أزعم أن صعود نجم رجب طيب أردوغان له ما بعده، وأن إنجازاته حبلى بما يسهم في ترشيد مسار الصحوة أيما ترشيد. لنسترجع أحوال العالم الإسلامي لعقود خلت. كان العالم الاسلامي مشدوداً إلى أعلام ومنارات تنفس الغضب عن رجل الشارع المأزوم بتشنيف الأسماع وإلقاء الحمم الخطابية، ذوداً عن مقدسه المنتهك على طريقة عبد الحميد كشك، أو انتصارا للعزة والكرامة على طريقة جمال عبد الناصر الذي لم يكف عن توعد إسرائيل بالويل والثبور حتى أقعدته في ستة أيام. والنتيجة ما حكاه عمر عبيد حسنة: إقبال زائد على الخطابة عند جمهور الصحوة وفي كثير من الأحيان على حساب التخصص وإنتاج البدائل. وبالموازاة مع ذلك وبعده كان الجهاد في أفغانستان والشيشان والبوسنة ملء السمع والبصر، كان بريق الثورة والمغامرات يخطف الأبصار، كان البطل ساعتها يجسده شهيد الوغى والمرابط في الجبال، وكانت حكايات كرامات المجاهدين تتكفل بالتعويض النفسي عن مسلم تائه في وطنه حيران. والنتيجة ما حكاه جودت السعيد: انخراط الشباب المتوثب في المشاريع المتعجلة السريعة المردودية، وعزوف قطاعات عريضة منهم عن المشاريع البعيدة المدى والأثر. واليوم، في ملحمة غزة، كان لافتاً صمود المقاومين وبسالتهم، كان لافتاً يقظة صناع الرأي العام وتجندهم، لكن بلاء ذاك السياسي المحنك أردوغان ورفاقه كان أكثر ما شد انتباه الجماهير المكلومة. صمود المقاومين ليس جديداً، تجند ثلة من العلماء والمفكرين وفريق بارع من الصحفيين ازداد تألقاً أجل، لكن أداء السياسي الذي يجمع بين الواقعية ومعانقة أشواق الجماهير -إلى تلك الدرجة- جعلته يعتلي منبر العالم الإسلامي، ولكن هذه المرة ناطقاً مسؤولاً وليس متهوراً لعاناً، وتأسيساً على البديل العملي الذي تحكي عنه الأرقام والحقائق وليس بالنقد والتجريح وكفى. لقد وضع محمد ضريف في كتابه ثلاث محطات في تطور الحركة الاسلامية (الكمالية ولحظة الولادة)، (الناصرية ولحظة التجذر)، (الخمينية ولحظة الشرعنة). ولئن سلمنا بهذا التقسيم، والكتاب صدر منذ عقد من الزمن (سنة 1999)، فبماذا يمكن أن نرمز لوضع الحركة الاسلامية المغربية اليوم؟ ألا يقتضي الإنصاف أن نُفَتح أعيننا على الفصل الذي تجري وقائعه هذه السنوات والذي يبصم جمهور الصحوة بالنموذج التشاركي التركي الذي يعلو خفاقاً، ويلوح بالأمل، بعدما أفل النموذج الانقلابي السوداني، والنموذج الثوري الإيراني الذي آل إلى حكم ثيوقراطي بتعبير راشد الغنوشي، والنموذج الجزائري الذي تردى إلى العنف المأساوي، والنموذج الإخواني المصري والأردني الذي يتراجع تارة بسبب تكلس فكري وتارة بسبب إصرار بعض أجنحته على التعاطي مع التحولات الداخلية والاقليمية بالطريقة القديمة نفسها أو بطريقة جديدة ومتهورة؟(1) ثم أليس لافتا أن تظل راية حزب العدالة والتنمية التركي فوق الرايات، هو الذي تكاثرت في عهده الأسر التي كانت تمتلك نحو مليار دولار من ثلاث أسر إلى ستة وعشرين من عام 2002 إلى عام 2007؟ (الشرق الأوسط 22 أكتوبر 2007). وكأن ما يسميه معارضوه ميلا للأغنياء على حساب الفقراء، يراه قطاع عريض من الجمهور تصديا للفساد، انتعاشا اقتصاديا، تشجيعا لبروز الرأسمال الوطني ،جذبا للاستثمارات الاجنبية ودينامية في الترقي الاجتماعي. وهو ميزان يحتاج على الدوام إلى المراجعة والتصحيح ـ وخاصة في ظروف أزمة اقتصادية عالمية، ولعل ذلك ما انتبه إليه بعد الانتخابات الأخيرة. إنه الحزب الليبيرالي ذو المرجعية الاسلامية الذي يقول عنه معارضوه أنه قدم تنازلات خطيرة تمس الدين، وتقول عنه الجماهير أنه كان الأكثر تموضعاً واقتدارا لفعل شيء ما لأجل أرواح الناس في غزة ومن هم أشرف عند الله من الكعبة. أليس ملفتاً أن تعرض جماهير الصحوة عن إسلاميي الأردن الذين فقدوا أهم معاقلهم النقابية، أقصد نقابة المحامين، أسابيع بعد مذبحة غزة التي أبلوا فيها تظاهرا واحتجاجا، وتتفهم ـ هي التي تهفو إلى المُثُل ـ واقعية أردوغان وهو يتحدث عن عدم إقدام تركيا على قطع علاقاتها مع إسرائيل؟وكأن الخارطة المعرفية الذهنية لجمهور الصحوة تسعفه اليوم للانخراط في الحلول الممكنة والمنتجة، المدروسة والصبورة بدل المشاريع الانفعالية . وها هو أوباما قد اختار تركيا لتكون أول بلد مسلم يزوره، فتبهت الأصوات التي كانت تود النيل من مواقف أردوغان بدعوى إضرارها بمصالح تركيا، ولاسيما بالنِّـسبة لكسب اللُّـوبي اليهودي في الكونغرس الأميركي للحيلولة دون الإعتراف بـالإبادة الأرمينية، كما بالنسبة لاستمرار الدّور التركي الوسيط في المنطقة. لعل أجمل ما في النموذج التركي، كونه يحمل مشروعاً جامعاً، يضع في الحسبان إكراهات المحيط الإقليمي والدولي، ويأخذ في الاعتبار البلد برمته، أغنيائه وفقرائه، إسلامييه وعلمانييه وليبيرالييه، جماهير شعبه ونخب دولته العميقة. تماماً كما أن أجمل ما في النموذج المغربي الذي ينسجه أهله على غرارهم، أنه يتبلور بجهود يسهم فيها تيار إسلامي امتاز على نظرائه في الساحة العربية بسبقه إلى الاعتدال السياسي، وتموقعه في عمق المشروع الوطني بعيداً عن مشاريع النقاء الإيديولوجي. وذلك بتساوق مع جهود تيارات وطنية مؤهلة، بإيديولوجياتها المنفتحة غير المتصلبة، لأن تكون مكونا من مركب الخلاص كما لم يفعل نظراؤها في المشرق أو دول الجوار. أما الدولة فقد حالت، بسياستها الاستيعابية، في العديد من المحطات، دون انسداد الأفق وأبقت على شيء من الأمل لدى مواطنهاـ على الرغم من الضغوط الخارجية والدعوات الاستئصالية ـ إذ لم تغتصب حقه في التعبير ولم تعطل دوره في التعمير بسبب انتماءه لهذا الطرف أو ذاك ما دام ملتزما بالثوابت. وهل تجتمع الكلمة ويتوحد الصف وتتحقق وعود الخلاص بغير الاستيعاب والتعايش، بغير الإشراك والتشارك، بغير التسديد والتقريب؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) (أنظر كتاب الإخوان المسلمون في مصر.. شيخوخة تصارع الزمن للباحث خليل العاني)