يعيش المغرب اليوم على إيقاع صراع الأطروحات المتدافعة بخصوص الشأن الحقوقي، خاصة ما يمس جانب الحريات، وذلك بحكم انتسابه الحضاري للجامعة الإسلامية من جهة، وانفتاحه على أوروبا والغرب عموما بحكم موقعه الجغرافي المتميز من جهة ثانية. فبين الأطروحة التي ترفع مقولة إسلامية الدولة وإمارة المومنينوخطاب الهوية والقيم كمصدر للتوافق الاجتماعي داخل المجتمع المغربي، وبين أطروحة نقيضة تستقوي بالخارج وبالمرجعية الكونية، تنادي بضرورة تبني قيم حداثية لإعطاء الفرد مزيدا من الحرية، خصوصا فيما يتعلق بجانب المعتقدات والحياة الجنسية والتعبير عنها بمختلف الأشكال، حيث يغدو مع هذه الأطروحة: الشذوذ الجنسي والإفطار علنا في رمضان وبيع الخمر للمسلمين والدعوة إلى التنصير وممارسة طقوس عبدة الشياطين وتقديم المرأة خدمات جنسية بغطاء قانوني ...إلخ كلها نشاطات وتعبيرات تجد لها مبررا تحت شعار الحرية الشخصية أو الفردانية، وبمرجعية المواثيق الدولية أو ما يسمى ب المرجعية الكونية. الأدوات المستعملة في الصراع الدائر بين المرجعيتين: هذا الصراع بين مرجعيتين مختلفتين في رؤيتهما للإنسان والكون والحياة، ينعكس على واقعنا المغربي في صورة هجوم شرس على المرجعية الإسلامية، تستعمل فيه أدوات مختلفة تنتجها أطراف سياسية وثقافية توظفها في صراعها مع خصم سياسي يتبنى المرجعية الإسلامية. فقد تابعنا النقاش الدائر حول فتوى الدكتور أحمد الريسوني التي تحرم التسوق من المتاجر التي تبيع الخمور، وكيف تطور النقاش إلى المطالبة بإلغاء القوانين التي تمنع أو تحظر بيع الخمر للمسلمين، وان جمعية بيت الحكمة التي تترأسها الرويسي والتي تزعمت الهجوم على فتوى الريسوني، تنتمي إلى حزب الأصالة والمعاصرة، وقد سبق لهذه الجمعية أن دافعت بقوة عن حق الشواذ في القصر الكبير في التعبير عن شذوذهم تحت شعار: الحرية الفردية، وسرعان ما تم إقحام حزب العدالة والتنمية في المعركة. كما تابعنا النقاش الدائر حول بعض الفتاوى التي تنشرها جريدة التجديد، والتي صنفها الساسي في خانة فتاوى ضد المنطق ليتحول النقاش إلى هجوم على مؤسسة العلماء، لكن الأخطر من ذلك أن يتبنى حزب سياسي وهو الاشتراكي الموحد الذي يعتبر الساسي أحد قادته، هذه المقولة، ويتخذها مبررا للهجوم على مؤسسة العلماء وحزب العدالة والتنمية وحركة الإصلاح والتوحيد، وجريدة التجديد الناطقة باسم الحركة. هناك إذن أدوات سياسية بخلفيات إيديولوجية يتم اللجوء اليها من أجل الضغط على المجتمع ليتخلى عن دوره في الدفاع عن قيمه وهويته الإسلامية التي تبناها منذ 12 قرنا، والضغط على الدولة من أجل علمنة الفضاء العام وتحريره من الضوابط الشرعية والقيود الدينية، والضغط على مؤسسة العلماء لعزلها عن تبني هموم الناس وإيجاد الحلول لمشاكلهم بما يتفق ومرجعيتهم الدينية، وأيضا وهو الأهم الضغط على الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية لإقصائها عن ميدان السجال الذي يأخذ طابعا دينيا في دولة يتداخل فيها الديني بالسياسي. كما أن هناك أدوات قانونية، يتم اللجوء إليها لإحراج الدولة أمام الخارج بدعوى توقيعها على اتفاقات يلزمها احترامها، وإعادة صياغة قوانينها الداخلية بما ينسجم وتلك الاتفاقات الموقعة، ورفع كافة التحفظات عليها وإن كان في ذلك إخلال بالنظام المرجعي للدولة والمتمثل في إمارة المؤمنين وإسلامية الدولة التي ينص عليها الدستور. يقول محمد السروتي الباحث في قضايا التنصير: لقد تحولت تقارير الحريات الدينية إلى وسيلة لتوسيع الأقليات الدينية في بعض البلدان، فأصبحت بمثابة سلاح سياسي وورقة للمزايدة السياسية والابتزاز للاستعمال ضد كل من يعارض سياسات الولاياتالمتحدة في العالم... والمتتبع لظاهرة التنصير في المغرب يلاحظ بأن هناك تركيزا على المناطق الأمازيغية، يشهد لذلك الكم الهائل من المطبوعات الموجهة لتلك المناطق ... إ.ه. قلت : من المؤسف حقا أن يلعب بعض المثقفين الحداثيين دور الوسيط الإيديولوجي بين الغرب المتسلط والمستعلي بثقافته اليهودية المسيحية، وبين المجتمع الإسلامي المنهك بسياسات الاستبداد وسوء توزيع الثروات، لخلق مزيد من بؤر التوتر داخل المجتمع كنتيجة للانقسامات الإثنية والدينية والإيديولوجية. يقول محمد الساسي الناشط الحقوقي والسياسي اليساري معلقا على انتعاش مخططات التنصير في بلادنا وموقف الدولة من ذلك: إننا عندما نختار أسلوب العقاب في حق المنصر والمتنصر، ومنع أي نشاط دعائي لديانة أخرى على أرضنا، ونعتبر ذلك النشاط اعتداء علينا، فإننا نضع أنفسنا مباشرة في تناقض مع شعار المشروع الديموقراطي الحداثي الذي يرفع رسميا، ومع المواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب... (المساء: عدد 497 سنة 2008). وقد علق أحمد عصيد الناشط الأمازيغي العلماني على فتوى الدكتور الريسوني بتحريم التسوق من المتاجر التي تبيع الخمر للمسلمين بقوله: إن النقاش أظهر بأن الاختلاف الموجود بين دعاة المنع والمصادرة ودعاة الحرية ليس اختلافا سطحيا، بل يتعلق بمرجعية التفكير والعمل، حيث يتبنى الأوائل مرجعية بقراءة ضيقة، بينما ينطلق الأواخر من مرجعية حقوقية كونية واسعة، تشمل كل الديانات والمعتقدات المختلفة، كما تشمل حقوق من هم خارج الديانات والمعتقدات وتسوي بينهم على أرضية المواطنة... (الجريدة الأولى، عدد ,523 فبراير 2010). لكن المثير للانتباه أن مثقفينا وسياسيينا المدافعين عن الحريات الفردية من مرجعية حقوقية كونية واسعة كما يزعمون، لا ينتقدون سياسية التضييق على حريات المسلمين ببلاد الغرب، حيث تسن القوانين لمنع المآذن، وحظر الحجاب وتجريم وضع النقاب في الأماكن العمومية، وتجريم تعدد الزوجات، ومنع صيام رمضان في بعض المعامل، والاستهزاء بشعائر المسلمين، مما جرأ عناصر متطرفة على الاعتداء على أماكن العبادة، فأحرقت مساجد ودنست مقابر للمسلمين... لقد تسربت سياسة الكيل بمكيالين إلى عقول مثقفينا الحداثيين، فبدل أن يكتبوا تحت عنوان: سياسات ضد المنطق، نراهم يكتبون تحت عنوان : فتاوى ضد المنطق:!!