رغم ضعف بصره الشديد، استطاع بصوته الشجي وتلاوته العطرة أن يحشد خلفه آلاف المصلين في صلاة التراويح بمسجد الشهداء بالدارالبيضاء، الذي ارتبط باسمه طيلة سنوات الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي. قبل أن يبرز مشاهير القراء الشباب في العاصمة الاقتصادية والمغرب.. إنه المقرئ الضرير المصطفى غربي، الذي يوصف في المغرب بشيخ القراء. في هذا الحوار نسلط الضوء على كثير من جوانب حياة إمام مسجد الشهداء..، عن طفولته، حفظه للقرآن الكريم، إمامته، حادثة سجنه... كيف تقدم نفسك لقراء التجديد؟ اسمي الكامل المصطفى غربي، ولدت بقبيلة الشراكي قيادة أولاد أمراح دائرة ابن احمد إقليمسطات سنة ,1964 كما هو متبث بشهادة الميلاد، وإن كنت حقيقة أكبر ذلك بحوالي أربع أو خمس سنوات. ولدت ضريرا، لكن والحمد لله لم أحس يوما بأي مركب نقص، وما كنت قد قمت به من فحص لعيني بأمريكا، لم يكن إلا إرضاء لأصدقائي الذين أرغموني على إجرائه أملا في إبصاري، ولكنني تكيفت والحمد لله مع وضعي، وأنا في أحسن حال لأنني أرى ظلال بعض الأشياء. تمكنت من حفظ القرآن عن طريق السمع في ظرف أربع سنوات في سن الثانية عشرة من عمري، وبنفس الطريقة ساعدت ابني يونس غربي وهو أيضا كفيف، على إتمام حفظ القرآن الكريم وهو ابن الحادية عشرة من عمره. أدخلك والدك إلى المسيد لتكون مؤنسا لأخيك الذي هو من كان معنيا بحفظ القرآن الكريم، كيف جاء انخراطك في مسيرة حفظ كتاب الله، بدلا عنه؟ أخي الذي يكبرني سنا، هو من أدخله والدي إلى الكتاب بداية، لغاية حفظ القرآن الكريم، حيث كان يأمل والدي رحمة الله عليه، أن يكون أحد أبنائه حافظا للقرآن الكريم، جريا على عادة أهل القبيلة، حيث كان التنافس على تقديم أبنائهم لهذه الغاية، حرصا منهم على أن يكون في كل بيت ابن حافظ لكتاب الله، لأن ذلك كان مدعاة للفخر بين سكان القبيلة. وحين دفع بي والدي لمرافقة أخي كان ذلك على سبيل الاستئناس فقط، فكان أخي معني بالحفظ، أما أنا فكنت أسمعه وهم يتلو على مسامع الفقيه ما حفظه من آيات، ولا أرى رسمها على اللوح الذي كان يحفظ منه. لكن عندما كنت أعود إلى البيت، صرت أنافس أخي في تلاوة ما بقي عالقا بذهني من آيات كما سمعتها بين يدي والدي، الذي كان يراجع أخي في حفظه كل يوم، فتطييبا لخاطري كان يسمع مني حفظي. كما كنت ألح على الفقيه الحاج المحجوب الصويري، بأن يراجعني فيما حفظته كباقي الطلبة، فكان رحمة الله عليه يضحك من طلبي، ظنا منه أنني لا أستطيع الحفظ دون الاستعانة باللوح، سيما وأنني لست معنيا بالحفظ. ما الذي دفعه للاستجابة لطلبك، وأنت لست ضمن الطلبة، الذين يشرف على تحفيظهم القرآن الكريم؟ إلحاحي في الطلب..، كنت في كل مرة يتقدم فيها أخي بين يدي الفقيه ليراجعه في حفظه، أتوسل إليه بشدة والدموع تغالبني، لكي يسمع مني أنا أيضا. فما كان منه إلا أن ذعن أمام إصراري المتواصل. سمع مني ما حفظته بداية على مضض، لكن سرعان ما أحس بملكة الحفظ السريع التي منحني الله، إذ تفوقت على الطلبة المعنيين بالحفظ بشكل أذهله، حينها بدأ يهتم بي والتفت لموهبتي في الحفظ بالمتابعة والتوجيه.وتصادف بعد ذلك، أن توقف أخي عن متابعة حفظ القرآن الكريم، لمساعدة عائلتي في أشغال الفلاحة، والعمل في الحقول الزراعية، فالفقر والحاجة دفعا والدي مكرها إلى الاستغناء عن حلمه في أن يرى أخي وقد أتم حفظ كتاب الله، فيما بقيت أنا بالمسجد لأنني لست معنيا بالانخراط في أي عمل، لكوني كفيفا. وعندما وصلت في الحفظ إلى الحزب ,13 صار الفقيه رحمة الله عليه يوليني اهتماما خاصا، إلى أن تمكنت من حفظ القرآن كاملا سنة .1973 حققت حلم والديك على غير موعد، إذن، كيف عبرا عن فرحتهما بك؟ كانت فرحة والدي لا توصف، عندما تمكنت من حفظ كتاب الله، إذ أقاموا على عادة قبيلتي ما يسمى ب عرس القرآن، احتفاء بي، وهو في نفس الوقت يسمى حفل الفصال، أي يعني فك الشرط مع الفقيه، بشراء بهيمة له، وكسوته وكسوة أبنائه مقابل الفصال معه، بعد أن يكون قد أنهى مهمته بحفظ الطالب للقرآن حفظا كاملا متقنا. بعد أن كنت مستمعا، حقق لك الفقيه رغبتك في أن تكون من الطلبة الذين يراجعهم في حفظهم، لماذا صرت تدعو عليه فيما بعد؟ (يضحك)، كنت شغوفا باللعب، ولئلا أحرم منه بذهابي ل المسيد، كنت أدعو على شيخي بأن تلدغه أفعى لكي أتحرر منه، تشوقا للعب مثل الأطفال الذين هم في سني. فميلي للعب كاد يوقف مسيرة حفظي لكتاب الله، لولا حرص والدي، وخاصة الوالدة عائشة رحمة الله عليها، كنت أصغر أبنائها من أصل تسعة أبناء، ورغم أنها كانت تحبني جدا، وكنت أحس بعطفها الزائد علي، إلا أنها كانت تشدد علي عندما يتعلق الأمر برفضي الذهاب ل المسيد، كانت رحمة الله عليها تقول لي أطلب مني أي شيء أنفذه لك، إلا أن أسمح منك عدم الذهاب إلى المسيد، فما دمت حية لن أفارقك إلا بعد أن تكمل حفظ القرآن. لماذا حرص الوالدة على أن تكمل حفظ كتاب الله، كان أشد من الوالد؟ جزى الله والدتي عني خيرا، وجعل ذلك في ميزان حسناتها، حرصت على أن أحفظ كتاب الله، فكان لها ما أرادت، فبعد أن أتممت الحفظ، كانت فرحة جدا بذلك، وكانت كلما رأتني أقرأ القرآن مع الطلبة، تطلق الزغاريد تعبيرا عن فرحتها. وكان من توجيهها الدائم، قولها لي : لا يصلح لك يا بني إلا حفظ كتاب الله تعالى، لأن فيه عزك في الدنيا والآخرة. وما أنا فيه من نعم بالقرآن، هو من الله وجهود والدي ووالدتي على الخصوص. خوأنت تتلمس أولى خطواتك، في رحلة البحث عن موقع لموهبتك( وقد حباك الله بصوت متميز)، قلدت مقرئين وأيضا فنانين كبار، بل كنت أميل إلى عالم الغناء، كيف اخترت مسارك مع القرآن مقرئا وإماما؟ الله سبحانه وتعالى اختارني لهذا المسار. لقد كنت شابا عندما بدأت أتردد على مدينة الدارالبيضاء عام ,1975 أحل بها ضيفا بين الفينة والأخرى عند أخواتي اللواتي كن متزوجات وكن يقطن بكاريان سيدي عثمان. هناك نسجت علاقات مع العديد من الأقران بهذا الكاريان، وفي لقاءات السمر التي كانت تجمعنا، بدأت أحس بأن لي صوتا متميزا، فبدأت أعمل بداية على تقليد القارئ الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، وغيره من القراء المشارقة البارزين، وأيضا على تقليد كبار الفنانين مثل محمد عبد الوهاب الذي كنت معجبا به بشكل كبير، وأم كلثوم، ووديع الصافي، ورياض السنباطي...، فنصحني أصدقائي بالمشاركة في برنامج مواهب، الذي كان يعده عبد النبي الجيراري، وتذيعه الإذاعة الوطنية. لكن الأقدار شاءت أن لا أشارك في البرنامج، بعد أن كنت عازما كل العزم على ذلك، لا أدري ما الذي أخرني، هكذا، وبدون أي سبب عزفت عن المشاركة. بعدها أصبحت أصلي بانتظام، وبدأت أتلمس الطريق إلى الالتزام بتعاليم القرآن الذي كنت أحفظه، وبدأت أحضر حلقات الدروس الدينية في التربية، في اللغة، في علم التجويد... فيما ظلت جلسات السمر، محطة متواصلة نتنافس من خلالها أنا و أصدقائي على تجويد آيات الله، بتقليد أبرز القراء. وأذكر من هؤلاء الأصدقاء، عبد العزيز درويش وهو يشتغل بإدارة السجون الآن، كنت أستفيد منه كثيرا، ومحمد الإدريسي المعروف بالصواف رحمة الله عليه، وحسن الكشاف وكنا نسميه مصطفى إسماعيل المغرب، كونه كان يقلده تقليدا تاما... كيف جاءت تجربتك مع الإمامة بالصلاة ؟ بدأ اسمي بكوني أحسن تلاوة آيات كتاب الله، يتردد بين أبناء الحي، قبل أن أقدم للصلاة بالناس بمسجدي الشباب العشوائي بكاريان سيدي عثمان بلوك 20 زنقة ,8 ومسجد المحسنين ببلوك 2 بالكاريان ذاته، وذلك على نحو غير منتظم، كان سني آنذاك لا يتجاوز 15 سنة. ولكن بشكل رسمي مارست الإمامة سنة 1980 بمسجد طريق بورنازيل، وأنا أبلغ من العمر حوالي 20سنة، وأذكر أنني كنت ببيت أحد المشايخ بكاريان ابن امسيك، نتابع مقابلة في كرة القدم لنهائي كأس العرش، فطرق الباب شخص لا أعرفه، جاء يسأل عني، ولما قابلته، قال لي بأنه سمع عن رغبتي في إمامة المصلين بأحد المساجد، ولما أكدت له تلك الرغبة أخذني معه على دراجته النارية إلى هذا المسجد، فكان الاتفاق على الإمامة بالصلاة بمسجد طريق بورنازيل طريق ابن سليمان (دوار ولد هرس)، مقابل مبلغ شهري كان بسيطا جدا، ولكن كان له بالغ الأثر في حياتي، إذ كنت أبحث عن الاستقلالية في تدبير حالي المعيشي. دام هذا الحال لمدة سنتين، قبل أن انتقل مباشرة إلى مسجد الشهداء بمنطقة الصخور السوداء عام 1982 ، كان القراء في تلك الفترة قليلون، فتمت المناداة علي لأكون إماما بهذا المسجد، ومن هنا، بدأ الإشعاع والحمد لله، وبدأت أشارك في المسابقات على الصعيدين المحلي والدولي. وفي خضم ذلك كنت أمارس الإمامة بمسجد الحسن الثاني لمدة 7سنوات. هل كان التفاعل مع أجواء مسجد الشهداء بالنسبة لك، سهلا؟ لا، لم يكن سهلا، لكن أعتقد أن ما ساعدني على التفاعل مع أجواء مسجد الشهداء بسرعة، والحمد لله، أنني كان لي حظ من الجرأة والشجاعة، اكتسبتها مند صغر سني. إذ لم أكن أتهيب حين يطلب مني أن أم أهلي وعشيرتي وأصدقائي في الصلاة. كما اكتسبت بعض التجربة من إمامتي بالمصلين بمسجدي كاريان سيدي عثمان، كما سبق إلى ذلك القول. كما كانت تدفعني إرادة قوية، في أن أكون أهلا لهذا المقام الرفيع..الذي أنعم الله به علي بمسجد الشهداء. من كلمك في موضوع الإمامة بهذا المسجد؟ كان أول من كلمني في هذا الموضوع أستاذي سيدي محمد زحل، وكان آنذاك خطيبا لمسجد الشهداء، وأذكر أنني وافقت على العرض دون تردد، وقبلت رأسه. ما هو الشرط الذي وافقت عليه لتكون إماما للمسجد؟ كنت لا زلت أعزبا عندما تمت المناداة علي للإمامة بمسجد الشهداء، ولكن قبل أن أبدأ الإمامة به، أكد لي بانيه ومنشأه الشريف مولاي علي الكتاني على ضرورة أن أكون متزوجا. وافقت على هذا الشرط الذي لم يكن من مانع إلى تحقيقه، سوى عدم توفري على مسكن. فاقترح علي رحمة الله عليه بأن يكون سكن المسجد هو بيت الزوجية، وسلمني على الفور مفاتيحه. وفعلا تزوجت بأم عبد الرحمن عن طريق الشيخ محمد زحل، وهي عندي مع أهلي بمثابة ما كانت عليه عائشة مع النبي صلى الله عليه وسلم، هي أعز الناس وأحب الناس. كنت تتوقع حجم الإقبال الذي صادفته بمسجد الشهداء؟ لم أكن أتوقع الإقبال الكثير من المصلين على هذا المسجد، الذي فاجأني صراحة. كنت أتوقع إلى حد ما إقبال بالكاد يفوق ما عشته من أجواء بمسجد الشباب. فالحمد لله، إمامتي صادفت صحوة إسلامية مشهودة بمدينة الدارالبيضاء بشكل خاص، وبالموازاة عرف المسجد حركية غير مسبوقة، بحيث كان مزدهرا بدروس وجمع الأستاذ محمد زحل، فتفاعلت مع هذه الأجواء. أحيانا لا يعرف الإنسان قدر نفسه، وقد ينعكس عليه مثل هذا التجاوب إيجابا أو سلبا، وأحمد لله، كان له الفضل في أن ينعكس علي ذلك إيجابا، فما استكبرت، ولا أخذني العجب والغرور، أسأل الله الإخلاص في القول والعمل. ما هو الحدث الذي عكر صفو هذه الأجواء، بعد أن ذاع صيت المسجد؟ أذكر أنه كانت قد وقعت ضجة، بسبب ترويج مقولة مفادها أن مسجد الشهداء لا تجوز فيه الصلاة، كونه يقع بمقبرة، ولكن المسجد زكي من مشايخ كبار من خارج المغرب وداخله، أمثال الشيخ التفراوتي رحمة الله عليه وكان من أكبر العلماء، وقاضيا يقضي بالحق والعدل، كما كانت له مواقف جد إيجابية على الدعوة والدين. بهذا المسجد الذي أصبح اسمك مرتبطا به، استطعت أن تستقطب عشرات الآلاف من المصلين في التراويح، ماذا جلب لك هذا النجاح ؟ جلب لي كل الخير، والحمد لله، وبما أن لكل نعمة حسود كما يقال، فقد عشت مضايقات شديدة، ومشوشات في طريقي، لكن مع صدق الإنسان وصبره يضمحل كل ذلك، وكثير ممن كانوا مصدر ذلك اعتذروا لي، تجاوز الله عني وعنهم. ماذا أضافت المشاركة في المسابقات القرآنية لمسارك؟ بعد مرور حوالي شهر على إمامتي بمسجد الشهداء، كانت أول مشاركاتي في مسابقة لقدماء تلاميذ الدارالبيضاء، حصلت فيها على الرتبة الأولى، ثم شاركت في المسابقة الوطنية وكنت فيها الأول لثلاث مرات على التوالي، ومن تم جاء مشاركتي بالسعودية لتمثيل المغرب. وفي عام 1987 وقع علي الاختيار، بأن أقرأ المسيرة القرآنية، قبل أن أمثل المغرب في مسابقة قرآنية بباكستان سنة ,1994 ثم بإيران سنة ,,.1995 حينها بدأت أشعر أنني أحاول أن أكون متميزا، وأنني أتلمس طريق القراء الكبار. ما ذا تذكر من أول رحلة لك خارج المغرب؟ أول سفر لي خارج المغرب كان إلى السعودية، بل أول عهدي بركوب الطائرة حتى. ولا زالت هذه الرحلة عالقة بذهني بكل تفاصيلها. كان سني صغيرا، وكنت حديث عهد بالسفر، ولكن الله يسر أعباءه بفضل الحظوة التي كنت أتمتع بها بين زملائي، الذين كانوا يتسابقون، كلا يريدني أن أكون ضيفه ورفيقه بمقامه. خأين صرفت قيمة الجائزة ؟ كانت قيمة الجائزة التي حصلت عليها تساوي حوالي 11 مليون سنتيم، عندما عدت إلى بلدي اشتريت بهذا المبلغ قطعة أرضية بنيت عليها منزلا جديدا، قبل أن أبيعه لأشتري مسكنا آخر. هل كانت الإمامة أقصى طموحك؟ لا، انخرطت في محاولات متنوعة لإثراء معارفي، لأن حفظ القرآن وحده لا يكفي. فكان أن تنقلت بين حلق العلم، واللقاءات العلمية، وأخذت من أفواه العلماء داخل المغرب وخارجه ولا زلت، لأن العلم لا حدود له، وأنا الآن بصدد الدخول إلى مجال القراءات القرآنية - ابن كثير، مكي ابن عامر الشامي، عاصم حمزة، والكسائي وغيرهم.. هل هناك تلمذة مباشرة على يد شيخ أو مشايخ معينين؟ نعم، هناك تلمذة مباشرة ولكن سيأتي بيانها في وقتها إن شاء الله. دخلت مجال الاستثمار، كيف جاءت فكرة إنشائك لوكالة للأسفار ؟ لم تعد الأجرة التي أتقاضاها مقابل إمامتي بمسجد الشهداء، تكفيني إزاء مسؤولياتي الأسرية، فجاءت فكرة إنشاء وكالة للأسفار، وكان العزم مني أن أحقق بها فكرة كانت تراودني، إذ كنت ألح في الدعاء بأن يبسط الله لي رزقا يربطني بالحرم المكي، لخدمة حجاج بيت الله. وفعلا يسر الله لي ذلك، فأنشأت وكالة للأسفار بشراكة مع أحد أصدقائي، قبل أن أستقل بمشروعي. في سنة ,2006 عشت على وقع حدث أدخلك السجن، كيف جاء ذلك ؟ (يسكت قليلا)، قبل أن يستطرد معلقا (الحديث في هذا الموضوع يثير شجوني)، المهم، جاءني شخص إلى الوكالة، وطلب مني أن أنقل له حقيبة عبر وكالتي، ولأنه لم تكن مبرمجة لي أية رحلة في تلك الفترة، أشرت عليه بوكالة أخرى كان في برنامجها رحلة بالفترة المطلوبة من الزبون، هذا ما حصل. لم يتم القبض علي وأنا مسافر بالحقيبة في مطار محمد الخامس كما راج عند الناس، وإنما تم القبض على موظف الوكالة الذي كان مكلفا بنقل الحقيبة، إلى أحد زبنائها، ليحملها إلى حيث أراد صاحب الحقيبة. وأثناء التحقيق معه ذكر اسمي، ولما علمت بالأمر توجهت من تلقاء نفسي إلى الشرطة على اعتبار أنني برئ، فتم اعتقالي وسلمت لوكيل الملك تم إلى قاضي التحقيق بتهمة المساهمة في ترويج المخدرات وتهريبها على المستوى الدولي. في الوقت الذي تمكن صاحب الحقيبة الفعلي من الهرب. ما هي التطورات التي عرفتها وقائع المحاكمة ؟ حكمت ب 5 سنوات سجنا نافذا، وكان أن نسي القاضي أن يصدر الحكم باسم جلالة الملك، فأبطل الحكم، وفتح الملف من جديد لكن القاضي الذي أوكل إليه النظر في القضية في المرة الثانية، لم يزد على منطوق الحكم إلا عبارة باسم جلالة الملك، التي لم يصدر بها الحكم في المرة الأولى، غير أنه في مرحلة الاستئناف قيض الله هيئة حكم دققت في حيثيات المحاكمة، فنطقت بالحق الذي كان هو البراءة. كنت مؤمنا ببراءتك ؟ نعم، لقد كان أصدقائي يقولون لي لا تطمع بالبراءة، إذ لا يعقل أن ينتقل الحكم من 5 سنوات إلى الحكم بالبراءة، لكني جوابي على قولهم، وأنا واثق مما أقول :إن الله على كل شيء قدير. أقول لكم ولا تطلبوا مني المزيد رجاء..، قبل أن تزف إلي بشرى براءتي، رأيت في منامي رؤيا ببشرى خروجي من السجن(تحفظ على بسط مضمونها)، وفي الصباح كنت أردد دعاء خاصا بشكل متواصل، إلى أن جاء الفرج، والحمد لله. صدمتك بعض المواقف إزاء محنتك؟ نعم، سلبا وإيجابا. فمن يكون في مثل هذا الابتلاء، يكون في أشد الحاجة إلى من يقف إلى جانبه لدعمه، من يتصل، من يبادر بموقف، من يتفضل بزيارة في السجن...، وكان مما أثلج صدري كما أخبرت من قبل أحد المحامين، بأن نقيب المحامين آنذاك (خالد الناصري)، مستعد للدفاع عني من غير أجر، وإن كنت قد بلغته شكري مع اعتذاري، كوني كنت مؤازرا من طرف عدد لا حصر له من المحامين، في المقابل حز في نفسي تنكر من توسمت منهم السند والدعم، بل إن بعضهم عندما طلب منه أن يرافع في قضيتي، كان اعتذاره بطعم الاعتراف ضمنيا بأنني أتاجر في المخدرات. لقد صنفت الناس إزاء هذه المحنة إلى ثلاثة أصناف: صنف يحبني ويدود عني، وصنف مغرر به رغم أنه يحبني، وصنف يصطاد في الماء العكر وجد فرصة لفعل فعلته وقول قولته والله سيجازي عن كل ما نطق به فمه... كيف كانت ظروف الاعتقال ؟ كانت ظروف اعتقالي في أحسن الأحوال، كنت أعامل معاملة حسنة من قبل موظفي السجن، وكان وجودي بالسجن طيلة المدة التي قضيتها إيجابيا..، تمكنت والحمد لله من ربط علاقات طيبة مع السجناء ومع موظفي السجن، بل كنت أتدخل لإيقاف تمرد وعنف بعض السجناء، بسبب احترامهم لي، كما كنت أأم السجناء وأصلي بهم صلاة العيد وأمارس الدعوة فيهم بالتي هي أحسن. كنت لا أنام إلا بعد صلاة الصبح، جل فترة الاعتقال والحمد لله، كنت أعيش فيها مع آيات القرآن الكريم، ورغم كل ذلك، ألوم نفسي الآن، على أنني ضيعت الكثير من الوقت داخل السجن، دائما أقول ليتني قرأت أحزابا من القرآن أكثر، ليتني صليت أكثر، ليتني صمت أكثر... ما قصة الدعاء الذي رفعت أكفك به بقاعة المحكمة ؟ كنا عند قاضي التحقيق وأتوا بي كشاهد بعد أن تم القبض على صاحب الحقيبة الفعلي، الذي كان يصر على أنه بريء وبأنني كذبت عليه. قلت له هؤلاء الحكام هم حكام الدنيا وليس حكمهم كحم الله فاتق الله، فأصر على أقواله، حينها طلبت من القاضي أن يسمح لي بالدعاء على من كان سببا في هذه المحنة. لبى القاضي لي هذا الطلب رغم اعتراض دفاع المشتكى به، فلما بدأت بالدعاء، بدأ صاحب الحقيبة يرتعش، وأخذ ينعتني بأنني كذاب، فقلت له حينها إن كنت كذابا كما تقول، هذه فرصة فأنا أدعو على من كان السبب في كل هذا، فقل آمين. فظل يحتج وهو يردد إنه كذاب، إنه كذاب... من كان أول المهنئين لك على البراءة؟ ط لما صدر الحكم ببراءتي، أرسل المدير في طلبي بمكتبه، فهنأني مباشرة، بل وطلب من كاتب الضبط أن يسرع في إجراءات إخراجي، لأن الفضاء الخارجي أمام بوابة السجن كان ممتلئا بالأصدقاء والأهل والأحباب... كيف كان وقع محنة السجن على حياتك؟ لقد استأنفت حياتي الآن بشكل عادي، رغم أنني لا زلت أعاني من مرارة هذه المحنة. عانيت ماديا ومعنويا، فالمدة التي قضيتها بالسجن وهي سنة و19 يوم، لم تمر دون مخلفات، لقد أغلقت وزارة السياحة وكالتي، ونال الناس من سمعتي..وتضررت صورتي وصورة عائلتي... هل رفعت دعوى للتعويض على وزارة السياحة، بعد الحكم ببراءتك ؟ أدعوا من تعمد أن يوقع بي هذه المحنة إلى الله، فعلا، لقد طلبت مني بعض الجهات (رفض تسميتها)، أن أرفع دعوى للتعويض على وزارة السياحة، لكنني عزفت عن الأمر. رغم أن إغلاق وكالتي، كان قد تسبب لي في أضرار مادية، إذ تراكمت علي ديون، ولكن الحمد لله قيد الهم من ساعدني لأتجاوز محنتي...ومنحني سلف إلى أجل غير مسمى، لا زلت أؤديه الآن بشكل مريح. كيف ردت إليك حقوقك؟ بعثت برسالة ونسخة من الحكم ببراءتي إلى وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية عن طريق المندوبية الجهوية، فصدر قرار بعودتي للإمامة بمسجد الشهداء، وكذلك بعثت إلى وزير السياحة، فتم فتح وكالة الأسفار التي أملكها.. ما هي الدروس التي استفدتها من هذه المحنة ؟ الله يبتلي ولا يظلم، وكوني سجنت ليس ظلما من الله وإنما هو ابتلاء، أسأل الله أن يتقبل مني. مؤكد، أنني استفدت من هذه التجربة أن كل الناس محكوم عليها بالسجن في أية لحظة، قد تظلم وتدخل للسجن، وهذا ليس معناه أن القضاء قد ظلمك، وإنما هو ينفذ أحكاما وفق مساطر معينة... استفدت أيضا وهذا هو المهم في التجربة، أن قاعدة التعامل مع الناس هي الاحتياط، لكن دون إفراط ولا تفريط.