قلما انعقدت, بالعقود الثلاثة الماضية على الأقل, بمعظم دول العالم, مؤتمرات أو لقاءات فكرية, أو منتديات علمية وفكرية لمدارسة هذه القضية أو تلك, إلا واستحضرت وتداولت, ضمنيا أو على هامش اللقاءات إياها, قضايا وإشكالات تحيل صوبا على صراع ما بين الحضارات أو الثقافات, أو ممانعة ما بين الهويات أو الأديان أو المرجعيات, أو أشارت في بياناتها الختامية الرسمية, إلى ضرورة وقيمة الحوار والتواصل, وأهمية تعميق سبل الاتصال والتعارف, لدرء مخاطر المواجهة, أو تجنب احتمال التصادم بين الأمم والدول والشعوب. هي ثنائيات وأزواج ومتقابلات (صراع/حوار, تواصل/ممانعة, لقاء/تنافر...الخ), تبدو مرتكزة في بنيانها وتصورها وشكلها, على مضمون معرفي وحمولة فكرية معتبرة, تتغيأ التمحيص والتحليل المجردين, لكنها تضمر في ثناياها, رؤى وتمثلات إيديولوجية وحسابات جيوسياسية, سرعان ما تسهم في إزاحة الطهرانية الفكرية, التي تشي بها في ظاهرها ومظهرها, فتسقطها بالمجال العام الواسع, حيث مكمن الديماغوجيا, والمزايدات, والمساجلات العقيمة. وعلى الرغم من التراجع الملحوظ في منسوب الحدة الذي واكب الأطروحتين الأصل, أطروحة الصراع والحوار الحضاريين, فإن المواقف المرتكزة عليهما لم تفرز مع الزمن, وبظل بروز أحداث دولية جسام, لم تفرز إلا إعادة تمحورهما حول ذاتهما, بهذا الشكل أو ذاك, نافيتان عن بعضهما البعض, أية مصداقية أو فاعلية, أو نجاعة علمية أو عملية تذكر. بالمقابل, فإن ما استتبع هاتين الأطروحتين من اجتهادات ذات قيمة اعتبارية متقدمة, أو طروحات تشارف على التنظير في بعضها, تحاول التجاوز على فكرة الصراع, بأفق فتح مسالك للتعارف والحوار, أقول إن ما استتبعهما لم يوفق إلا نسبيا في التخفيف من حدة التباين, والتنافر لحد الاحتقان في بعض الحالات, القائمين بين أطروحتي الصراع وغياب الصراع, بل بقيت محكومة بزاوية الرؤية الناظمة لها, أو المقاربة المعتمدة في صياغتها. إن أطروحة صراع الحضارات, وما استتبعها من جدل صاخب في العديد من أوجهه, لا تؤشر برأينا عن قوة ما ملازمة للفكرة, ولا عن مدى القوة التفسيرية التي قد تتمتع بها, بل تأتت وتتأتى لها عناصر القوة ومعطيات الرواج والانتشار, من طبيعة الجهة التي استنبتتها وروجت لها, وبنت على أساسها المواقف والسياسات, وحددت على ضوئها طبيعة العلاقة مع الحضارات الأخرى. بالقدر ذاته, لكن بوهج أقل, تبدو أطروحة حوار الحضارات, ولكأنها مجرد ردة فعل على أطروحة الصراع, رفض لمجاراتها, على خلفية من القول بأن الحضارات لا تتصارع, بقدر ما تتحاور, أو على أساس من الاعتقاد بأن المطلوب هو الدفع بالحوار والتحاور, درءا للمواجهات المحتملة, أو استباقا للفتن التي قد تمتطي ناصيتها. بالتالي, فإن القول بحوار الحضارات, أو الثقافات أو الديانات أو الهويات أو ما سواها, إنما هو قول يبدو للعديد, من قبيل تحصيل المحصل, إذ نادرا ما انقطع ذات الحوار أو تخلف أصحابه, حتى وإن خفت وتيرته لهذا السبب أو ذاك, أو تراجع مده ومداه, بظل هذا المعطى التاريخي أو ذاك. لو تركنا جانبا فكرة الصراع المباشر والصلب, والمحيلة صوبا على المواجهة الخشنة, كما نظر لذلك صمويل هنتنغتون, فإننا نجد أن لذات الفكرة, في بعدها النسبي تحديدا, تموجات ضمنية وبارزة في الآن معا, غالبا ما يقف المرء لها على أثر في فكرة الحوار الحضاري ذاتها, إما من منطلق التشكيك في نجاعة الأطروحة, أطروحة الصراع, أو ارتكازا عليها للطعن في تبعاتها من الداخل, أو بناء على بعض معطياتها للدفع بفرضيات أخرى, من قبيل فرضيات التحاور والتعارف والتواصل وما سواها: + التموج الأول ويكمن في القول بأنه لو سلم المرء جدلا بفكرة الحوار بين الحضارات, كما يروج لها بعض المفكرين الغربيين, فإنها لا تخرج برأيهم, عن مجرد إعادة إنتاج ليس إلا, لسلوك الهيمنة والتسلط, الذي غالبا ما ميز وطبع مواقف "الحضارات الغالبة", بعدما انحسر مد ومفعول وجدوى الحوارات السابقة, من قبيل الحوار شمال/جنوب, أو الحوار الإسلامي/الأوروبي, أو الحوار الإسلامي/المسيحي, أو ما سواها, فبات الحوار مع "الحضارات الدنيا", وسيلة لا غاية في حد ذاته (أو لربما هما معا, يقول البعض), سيما في سياق تزايد منسوب العنف والإرهاب في العلاقات الدولية, وتحول هذه "الحضارات الدنيا", إلى إناء ثم إلى مصدر, لتفريخ التطرف والكراهية والحقد والغلو, ورفض الآخر بالجملة والتفصيل. وعلى هذا الأساس, يقول أصحاب هذا الرأي, فإن الخطاب المتبني لحوار الحضارات من لدن الغرب, أو من لدن بعض من مفكريه ومنظريه على الأقل, لا يعبر من لدنهم جميعا, عن قناعة راسخة واقتناع أرسخ بجدوى الحوار, بقدر ما هو تعبير عن تصور تكتيكي واستراتيجي, يتغيأ الفعل في "العقل الجمعي" لشعوب وأقوام, لديانات وثقافات, لرموز وتمثلات ورؤى, بجهة دفعها للتساوق مع "النموذج الحضاري" الغربي, المراد تمجيده, والسمو بمقامه, والدفع به بجهة أن يتعمم على المستوى الكوني آنيا, أو بالأزمان المنظورة. + التموج الثاني ومفاده الاعتقاد, بامتداد للتصور السابق, بأن الرأي القائل بصراع الحضارات, إنما يدخل في خانة المبالغة المحيل على التآمر والأحكام المسبقة, وأن المقصود والمفروض, إنما قراءة طبع وطبائع الحضارات المختلفة, بغرض البحث عن سبل الاتصال والتواصل معها, في عالم بات معولما, ومنظوما بشبكات رقمية, حولته إلى قرية كوكبية واحدة, وإلى فضاء تشتغل بصلبه المعلومات والبيانات والمعطيات والمعارف, دون قيود جمركية, أو عوائق جغرافية كبرى, ودونما حجر كبير على تنقل الأفراد والجماعات, فضلا عن كل ذلك. هو تموج لا ينكر بالمرة وجود تنافر ما بين الحضارات, في زمن من الأزمان على الأقل, لكنه لا يدفع به لحد بلوغه مبلغ الصراع والصدام, بل يبني على النقيض منه, لينشد تثمين الحدود الدنيا من المشتركات, بغرض ضمان تعايش في الزمن والمكان بين الحضارات, دونما مركب نقص أو استعلاء أو تمييز, قد تمارسه هذه على تلك. + أما التموج الثالث, فيعتقد أن أشكال الصراع المقدمة على أساس كونها صراعا حضاريا, إنما هي شكل من أشكال الممانعات الثقافية, ونمطا من أنماط الحركات الاحتجاجية على حضارة "غربية" باتت عالمية بأكثر من مقياس وجانب, لكنها لم تستطع إدراك واستيعاب تنوع العالم من حولها, إما بحكم تماهيها مع مشروع رأسمالي مهيمن, أو تحولها إلى إيديولوجيا سياسية ودينية متطرفة, أو انتفاخ منسوب القوة العسكرية والتكنولوجية, التي لم تجد فضاء مباشرا للتنفيس عنه وتصريفه, ففجرته بوجه دول وأقوام وشعوب, ادعت أن منظومتها الحضارية لا تتساوق مع السائد من منظومات, سيما "الغالبة منها", أي ذات الشأن في تقرير حاضر العالم, وارتهان عناصر مستقبله. الصراع, وفق هذا التموج, ليس صراع حضارات, بقدر ما هو صراع مصالح واستراتيجيات وإرادات, على اعتبار أن الحضارات, وإن تمنعت عن بعضها البعض في زمن ما, أو قدر لها أن تتواجه بشكل من الأشكال, فإنها سرعان ما تعود, فتتواصل وتتكامل وتتعارف ثم تتلاقح, وهكذا. هي تموجات ثلاثة كبرى, تبدو متعارضة في شكلها ومظهرها, لكنها تدعو جهارة بالنسبة لبعضها, وبالمضمر بالنسبة للأخريات, تدعو جميعها إلى سلك سبيل الحوار بين الحضارات, تجنبا لاحتمالات الصدام, وتجاوزا على إمكانات التصادم. ومع ذلك, فالتموجات الثلاثة حمالة تأويلات وقراءات عدة...ومن هنا أبعادها الإيديولوجية, الجلي الواضح ببعضها, والمضمر الخفي ببعضها الآخر. يحيى اليحياوي