثاني الى «المصلحة الجغرافية» لتحليل هذه المعطيات، وفي نفس الوقت بعث بنسخة ثانية من التقرير الى الكولونيل «دلسني» المسؤول عن قسم مكافحة التجسس، وقد كانت فكرة جيدة، حيث أن «دلسني» كان على علاقة بالعديد من الأجهزة الأمنية ويستطيع بسهولة الحصول على جميع المعلومات المتعلقة بالأسماء الواردة في التقرير. لكن ذلك لم يحصل، فقد كان مصير التقرير الثاني، كما يذكر فينفيل، الإهمال. ولأسباب غير معروفة! ويضيف أن التعامل بجدية مع هذين التقريرين، وإشارته الى مؤامرة تحاك في الخفاء ضد المهدي بن بركة، كان سيمكن المسؤولين الفرنسيين من إحباطها وحماية الزعيم المغربي . في اليوم الذي سبق عمليه الاختطاف، أي الخميس 28 أكتوبر1965، إتصل لوبيز برئيسه: سوشون طالبا منه المساعدة على توقيف بنبركة وحمله إلى لقاء مع مبعوثين مغاربة. وبضواحي «مينيسي» جنوب باريس في فيلا أحد الأصدقاء لكنه تحاشى أن يخبره بما كان يعلم وهو أن اللقاء سيتم في «فونتوناي لوفيكونت» بفيلا المجرم «جورج بوشيش»، ولكنه سيخبره أن المبعوثين المغاربة هما: الجنرال أوفقير، وزير الداخلية وأحمد الدليمي مدير الأمن الوطني. في البداية تردد سوشون، لأن مسألة كهذه ليست من اختصاصه، لكن لوبيز سيخبره أن اللقاء سيتم بمعرفة أوساط فرنسية نافذة، وأن الكولونيل فينفيل من مصلحة التوثيق الخارجي ومكافحة التجسس (المخابرات الفرنسية). وجاك فوكار السكرتير العام للرئاسة على علم بذلك وكذلك مفوضية الشرطة بباريس. لكن رغم كل هذه التطمينات طلب سوشون مهلة للتفكير وأخبر لوبيز أنه سيرد عليه غدا صباحا. في اليوم الموالي، سيتصل أحدهم بمفوضية الشرطة مدعيا أنه «جاك أوبير» مدير مكتب وزير الداخلية، وأعطي سوشون الضوء الأخضر لتنفيذ العملية. وهكذا سيلتقي بلوبيز في الساعة العاشرة والنصف في ساحة «نوتردام» ويبلغه بموافقته. وأنه سيكون في الموعد المحدد في الساعة الثانية عشر زوالا أمام مقهى «ليب» رفقة مساعده «فواطو» في سيارة شرطة. وسيتولى لوبيز إدارة العملية، حيث سيدل الشرطيين على المهدي بنبركة عندما سيظهر بشارع جان جرمان، كانت الساعة تشير إلى الثانية عشر والنصف. وكان لوبيز قد وضع شاربا مصطنعا ونظارات سوداء حتى لا يتم التعرف عليه، وسيركب المهدي سيارة بيجو 403 تابعة لرجال الشرطة. تولى سوشون القيادة وبجانبه جلس لوبيز وبالخلف جلس المهدي بين الشرطي «فواطو» والمجرم «لوني» واتجهوا إلى «فونتوناي لوفيكونت» حيث توجد فيلا المجرم جورج بوشيش: بعدها سيختفي بن بركة إلى الأبد. المهدي على متن طائرة سقطت قرب أصيلة بالإضافة إلى الفرنسيين والمغاربة، أدلى الإسبان أيضا بدلوهم حول عملية اختطاف واغتيال الشهيد المهدي بن بركة، وهو أمر ليس بالغريب، إذ أن المخابرات الإسبانية، كانت، وما تزال، تنشط بقوة في المغرب، بالنظر إلى المصالح المتداخلة بين الطرفين . خوسي ماريا ألباريث دي سوتامايور، شغل عدة مناصب بالسفارة الإسبانية في المغرب، من بينها النائب الأول للسفير الإسباني، وقد لخص تجاربه والمعلومات التي كانت بحوزته، بحكم منصبه، في كتاب ظهر سنة 1999 بعنوان « سيرة بلين كامينو» يتضمن العديد من الأسرار حول المغرب ما بين 1963 و 1972 ، ومن ضمنها قضية المهدي بن بركة . بلين كامينو، التي يتحدث عنها الكاتب هي عميلة إسبانية تمكنت المخابرات الإسبانية من زرعها في صفوف كبار ضباط المخابرات المغربية لدرجة أنه لقبها ب « ماتا هاري الإسبانية» نسبة إلى الجاسوسة الهولاندية الشهيرة التي أعدمها الفرنسيون بتهمة التجسس عليهم لصالح الألمان خلال الحرب العالمية الأولى . ويخصص الكتاب فصلا عن قضية المهدي بن بركة، ويقول إن « بلين» حضرت الاجتماعات التي تمت في منزل الجنرال أوفقير بأنفا وضم الدليمي، بالإضافة إلى بوشيش ولوبيز، وذلك قبل أيام من الاختطاف، ويضيف بأن خليلها الملقب ب«الحاج» والذي سيقضي نحبه لاحقا في تازمامارت بعد اتهامه بالمشاركة في محاولة إنقلاب 1972 ، أخبرها بأن «هناك علاقة مع المعارضة المغربية ونحن نحاول أن نجمدها نهائيا ، وبما أن زعماءها في الخارج فسنذهب للبحث عنهم هناك» . ويقدم الدبلوماسي السابق في هذا الكتاب نظرية جديدة مفادها أن طائرة غامضة سقطت قرب سواحل مدينة أصيلة يوم 30 أكتوبر 1965 ، يوما واحدا بعد الاختطاف، وأن الطائرة كانت تحمل المهدي بن بركة ولكنه لا يجزم هل كان حيا أم ميتا إبانها . ويقول الكاتب بأن خبر سقوط الطائرة لم تهتم به وسائل الإعلام، باسثتناء قصاصة صغيرة في « لوبوتي ماروكان»، وقد أثار الخبر اهتمام المخابرات الإسبانية لسببن : عدم ذكر اسم ربان الطائرة، وعدم تطرق وسائل الإعلام، والإذاعة بالخصوص، إلى الموضوع بل إن بيانا مغربيا صدر بعد أيام كذب الخبر . وحسب المخابرات الإسبانية، فقد كانت هناك محاولة مغربية للتمويه عن الحادث، عن طريق خبر نشر بعد عدة أشهر، تحدثت فيه عن وفاة ربان الطائرة الخاصة لأوفقير، على أساس أن الحادث وقع سنة 1966 ،وذلك لأن المخابرات الإسبانية كانت متأكدة أنه خلال هذه الفترة، 1966 لم تسقط أية طائرة في المحيط لأن رداراتها كانت ستلتقطتها . والمعطيات التي جمعتها المخابرات الإسبانية آنذاك ، كما جاء في الكتاب، تشير إلى أن أوفقير ذهب إلى باريس في اليوم الذي اختطف فيه الشهيد، وأن سقوط طائرة الجنرال بعد يوم من ذلك، وإخفاء هذا الخبر عن وسائل الإعلام، ووجود مساعد أوفقير في أصيلة يوم 30 أكتوبر 1965، جعلها تتأكد أن الطائرة كانت تحمل المهدي بنبركة، بالإضافة إلى أن لوبيز المسؤول عن عمليات الإقلاع والهبوط في مطار أورلي بالعاصمة الفرنسية، يعتقد أنه هو الذي أعد مدرجا خاصا للطائرة العسكرية المغربية التي أقلت المهدي بنبركة، ربما حيا وربما ميتا، حسب الكاتب، قبل أن تسقط بالقرب من أصيلة . «حرق» الجثة: الرواية الأخيرة في مطلع هذا الشهر، عاد ضابط البحرية الفرنسية المتقاعد جورج فلوري، في حواره الذي خص به الأسبوعية الفرنسية «لو جورنال دو ديمانش» ، ليقدم رواية جديدة حول مآل جثة الشهيد المهدي. شارك جورج فلوري منذ 25 سنة خلت في معرض للكتاب. خلال هذه المناسبة، وهو يوقع كتبه، اقترب منه شخص لا يعرفه ووضع أمامه ملفا رماديا مليئا بالوثائق، قائلا للكاتب: «إنه لك» قبل الانصراف. الملف، حسب فلوري، كان يحمل كلمة «سري» وضعت على كل صفحاته التي تؤكد أن الدرك الفرنسي جمع منذ 1965 و 1966 عددا من المعلومات من مخبرين متعددين بخصوص قضية الشهيد بنبركة، ويبرز أن بيير ميسمير، وزير الدفاع حينها، كان على اطلاع مباشر بعمل فرق الدرك الميداني. معلومة غريبة يتضمنها الملف، حسب الحوار، تفيد أنه كان للدرك الفرنسي مخبر قدم لهم معلومات مدققة حول شخصين يشتبه في كونهما قاما بحرق جثة بنبركة، مع ذكر أسمائهما وعنوانيهما، بل حتى قيمة المبلغ الذي يفترض أنهما توصلا به للقيام بمهمتهما: خمسة ملايين فرنك قديم. ويشير جورج فلوري إلى أن الملف يضم محضر استجواب المعنيين بالأمر الذي أنكرا ضمنه الأفعال المنسوبة إليهما جملة وتفصيلا. ويقول فلوري إن فرقة من الدرك، مرفوقة بشرطيين من ولاية الأمن، قامت بتفتيش بيت في منطقة «فيلابي» بحثا عن جثة المهدي، وهناك، تم العثور، وسط ركام من الرماد، على «قطعة من القماش وقطعة من الجلد».. لم يكن ممكنا حينها إنجاز تحليل للحمض النووي، كما ورد في الحوار، فتم تسليم الدليلين الماديين إلى فرقة الدرك بمنطقة «مينسي» بالإيسون. وحسب رواية ضابط البحرية الفرنسية المتقاعد، فإنه فاتح الرئيس السابق للمخابرات الفرنسية، كوسطنطين ميلنك، في موضوع عملية «حرق» جثة الشهيد المهدي بنبركة، فأكد له هذا الأخير أن الأمر ممكن بجلاء.