الصحوة الثانية الرواد والآفاق ليست الصحوة ملكا لأحد، لا لحزب ولا لطائفة، لا لفرد ولا لمجموعة، وإنما للكل نصيبه في الدفع بها خارج العدم، فللداخل نصيبه وللخارج نصيبه، ساهم فيها من كان خارج الحدود في صبره على المنفى وعذابات الفراق والعزلة، ولم ينسى يوما وطنا آل ألا يبيعه، وأن لا يرى غيره له الدهر مالكا، وجاهد وناضل صوتا وقلما، وهو ممسك على دينه وعلى حبه لوطنه كالماسك على الجمر، أمام التداعيات والتحدي والضغوطات ومطالب العيش والرزق، يتلمس إشراقة من وراء الحدود، ويدعو بكل ما أوتي من قوة وجاه إلى عدم ترك غصن الأمل يسقط والرجاء يتهاوى. مات الوالد فلم يقدر على مرافقته إلى مثواه الأخير، وبقيت الأم الحنون ولم يقدر على مساواتها، وظل واقفا في ميدانه، ترنو عينه لحظة إلى الغيب وهي تستشرف تدخله، وإلى الحاضر حينا لتشكو ظلم العباد وبعد البلاد..، و تعرض سماحة القلب وتجاوز التشفي، وتضرب موعدا جديدا مع التاريخ، و تبني الأمل في شروق الشمس من جديد ومن مشرقها.. فكانت إرادته و عزمه عونا ودافعا للخروج، وكان صبره أملا لجيل الداخل، و إصراره تفائلا في صدق المسعى ونجاح المسار. وكان للداخل نصيبه، ولعله الأكثر مساهمة، فمنه انطلق التحدي، وعبر جيله الشبابي تواصل الحمل هادئا رصينا، لم يعرف حزبا و لا طائفة، لم يأنس إلى سياسي أو إلى حركي، كان همه الأول هو إشفاء ظمئه من مطالب الروح التي تهاوت، فكانت العودة إلى رحاب الشعيرة والطقوس، وكان اللقاء ربانيا خالصا، كان اللقاء فطري المنشأ، عبادي المصير! لقد كانت الحركة الإسلامية الإصلاحية الدافع والحاضن للصحوة الأولى ولا شك، ولكنها غابت اظطرار عن ساحة الفعل في انطلاق الصحوة الثانية، وربّ ضارة نافعة، ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد، ولكن الله قدّر! ولكن لا يعني أن هذا الغياب كان عامّا، فليست البذرة التي تركت آثارها داخل البلاد رغم العواصف والرعود قد غابت كليا. فمن كان في سجنه ساهم ولو من بعيد بصبره ودعائه ورفضه للانحناء للجور والعداء، ولعل دمعات حمراء في ليال سوداء على أحجار صماء، قد ساقت الغيب إلى تلبية النداء... ومن كان خارج السجن، كان ماسكا على دينه في ظرف كان التدين مجلبة للبلاء والمنغصات، فمنع بعضه في ثيابه، والبعض في معاشه، والبعض الآخر في سفره وتنقله، وقاست أسر وأفراد..، ورغم ذلك بقي الدين في صفائه وبقي هذا الفصيل محافظا على شعائره أمينا على عقيدته. فكانت معاناته تذكيرا بعدم موت الفكرة وبصلاح العهد وتواصله، وأملا في إعادة ترتيب البيت على أسس جديدة وبرجال جدد. فكانت علاقة الحركة الإسلامية مع الصحوة الجديدة روحية خالصة، تحمل في طياتها مفارقة القرب والبعد، قريبة في همومها، بعيدة في تأثيرها المباشر، ويكفيها فخرا وزيادة ولعل في ذلك كل الخير للصحوة! ولقد كان للتكنولوجيا الحديثة أثرا كبيرا في مسار الصحوة وفي انطلاقتها، فكانت الفضائيات والإنترنت عامل بناء وتنشئة لهذا الجيل الذي أغلقت حوله أبواب الأرض، فجاء الفرج من السماء، حتى لُقِّب العائدون إلى رحاب الدين بمسلمي الأطباق، نسبة إلى لاقطي القنوات الأجنبية، ولعله فأل خير أن يكون منشأ اليقظة علميا تكنولوجيا في الحمل والإطار، ولعله يؤثر إيجابا على المحتوى وعلى الخطاب وعلى حامليه! فكانت دروس وخطب كل من عمرو خالد على قناة إقرأ، والشيخ القرضاوي في الجزيرة والمرحوم شحاتة على الفضائية المصرية والدكتور السويدان في قناة دبي وغيرهم، كان لهم التأثير البالغ في نحت سلوك جديد وتكوين عقلية جديدة وفي إرساء الأسس الأولى لهذه العودة. التدين الاجتماعي والعلاقة المحظورة إن هذه العودة التي شهدتها البلاد منذ أواسط التسعينات، تدعو طرفي المعادلة من صحوة قائمة وحركات بارزة، إلى معرفة أدوار كل طرف، والوعي الكامل بحدود التماس والخطوط الحمراء، التي لا يجب ملامستها فعلا ونظرا، والاحترام الكامل لسنن التدرج والفعل الهادئ والبنّاء. إن مهمة الإسلام الحركي في ظل هذا المنهج التديني العام والصاعد تتنزل في مرحلتين : 1 مرحلة أولى تتمثل في عدم اقترابه من هذا الزخم وهذه الاستفاقة الدينية خطابا ورجالا، فلليقظة رجالها وخطابها ومنهجيتها وإطارها، وللحركة الإسلامية خطبائها ومشرفوها وميدانها، بعيدا عن المسجد ودور التدين العام ومناسباته، حتى لا يصطبغ هذا بذاك، وتختلط الأطر ويفقد كل منهما خصائصه ودعائم نجاحه. و تشكل هذه المرحلة ثلاث نقلات يشهدها المدّ الصحوي : · النقلة العقائدية والروحية : وهي المرحلة التي تعيشها الصحوة حاليا، ويتمثل شعارها المرفوع لدى أفراد ها هو "خلوا ما بيني وما بين ديني" في مفهومه الشعائري العبادي من صلاة وصيام وقيام وأذكار وارتياد للمساجد ولبس الحجاب. · النقلة المنهجية : وهي المرحلة التي تستلزم الانتقال من المسؤولية الفردية إلى حمل هم الجماعة ونعني بها المشاركة بوعي وعلم وصدق في تنمية البلاد وعدم التقوقع على الذات والانسحاب من الحياة العامة لكونها جاهلة أو كافرة أو غير ذلك من المبررات. شعار هذه المرحلة خلوا ما بيني وما بين ديني في مفهومه المدني. وهي نقلة نوعية متقدمة وأساسية في تشكيل عقلية مواطنة لدى أفراد الصحوة واعتبارهم جزء هاما وفاعلا داخل مؤسسات المجتمع. هذا لا يعني أن هذه العقلية غير متوفرة في النقلة الأولى، ولكن ما أردنا التعبير عنه هو تعميق هذا التوجه وتعظيمه واعتباره شعار مرحلة. · النقلة التعاملية : ونعني بها انتقال الصحوة إلى الإشباع الإقتصادي الحلال. شعار هذه النقلة "خلوا ما بيني وبين ديني في مفهومه المعاملاتي". فبعد أن وفرت لنفسها روحا عبادية، ومشاركة مدنية، لا يسع هذه الصحوة إلا البحث عن المورد الإقتصادي الذي يتناسق وينسجم مع توجهها العبادي، ، فالصلاة عادة والصوم جلادة أما الدين فهو المعاملة. فبعد أن عبدت هذه الصحوة ربها طقوسا وشعيرة ومواطنة، يكتمل النموذج الصاعد بتوفير الجانب الإقتصادي من تعامل غير ربوي عبر تشجيع المؤسسات القائمة على فتح نوافذ وطرح عمليات لا تتعامل بالربا أو السعي لبعث مؤسسات من هذا القبيل. 2 أما في المرحلة الثانية فإن هذا المد التديّني الذي انطلق شعيرة وطقوسا، وتواصل مواطنة واقتصادا، سوف يبحث عن البديل في المجالات التي تنقصه لتكتمل الحياة "الطيبة" في مفهومها القرآني. فمن جانب الصحوة فإن الشعار الختامي لهذه الرحلة في إثبات الذات هو "خلوا ما بيني وبين ديني في مفهومه السلطاني والتشريعاتي" وهو البحث عن المشرّع والحاكم الذي ينطلق من المرجعية الإسلامية والتصور الإسلامي في شؤون الحكم والإدارة والاجتماع والأحوال الشخصية. أما الإسلام الحركي الإصلاحي وقد ظل يبني نفسه وبيته، في فترة من الانتظار الإيجابي والفاعل، معرفة ووعيا بالتجاذب السياسي، وتبنيه لموقف التحكيم ودور اللوبي، الذي أفضنا فيه في مقالات سابقة[[1] ]، واحترامه لسنن الواقع وعدم القفز عليه، فسوف يمثل المدد الطبيعي، والإجابة المحتومة لتساؤلات الصحوة وبحثها للاستكمال صورتها وتفعيل ذاتها. فيكون اللقاء حتميا وناجحا، إذا روعي تباينه وانفصاله السابق، وسعى كل طرف إلى استكمال مراحله، دون تسرع أو مشي على أطر الطرف الآخر، وعدم خلط في المناهج والأساليب والقيادات. وقفة منهجية مع الظاهرة لا تزال ظاهرة التدين الاجتماعي تنحت مسارها وتسطر طريقها في مناخ صعب وإطار هش ومهتز على أكثر من باب، مما جعلها تتميز في بعض محاورها وتجعل من إمكانية التجاوز والنجاح خليطا فريدا من عوامل الداخل و الخارج. إن فهم هذه الخصوصيات مطية لفهم القطيعة المرحلية الضرورية مع الإسلام الحركي وما تلزمه به من خطاب وممارسات حتى يحدث اللقاء المحتوم على أحسن حال. 1 الخصوصيات : لقد خلصنا في مراجعتنا للظاهرة ونحن نتلمس طريقها وروادها، إلى وجود خمس خصوصيات تمتعت بها الصحوة في انطلاقتها وفي مسارها، وهي على التوالي : غياب علماء الداخل، شمولية الصحوة، الدور الجديد والملفت للمرأة، المصالحة والتفهم الهادئ لواقعها، والعلاقة مع بلاد المهجر. · الخصوصية الأولى : الغياب الكلي لعلماء الداخل في ترشيد الصحوة والإجابة على تساؤلاتها وتبديد حيرتها. فقد ظلت العودة إلى التدين وليدة الفضائيات ومتأثرة بعلمائها الذين حملوا شرعية ومصداقية لديها، ليس سهلا تجاوزها. ولقد غاب علماء الداخل نتيجة الخوف الذي أصاب بعضهم من القرب من مظاهر التدين في البلاد، الذي كان عنوانا سياسيا في بعض المراحل، ولعله لا يزال عند البعض، فخيَّر الانسحاب حتى لا تدركه الأمواج العاتية، التي طرقت الأبواب والمشاعر والنوايا. وغاب البعض منهم لتواجده داخل السجون أو في المنافي، فقد كان يحمل صفة حركية سابقة، وعلما شرعيا نابها، فلم تتركه المواجهة السياسية سالما، ودفعت به خارج أرض المعركة أو أرض الوطن. واختار صنف آخر موالاة السلطة القائمة، اضطرارا أو اختيارا وتبنيه لخطابها، ولم يبخل عليها بالمساندة. · الخصوصية الثانية : رغم الشبابية الظاهرة للصحوة، غير أنها عمت كل الأجيال ولم تنحصر في جيل دون جيل، ولم تقف عند حدود طبقة دون أخرى، فتجاوزت عوامل الجنس والجهة، والدرجة الإجتماعية والوظيفية، والمستويات العلمية. فقد ساعدت الفضائيات إلى وصول الكلمة الطيبة والقدوة الحسنة إلى كل أطراف البلاد، ودخلت الصحوة البيوت والغرف، والقصور والأكواخ، دون استئذان وسابق إعلام. لقد طرقت الصحوة أبوابا لم تكن تطرقها في الصحوة الأولى، وعبرت ذهنيات متعددة وعقليات ميؤوسة، وزعزعت أحكاما ورؤى ظن أهلها ثباتها وديمومتها، وأيقظت أنفسا خامدة ومتنوعة، حسب أصحابها أنهم دخلوا كهوفا وغيبة لا خلاص منها. لامست الطبيب في عيادته، والموظف في إدارته والفلاح في مزرعته، والطالب في مدرسته، واللاعب في مباراته، وربة البيت في مطبخها و "لا عاصم اليوم من أمر الله". · الخصوصية الثالثة : لقد جعلت الصحوة المرأة رمزا للإسلام عبر حجابها الذي أعلى شأنها وشأنه، وهي حقيقة جديدة ومكسبا لم تحلم به الصحوة نفسها، فحقوق المرأة ودورها الإجتماعي كان الثلمة التي يجب رتقها، وحلقة الضعف الرئيسية في الخطاب الإسلامي وممارساته. كانت دونية المرأة وحقوقها المهضومة عنوانا سلبيا للإسلام في مجموعه صحويا أو حركيا ، وببروز الحجاب ودخوله معترك المطالب النسوية والحقوق الشخصية، وتبني الصحوة له كوسيلة تحرير للمرأة من تقاليد العزلة والانسحاب و من خطاب الإبعاد والإقصاء وممارسات الدونية والاستخفاف، وتأويلات قرون الانحطاط والسقوط، لتصبح المرأة المتحجبة صورة حية للمرأة الحرة التي لها رأيها في الشأن الخاص والعام. لقد قاست المرأة المتحجبة منذ الثمانينات ولا تزال، من قوانين جائرة وحسابات سياسية ظالمة، ودخلت مجال الفعل والتفعيل من بابه الكبير، وأضفت على حقوقها حقا جديدا اكتسبته بشرعية وقوفها واستماتتها وصبرها على البلاء التي ضربها، جدة وأمّا وأختا وبنتا، لتصبح شقيقة كاملة للرجل في الحمل والعطاء. لقد تحصلت نساء الصحوة على شهادة التاريخ ومصداقية الفعل وجماهيرية المواقف وشرعية التواجد، وأضفى هذا البروز على الصحوة طابعا خاصا ومميزا ينحت ويؤلف لأبعاد جديدة داخل الصحوة نفسها، وفي خطاب الحركة الإسلامية الحركية وفي مؤسساتها. إن ارتباط الصحوة الجديدة بالمرأة في مجال الظاهر لا يجب أن يبقى حبيس قطعة قماش، مهما علا شأنها، ولكن أن يدخل العقول والمنهجيات، ويعطي لهذه الإضافة الجديدة والحاسمة الدور المستقبلي المستقل والفاعل والعادل للمرأة داخل المشروع الإسلامي عموما ظاهرة وحركة. · الخصوصية الرابعة : لقد عبرت الصحوة منذ انطلاقتها على نهجها المدني والمسالم في التواجد والتوسع، لم تسع إلى مواجهة أو رد فعل رغم تعدد الاستفزازات والإثارات وتراكم السحب والمغالطات وقتامة الوضع الدولي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر الأليمة. لم ترد الصحوة على من نالها في حرية اختيار لباسها، ممن كان في المعارضة وانتسب إلى الجنس النسائي أولا وإلى الديمقراطية ثانيا، ولا من كان في السلطة ويملك تقرير مصير العباد والبلاد. لقد خيرت الصحوة المصالحة مع واقعها ومع أطرافه، وظلت ترسم طريقها بهدوء رغم توالي الهضاب والمنعرجات والتضاريس المعادية. لم تتطرف الصحوة وتكفر أهلها وتغادر مجتمعها وتدخل كهفها وتعادي كل من رفض أن يأكل بالملعقة دون أصابعه، أو يلبس بنطلونا عوض قميص، أو من تعمد ووقع في "الإثم" فسمع موسيقى أو رأى شريطا! كانت المصالحة والتفهم عنوان مشروعها، وليس عنوان مرحلة، مصالحة مع الذات أولا ومع الآخر ثانيا، أيا كان هذا الآخر كائنا مُنغّصا أو واقعا معاديا. · الخصوصية الخامسة : ليست الصحوة روبنسون كريزوي في جزيرته النائية، ولا ذنبا طارقا في السماء، يشتعل طرفه ويسير في فلكه، وهو في غنى عمن حوله! إن علاقة حريرية وهادئة وغير بارزة تربط الصحوة بما وراء الحدود من صحوة تعيشها بلاد الهجرة، وهذا الوصال تؤكده اللقاءات الصيفية بين أبناء الوطن الواحد، وهي تعطي لهذه الصحوة الداخلية صفة خاصة ومفارقة عجيبة، فهي ليست وحيدة في انتفاضتها الربانية، وهي ليست تقوقعا وانعزالا عن واقعها، وهي خاصة ليست صحوة الفقراء وبلاد التخلف. فإن وجود هذه الصحوة لدى أبناء الهجرة كذلك يجعل من الصحوة الداخلية صحوة تحضر ونهوض، ولا تتعارض اليقظة الروحية مع اليقظة الحضارية بل لعلها تمثل مرحلة النهوض والإقلاع ولحظة الصفر الحضارية المرجاة. د. خالد الطراولي مدير تحرير مجلة مرايا باريس ------------------------------------------------------------------------ [1] خالد الطراولي "الحركة الإسلامية من الحكم إلى التحكيم" صحيفة الزمان اللندنية 17/18 جانفي 2004. و مجلة "إيلاف" أكتوبر 2003.