تحديد المفاهيم: الأمازيغية، التنمية والتهميش في البداية يتوجب علينا أن نحدد بعض المصطلحات التي سوف نستأنس بها في هذا المقال، حتى يكون فهمنا قريبا وواضحا، لا يشوبه أي إبهام أو استغلاق، وهذه المصطلحات هي: الأمازيغية، التهميش والتنمية. أ- الأمازيغية: إن هذه المفردة كثيرا ما توظف باعتبارها نعتا يلحق بمصادر أو منعوتات مثل: اللغة (الأمازيغية)، الثقافة (الأمازيغية)، المرأة (الأمازيغية) وغير ذلك، وقلما توظف بمثابة اسم أو مصدر مستقل. وهذا يدل على أن هذه الكلمة يمكن أن تستعمل بوجهين؛ إما اسما تابعا، قد يكون نعتا أو مضافا أو غير ذلك، أو اسما مستقلا لا يحتاج إلى اسم آخر يسنده ويكمل معناه. وفيما يخص الوجه الثاني يتخذ مصطلح الأمازيغية طابعا شاملا، حيث يشير معناه إلى منظومة عامة ومستقلة، تحيل على كل مكون أو سلوك أو معطى صادر عن الإنسان الأمازيغي في بعده التاريخي والواقعي، حيث تنضوي تحت الأمازيغية مختلف الموضوعات والسلوكات والأفكار والمعطيات... وفي شتى تشكلاتها وصيروراتها وتجلياتها الثقافية واللغوية والتراثية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والروحية والتاريخية والطبيعية وغير ذلك. ب- التنمية: إن الاقتصاديين يكثرون من استعمال عبارة التنمية، التي يقصدون بها رفع مستوى الدخل القومي بزيادة متوسط إنتاج الفرد، لكن هذه العبارة لم تبق محصورة في المجال الاقتصادي، بقدرما نزحت نحو أغلب حقول العلوم والمعارف الإنسانية، فيطلق على أية طريقة تستهدف تحسين وضعية ما أو تطويرها، من حالة الرداءة إلى حال الجودة والعطاء تنمية، التي يعبر عنها في القواميس اللغوية بتكثير الشيء وزيادته؛ فتنمية النار في إشباع وقودها، وتنمية التجارة في رفع أرباحها ورأسمالها، وتنمية الجوار في تطوير العلاقات فيما بين الدول المجاورة، وهكذا دواليك. ت- التهميش: يعنى بكلمة التهميش الترك أو التقليل من قيمة الشيء، فهي اكتسبت دلالات من قبيل: هيمنة الدولة واستعباد الرعية عن طريق الاستحواذ عن ممتلكاتها، مادية كانت كالأرض والبدن وسائر المنتوجات وغير ذلك، أم معنوية كالرأي والفكر ونحو ذلك، فهي تقلل بذلك من قيمة الرعية! أو إقرار نفوذ مجموعة من المستحوذين وإقصاء الآخر من بنية المجتمع المدني، أو العمل على حضور نمط معين من الفكر أو التراث أو الإبداع أو التقاليد، وتغييب وترك أنماط أخرى وغيرها من الدلالات. وهذه الدلالات التي يوحي بها مصطلح التهميش، تضاد معنى لفظة التنمية، مما يجعلنا ننصب هذين المصطلحين (التهميش/التنمية) على طرفي نقيض، حيث أينما ساد التهميش، كانت التنمية غائبة أو مغيبة، وكلما انتهج أسلوب التنمية، تبددت آثار التهميش. تهميش الأمازيغية يعتبر مفهوم التهميش من بين المفاهيم اللاديمقراطية التي استطاعت أن تحظى بوجود ثابت داخل المجتمعات العربية والإسلامية، فهي تمتد تاريخيا لتطال بنتائجها الوخيمة وخلفياتها غير المحمودة، بشكل أو بآخر، أغلب الفترات الزمنية من ماضي وحاضر الأمة الإسلامية، وتتشعب جغرافيا لتعشش عبر مختلف بقاع وتخوم العالم الإسلامي. وهذا يعني أن التهميش تعمم، ولم ينج من قره أو حره مواطن أو غريب، بادية أو حاضرة... باستثناء زمرة من ذوي الجاه والسلطان ومن كان في حزبهم. وعندما نتصفح وضعية القضية الأمازيغية، ندرك أن هذا المفهوم ينطبق عليها أكثر، فبالرغم من أن جزءا عظيما من ساكنة شمال أفريقيا وما يتاخمها من دول الصحراء الأفريقية، تنحدر من جذور أمازيغية، وتنتظم في نطاق الثقافة الأمازيغية، فإنها تعامل من الأجهزة الرسمية الحاكمة، وكأنها غريبة وحتى في أوطانها، حيث التغييب التام للغة التي يتكلمونها، والطمس الممنهج للثقافة التي ينتمون إليها، والمسخ السافر للتراث الذي تناقلوه عن أجدادهم وأسلافهم، إلى درجة أن العديد من المشارقة أو الغربيين لم يكتشفوا إلا مؤخرا أن أغلب سكان الشمال الأفريقي، الذين يقطنون دول المغرب الكبير، ليسوا عربا وإنما أمازيغ. والمرجع في ذلك بالدرجة الأولى، إذا ما اقتصرنا على مرحلة ما بعد استقلال دول العالم الثالث إلى يومنا هذا، إلى السياسات التي اعتمدتها الدول التي يوجد فيها الأمازيغيون، وهي سياسات مبنية على أسلوب الإقصاء، الذي هيمن على سائر أجهزة الدولة ومؤسساتها، بل ولم تنج من ذلك حتى أغلب المؤسسات الحزبية، التي كان لزاما عليها أن تتبنى القضية الأمازيغية، ربما لأنها كانت قبل بداية الألفية الراهنة، لا تشكل ورقة رابحة في اللعبة السياسية، ورقة من شأنها أن تستجلب أكبر عدد ممكن من الأصوات، وهذا لا يعني أن الملف الأمازيغي كان غائبا من مذكرة بعض الأحزاب، وإنما بادر البعض بتبنيها، لكن بشكل مقزم وإقصائي، حيث كانت الأمازيغية دوما تعامل باعتبارها قضية ثانوية (فوق الشبعة!)، حتى من لدن أولئك المتاجرين السياسيين الذين يحسبون على الأمازيغية، وهي بريئة منهم براءة الذئب من قميص ابن يعقوب! من خلال هذا يتضح أن السياسات التي انتهجتها الدول التي ينتمي إليها الأمازيغ، عاملت الشعوب على أنها مجرد أشياء مجردة، لم توجد إلا لتلعب دور ذلك المواطن المطيع الذي لم يخلق إلا لتلقي الأوامر وتنفيذها، وإن هو لم يقبل بذلك، أصبح مرفوضا من قبل الدولة، وعومل على أنه مشاغب أو خارجي! وهذا يدل على أن علاقة الدولة بالمواطن، لم تكن مبنية على تبادل عادل للحقوق والواجبات، بقدرما يظل المواطن مرهونا بشتى الواجبات، ومحروما من أدنى الحقوق! وحتى نكون منصفين، فإن هذه الوضعية اعترت كل شرائح المجتمع، عربا كانوا أو أمازيغ أو غيرهما، غير أن التهميش الذي تعرض إليه الكثير من المواطنين ذوي الجذور العربية، قد يقتصر على ما هو سياسي أو اقتصادي، في حين أن تهميش الأمازيغيين اتخذ طابعا شموليا، مس كل نواحي الحياة وحيثياتها، فلم يقتصر على ما هو سياسي أو اقتصادي، بقدرما تسرب إلى ما هو وجودي في الذات الأمازيغية كاللغة والثقافة والهوية وغير ذلك، فالعربي رغم فقره وخصاصه الاقتصادي، كان يتمتع بتعلم لغته الأم وتلقي ثقافته الأصلية، أما الأمازيغي فينضاف إلى فقره وخصاصه الاقتصادي، حرمانه أحيانا حتى من التكلم بلغته الأم، وبالأحرى تلقي ثقافته الأمازيغية! وإجباره على تعلم أو تبني مفاهيم فكرية واجتماعية وحضارية، لا تمت بصلة إلى بنيته اللغوية والنفسية والأخلاقية، مما يجعله يعيش قطيعة وجودية مع ذاته وتاريخه وواقعه. وهذا التهميش الذي ظل الإنسان المغربي عموما، والأمازيغي خصوصا، يترنح تحت وطأته طوال عقود ممتدة، استطاع أن يتسرب مفعوله إلى أغلب مجالات الحياة، فيجعلها راكدة أو مغيبة أو مؤجلة، والغريب في الأمر أن ذلك التوزيع الترابي التقليدي الذي كان سائدا لقرون عدة، حيث كان المواطن الأصلي الأمازيغي ينعزل في الجبال الوعرة، وينفرد المواطن العربي الوافد، وبالتحديد ذلك المتواطئ مع المخزن أو الدولة، بأراضي السهول الخصبة والمثمرة، امتد ما بعد مرحلة الاستعمار بنفس الشكل، وإن تباينت الأسماء والمصطلحات، فالمسميات والمعاني واحدة، إذ تعتبر حالة المغرب خير مثال ينمذج لهذه الوضعية، اعتبارا بأن المغرب مقسم إلى شقين هما: المغرب النافع والمغرب غير النافع، وإن كان هذا التقسيم هو من نسج الاستعمار، إلا أنه استطاع أن يستمر رغم رحيله، وبشكل شرس وقوي، تعمقت فيه الهوة بين المغرب الخصب والنافع، حيث توجد أجمل المدن، وتتموقع أغلب الاستثمارات والمؤسسات، ويحظى ذووه وساكنوه بمختلف أسباب الرفاهية من تعليم وصحة وبنى تحتية وغير ذلك، والمغرب المجدب وغير النافع، أين يعشش الفقر، وتغيب أبسط مرافق الحياة وأدنى ضروريات العيش الكريم. فالمغرب الأول مغرب يسوده التبادل العادل بين الدولة والمواطنين للواجبات والحقوق، وأغلب ساكنيه من أصول عربية أو أجنبية، تمكنوا من تلقي العلم والمعارف، مما ساعدهم على الانفراد بأغلب المؤسسات التعليمية والاجتماعية والسياسية، في حين سيج المغرب الثاني بعزلة تامة، أقصته من المشاركة المتبادلة في مؤسسات الدولة، فعمته الفوضى واللا قانون، مما دفع البعض إلى تسميته (بلاد السيبة)؛ أي بلاد يسودها ما يشبه قانون الغاب! ومعظم مواطنيه من جذور أمازيغية، دفعهم ذلك الإقصاء الذي مورس عليهم، إلى ردود فعل، ترجمت في شكل ثورات سواء، ضد الآخر، كالتي وقعت ضد النظام مباشرة بعد استقلال المغرب، أم ضد الواقع، وذلك في شكل هروب من الوطن، والبحث عن فسحة أخرى في المهجر أو المنفى، لذلك نرى أن أغلب المهاجرين المغاربة من أصول أمازيغية. وحتى نكون أكثر إنصافا، ينبغي أن لا نلقي بكل المغاربة من أصول عربية في نفس السلة، فنحن عندما نتحدث عن النظام أو الدولة أو السلطة، لا نقصد بذلك الجنس العربي، وإنما نقصد بذلك تلك العقلية الحاكمة التي تسيء فهم مصطلح القومية العربية، فتؤسس ما هو عربي على أنقاض أقليات أو أعراق مغايرة لها، فتشعل بذلك قلوب المنتمين لتلك الأقليات آو الأعراق بالضغينة والكراهية لكل ما هو عربي أو إسلامي، في حين أن الواقع يشير إلى أن الشعوب برمتها، وعلى اختلاف مكوناتها اللغوية والثقافية والعرقية، نالت من ويلات التهميش والاضطهاد والجور، وتخصيص الحديث هنا حول الأمازيغية لا يعني أننا نهمش العروبة أو المغاربة العرب، بقدرما يتعلق بطبيعة الموضوع الرئيس الذي نشتغل عليه في هذا المقال، وهو موضوع الأمازيغية. الأمازيغية أكثر مما هو لغوي أو ثقافي! وقد استتبع هذا التهميش الجغرافي أو الترابي، تهميش آخر اعترى الإنسان الأمازيغي في حد ذاته، حيث لا يتمتع الأمازيغيون بوجود فعلي، وفي ظل الهوية الثقافية واللغوية والحضارية التي ينتمون إليها، بقدرما يبدون وكأن لا علاقة لهم بالأمازيغية، فالتعليم وغيره من القطاعات الحيوية معرب أو مفرنس، والإعلام، قبل بداية الألفية الثالثة، تعامل مع قضايا الأوطان التي يوجد فيها الأمازيغ، بشكل انتقائي وإسقاطي، حيث لا تشتم منه رائحة ما هو أمازيغي، والدستور لا يجلي الواقع إلا مزيفا، حيث لا تحظى القضية الأمازيغية ولو بذرة اهتمام، وهكذا دواليك. إلى درجة الإحساس بأنك توجد في واقع غير أمازيغي، إلا من حيث تجليات باهتة للثقافة الأمازيغية، تلمسها في أنشطة بعض الجمعيات وإسهامات زمرة من المثقفين، وفي بعض المعروضات التراثية التي تكسيها السياحة بطابع تجاري بحت، وما عدا ذلك فينعدم أي حضور مقنن أو مدعوم من السلطة للأمازيغية. وهذا التغييب الممنهج لثقافة المغرب الأصلية، استمر منذ الاستقلال السياسي لبلدان العالم الثالث إلى أواخر الألفية الثانية أو بدايات الألفية الثالثة، أي طوال ما يعادل النصف قرن من الزمن، ولما تمكنت الحركة الأمازيغية بالمغرب على سبيل المثال، من إقناع الدولة بضرورة النظر في ملفاتها المودعة في سلة النسيان، وأن الأوان حان لتفعيل القضية الأمازيغية، وأن للصبر حدود! أدرك العديد من الفاعلين والمثقفين الأمازيغيين الشرفاء منذ البداية، أن الطريقة التي تعامل على أساسها الأمازيغية، تنطوي على أكثر من خلل، حيث منهم من استرعى انتباهه بطء تنفيذ المشاريع والأوراش التي وعدت بها الأمازيغية، ومنهم من أشار إلى تغييب اللغة الأمازيغية من فحوى الدستور المغربي، ومنهم من لاحظ أن الأمازيغية لم تنل حظها الكافي داخل المنظومة القضائية والصحية وغيرهما، وغير ذلك من الآراء والملاحظات المهمة، لكن أغلب ما تسنى لنا الاطلاع عليه من الطروح، تكتفي في تناولها بأمرين، وهما: اللغة والثقافة الأمازيغية، وأحيانا قليلة تعرج على قضية المرأة الأمازيغية. إن أهم المطالب والحقوق التي وضعتها الحركة الثقافية والسياسية الأمازيغية أمام ناظري الدولة المغربية أو غيرها، كانت لا تخرج في أغلبها عن إطار ما هو لغوي أو ثقافي، كانت من جهة تنادي بتدريس اللغات الأمازيغية ودسترتها وتعميمها على شتى القطاعات الاجتماعية والتعليمية والسياسية والاقتصادية والإعلامية وغير ذلك، ومن جهة أخرى ظلت تحض على توجيه الاهتمام إلى مختلف الأشكال والمظاهر الثقافية والتراثية والفنية والتعبيرية التي تحبل بها الحضارة الأمازيغية. وهذا لا يعبر عن التقليل من هذه المطالب، بقدرما يعبر عن أن الرؤية التي نتناول بها الأمازيغية ينبغي أن تكون شمولية، تنصب على كل جوانب وحيثيات القضية الأمازيغية، وما اللغة والثقافة إلا مكونان أساسيان، لكن لا يعكسان الأمازيغية برمتها، لذلك نرى أنه بالرغم من الأهمية التي نالها الملف الأمازيغي داخل المغرب، إلا أن ذلك لم يتسلل بعد إلى واقع الناس، ولم ينعكس بعد في حياتهم العادية، وهذا يرجع إلى خلل ما في الطرح. وهذا الخلل يتمثل في غياب التناول الشمولي الذي لا يفهم الأمازيغية إلا باعتبارها بنية كلية، لا تتقدم إلا إذا حصل تثوير كل أجزائها وتنميتها، وهذا التثوير أو تلك التنمية تبدأ أولا وقبل كل شيء من الاهتمام بالإنسان الأمازيغي نفسه، فبمجرد ما ينال هذا الإنسان حظه من التنمية فكرية كانت أم صحية أم اجتماعية أم اقتصادية أم غير ذلك، تنتعش فيه روح الإبداع والعطاء، فتزدهر اللغة، وتثمر الثقافة، فيعم التغيير الأمازيغية بشكل تلقائي، لا يقتضي الدعاية أو البهرجة أو التطبيل! لكن إذا ما بدأنا بما هو فوقي أو كمالي كأن يكون عندنا مسرح أمازيغي أو قناة أمازيغية أو غير ذلك، وهي أمور جميلة ومهمة، وفي ذات الوقت يظل الإنسان الأمازيغي يرزح تحت وطأة الحاجة والتهميش والتغييب، فلن يفيد ذلك المسرح أو تلك القناة في شيء! لأن المتلقي الذي يستهدفه خطاب المسرح أو الإعلام غائب أو مغيب، وهذا ما حدث بالضبط فيما يخص نشرة اللهجات الأمازيغية التي تذاع من القناة المغربية الأولى، فهي لا تجدي المشروع الأمازيغي في شيء، رغم أنها بدأت إذاعتها منذ حوالي ما يعادل عقدا من الزمن، غير أنها لم تزد قيد أنملة عن المستوى الذي بدأت به، إلى درجة أنه عندما يحين وقتها يغير الكثير من الأمازيغ وجهة التلفزة إلى قناة أخرى! إذا كان بناء البيت الآمن يبدأ من تشييده على أساس متين، فإن التنمية الحقيقية للأمازيغية أو غيرها من قضايا الإنسان المغربي الحيوية والمصيرية، تبدأ من تنمية هذا الإنسان، على أساس التبادل العادل للحقوق والواجبات بين الدولة والشعب. التجاني بولعوالي باحث مغربي مقيم بهولندا www.tijaniboulaouali.nl ""