المتابع لتطورات النقاش الفرنسي حول العلاقة بين السرطان والخمر، والذي تجدد بعد حوار الأسبوع الماضي مع رئيس المعهد الوطني الفرنسي للسرطان في يومية لوموند، وعلاقة الخمر بالتسبب في السرطان، يشعر بنوع من الحسرة على المنطق المقلوب لجزء من نخبتنا التي تصورت أن الحداثة هي في استيراد ما يضعف لا ما يحقق التقدم، والذي يبقى هو التفسير الوحيد للسلوك الذي أقدمت عليه مؤسسة ماكرو بالترويج لإشهارات تضمنت عرضا لأسعارها الخاصة بأنواع الخمر، وغني عن الذكر أن هذا السلوك الإشهاري مرفوض في الغرب، لأنه يهدد فئات هشة كالصغار والقاصرين بالتعرض لخطر الدعاية للخمر، ولهذا يصعب عرض الخمر في الحملات الإشهارية المجانية، هذا في الوقت الذي بدأ عدد المصابين بالسرطان في الارتفاع سنويا ليبلغ حاليا ما معدله 40 ألف حالة سنويا، ومع ذلك لا يتردد البعض في الافتخار ببلوغ رقم 35 مليون قارورة وتصاعد العجز التجاري الناجم عن استيراد الخمر بعد أن وصلت الورادات لما يفوق 39 مليار سنتيم في سنة 2008 في مقابل صاردات بأقل من 9 مليار سنتيم . في الحوار الذي نشر في عدد التاسع من أبريل مع البروفيسور دومينيك مارانينشي رئيس المعهد الوطني الفرنسي للسرطان(INCA) أبرز أن كأسا واحدة من الخمر مهما كان نوعه كافية للإصابة بالسرطان. وهو ما ينفي ما كان يُعتقد سابقا من أن الإدمان على الكحول القوية هو الذي يسبب هذا المرض الخطير، كما أن المذكرة التي بعثها رئيس هذا المعهد إلى مهنيي الصحة في فرنسا أواسط فبراير الماضي وتضمنت عرضا لنخبة من الدراسات العلمية حول العلاقة بين التغذية والسرطان ووجود الكحول في مقدمة المواد المسببة لأنواع كثيرة من السرطان، حيث تبدأ نسبة احتمالات الإصابة من نسبة 9 في المائة بالنسبة لسرطان القولون المستقيم إلى 168 في المائة بالنسبة لسرطان الفم والبلعوم والحنجرة، مرورا بأنواع أخرى من السرطان كسرطان المرئ والكبد والثدي، بحيث أن الكحول أصبح بمثابة السبب الثاني للوفيات في فرنسا وذلك بعد التبغ. وقد نشرت تغطية مفصلة في يومية لوموند في عددها ليوم 19 فبراير عن هذه المذكرة والتي كانت بمثابة الزلزال. في المغرب الذي تعودت نخبه سواء الحاكمة أو المؤثرة من خلال منابرها الثقافية والإعلامية على استيراد كل سيء من بلاد المستعمر السابق لم تثر فيها هذه الحقيقة العلمية أي ساكن. بل إن متاجرها الكبرى، ومع صدور المذكرة في فرنسا، وخوفا على تجارة المسكرات المربحة للبعض على حساب صحة المواطنين قد استبقت الحدث وأطلقت حملة دعاية وإشهارية مكثفة للخمور. في جميع الأوساط، خصوصا الشعبية منها لأنها هي السوق الأكثر كثافة سكانية، وبالتالي الأكثر درا للربح. وأكثر من ذلك الإشهار للخمور في الجرائد التي توزع مجانا على المواطنين في الشوارع مع العلم أن هذه الجرائد المجانية إنما تستهدف الفئات الهشة من المواطنين. يقول البروفيسوردومينيك مارانينشي، والذي يمثل سلطة مرجعية علمية في هذا المجال في فرنسا: هناك حالة من الغموض تكمن في كون الكحول وبسبب الإيتانول الذي يحتوي عليه هو مسبب للسرطان وهذا مؤكد بأدلة قاطعة لا تقبل الجدل. والغموض يأتي من كون هناك من يحاولون إيجاد ذرائع في مثل قولهم: الكحول سيء، أما الخمر فلا. ولهؤلاء أسوق خبرا سيئا كذلك: يوجد الإيتانول في الخمر أيضا! قد يقول قائل: يكفي الاعتدال في استهلاك الإيتانول. ولكن ليس هناك أي معيار لتحديد العتبة الدنيا التي يمكن القول إنه في أقل منها ليس هناك خطر للإصابة بالسرطان. فنقطة واحدة من الإيتانول يمكن أن تصيب بالسرطان. هذا كلام علمي لا يقبل الجدل. وديننا الحنيف قد حرم حتى القليل مما يسكر كثيره، وحرم ولو جرعة واحدة منه. ومن العار ألا يكون في المغرب المسلم أي قانون يمنع الإشهار للخمور مما يفتح الباب أمام بعض المستهترين بصحة الناس لكي يربحوا أموالا حراما من الإشهار للخمور في أوساط المسلمين. ما الذي قامت به وزارة الصحة المغربية بعد صدور هذا المعطى العلمي الصارخ لحماية صحة المواطنين التي هي مسئولة عنها أولا ومؤتمنة عليها؟ ما الذي فعلته وزارة الداخلية في الموضوع؟ ما الذي أثاره هذا المعطى العلمي الصارخ في المهووسين عندنا باستجلاب كل ما يخالف تقاليدنا وقيمنا وديننا؟ أم أنهم مهووسون فقط بتقليد الأسوأِ، وعندما يعترف المقلَّد بسوء ما كان فيه ويعمل على تصحيح أخطائه تصاب آذانهم بالوقر والصمم.