-3- مفاصل في الفعالية البنائية والوقاية الاستراتيجية للصحوة حققت الصحوة الإسلامية المعاصرة مكاسب ذات نفَس استراتيجي وحضاري بالغ الأهمية، توجب علينا جميعا تعميقها بالبناء الفكري والروحي والتربوي والسلوكي والمؤسساتي من ناحية، ووقايتها بالمراجعة والتقويم والاستشرافية الواقعية، والتجذير الثقافي والاجتماعي والسياسي من ناحية أخرى . وبدون أن نغض من قيمة الطابع العالمي التكاملي للصحوة، فإنه بودنا أن نؤكد على أهمية الصحوة في المغرب، إذ تحقق للصحوة هناك قدر لا يستهان به من النضج والتوازن والتجذر الاجتماعي. إن محنة الصحوة في الجزائر، كان لها بدون شك تأثيرها الإيجابي على الصعيدين البنائي والوقائي معا لدى الصحوة في المغرب، بل وفي عالم الصحوة كله بصفة عامة، وهو ما نود أن يستمر ويتعمق، بواسطة المزيد من التقييم والتقويم الاستراتيجي،و التخطيط الاستراتيجي، والأداء الواقعي المتدرج الفعال، والموازنات الاستراتيجية المتكاملة، وفعالية استيعاب وتوظيف الطاقات الوطنية، والقدرة على إدارة التدافع الداخلي والخارجي، الذي يفوت الفرصة على القوى التقليدية المناوئة للإسلامية الصريحة. ومن أجل فعالية بنائية ووقائية استراتيجية أكثر للصحوة، نود أن نشير هنا باختصار إلى بعض الأفكار الهامة في هذا السياق، استخلصناها من المراجعة والتقييم ومن التأمل النقدي العام في تجربة الحركة الإسلامية المعاصرة. معادلة الموازنات التوفيقية وأخطار الاستهلاك السياسي والاجتماعي للصحوة وأول ما نود التنبيه إليه في مقدمة هذه الأفكار والمستخلصات، هو معادلة الموازنات التوفيقية وأخطار الاستهلاك السياسي والاجتماعي للصحوة. إذ غالبا ما تجد حركة الإنجاز الدعوي عامة والسياسي خاصة، نفسها أمام مفارقات فكرية واجتماعية وسياسية متناقضة، تفرض عليها موازنات ليست سهلة، كثيرا ما تؤدي إلى تبني مواقف وأولويات، تزعزع الجبهة الداخلية للصحوة وتشرذمها، وتؤزم علاقاتها بالمجتمع والدولة والعالم، وتُفَوِّتُ على نفسها مصالح كثيرة، وتفتح جبهات إضافية للصراع المنهك والمتلف في أحيان كثيرة. ولقد عشت الجزائر خطر هذه المعادلة، فطاش إزاءها صواب جل القوى الوطنية، بما فيها قوى الحركة الإسلامية، التي انساق بعضها وراء خيار المواجهة، فأصابه ما أصابه من الإفناء والهلاك والاقتلاع من الجذور. وتخندق بعضها الآخر مع خيار الاستئصال العلماني، وراهن عليه باسم المحافظة على الدولة الوطنية، فأصابه ما أصابه من اللعنة السياسية والاجتماعية المزدوجة. وحاول البعض الآخر انتهاج سياسة المناورة التوفيقية فانكسرت رغبته على أمواج تدافع القوى المتصارعة، وتصدع بنيان حركته، وتلاشت أجزاء منه في عتمة التكتكة السياسية مع قوى الاستئصال . وحاولت قوى أخرى انتهاج سياسة الاستقلالية الوقائية التكاملية، فلم تخرج منها بطائل، وأصابها ما أصاب غيرها من البلاء، إلا من سمعة شعبية أورثتها مبدئية منضبطة لدى البعض. وأظن الصحوة في المغرب تعيش ما يشبه الحالة الجزائرية قليلا، وسيطال بعضها، لا قدر الله، من اللعنة الاجتماعية والسياسية، أو من التصدع وذهاب الريح، أو من الإقصاء والتهميش السياسي والاجتماعي، أو من التشويه والتعقيد والإحباط... إلى غير ذلك من نتائج التعاطي الآني التجزيئي المرتبك، مع معادلة الموازنات التوفيقية الصعبة بين الانحياز للسلطة، أو الانحياز لمغامرة المواجهة، أو محاولة التلفيق واللعب على الحبال لإرضاء الكل، أو ولوج متاهات المناورة السياسية... لذلك فإن وعي حقيقة الوضع، وإدراك الأبعاد الآنية والمستقبلية، المحلية والدولية لتفاعلاته وصيروراته، على ضوء معادلة الواقع المغربي، وخبرة التجارب السابقة للصحوة، وتربصات القوى المناوئة لها، سيكون أمرا في غاية الأهمية لاتخاذ المواقف المتوازنة، الأكثر استراتيجية ووقائية وبنائية بحول الله. ونحن واثقون في خبرة وحكمة وعبقرية ورسالية الحركة الإسلامية في المغرب الشقيق، أن تتمكن من موازنة الموقف، وتنحاز لمصلحة الدعوة والمجتمع والدولة فيما يحتاج الانحياز، وتوفِّق فيما يحتاج إلى توفيقية، وتقتصد فيما يحتاج إلى اقتصاد، وتتجنب القرب مما لا يحتاج القرب منه. وكخلاصة عامة في الموقف من هذه المعادلة الصعبة، نرى بأن الصحوة قد أضرت بها التوفيقية الخائفة المرتبكة المرتجلة، كما أضرت بها الإنحيازية الخائفة حينا، والواهمة حينا آخر، والطامعة أحيانا أخرى. ولا تبرأ هنا ساحة المواقف المنكفئة على نفسها، من المسائلة الشرعية والتاريخية ! خاصة إذا كان باعثها الخوف، أو التشفي، أو انتظار توجه الأمر في ثنايا الطريق أو نهايته ! وكان نتيجة هذا الارتباك في الموازنات والأولويات المواقف، أن تعرضت الصحوة بمختلف فصائلها إلى أخطر عملية استهلاك سياسي واجتماعي لسمعتها الشعبية في تاريخها المعاصر، واقتربت من دائرة الشيخوخة الاجتماعية والسياسية التي تصنَّفُ فيها جل القوى الوطنية الأخرى المتنفذة، من قبل المجتمع، بل وربما تجاوزت هذه الدائرة في بعض الجوانب والأحيان ! إذ لم يعد من النادر أن يسمع الإنسان هذه المقولة التقييمية الخطيرة: كلهم كيفكيف أي لا فرق في النهاية بين الإسلامية والعلمانية والوطنية.. في نظر البرجماتية الشعبية ذات الأغوار العميقة في الكثير من الأحيان ! خاصة وأنها تصدر في حكمها العام عن خبرة وتجربة ميدانية طويلة، وخاصة مع الاتجاهات العلمانية المتنفذة التي احتكرت إدارة المجتمع زمنا طويلا . ولا شك أن هذه تعتبر أخطر نتيجة تمخضت عنها المحنة الوطنية عامة، ومحنة الصحوة خاصة، ويمكن أن تتمخض عنها أية محنة أخرى لا تتمكن فيها قيادة الصحوة من الإدارة الجيدة لهذه المحنة . وهو ما يجب على قيادة الصحوة في المغرب أن تجعله هاجسها الأول، وتحكمه في كل مواقفها ومبادراتها للمحافظة على سمعة الصحوة وتأمين مكاسبها الاستراتيجية. وفي سياق مواجهة تبعات هذه النتيجة الخطيرة، نورد هنا بعض الأفكار ذات الطابع البنائي والوقائي الاستراتيجي، وقد يكون فيها بعض الفائدة. برنامج وطني لتثقيف الصحوة الوطنية إن الصحوة بمفهومها الحركي الخاص، وبمفهومها الوطني العام، في حاجة ماسة إلى برنامج وطني شامل للتثقيف، يؤسس للوعي الشمولي التكاملي المتوازن بالإسلام، منهجا ومنهجية أولا . ثم بشروط النهضة الوطنية والإسلامية، استراتيجية ومنهجية ثانيا . ثم بالتحديات التي تعترض نهضتنا الوطنية والإسلامية، وتهدد وجودنا ومصالحنا ثالثا. وإن الصدمات الكبرى في حياة المجتمعات، تتيح فرصا كثيرة لإنجاز مثل هذه الأعمال الاستراتيجية الهامة . فلو استثمر هذا الظرف في وضع وتنفيذ برنامج وطني لتثقيف الصحوة، لشكل ذلك خطوة بالغة الأهمية بالنسبة للحركة الإسلامية خاصة، والمجتمع عامة . ولا مانع من أن يتم ذلك بإشراف الدولة، وربما كان ذلك أفيد أحيانا بالنسبة للصحوة، لأنه يوفر جو الأمان بالنسبة لعامة الناس ما دام الأمر يتم بمباركة السلطة. إنها فرصة ثمينة لا تعوض بثمن بالنسبة للحركة الإسلامية، لو عرفت كيف تتحرر من عقدة النفور من السلطة، وتستثمر الصدمة في إنجاز مشروع تثقيف الصحوة الوطنية. تحرير الدعوة ومؤسساتها من ارتهانات السياسة الحزبية كما تحتاج الصحوة من منظور استراتيجي وليس تكتيكي أو مرحلي، تحرير الدعوة ورموزها ومؤسساتها البنيوية العريقة، من أية علاقة بالحراك السياسي الحزبي الإسلامي، وتخليصها من جميع أشكال الارتهان لهذا الحراك . لقد أصبح هذا الأمر مطلبا ملحا جدا، لارتباط مستقبل الدعوة وفعاليتها بهذا التحرير وفك الارتباط من ناحية، ولضرورة الوقاية من ناحية أخرى . وقد تضرب الدعوة في الصميم، رسميا وشعبيا، عندما لا تنتبه الحركة إلى هذا الفصل والتحرير، أو تعجز عن تحقيقه، فتترك الفعل السياسي المستدرج يعبث بطهارة الدعوة وقدسيتها، ويورطها في تبرير مواقفه الجزئية الاستعجالية المتناقضة، ويقحمها في أتون المواجهة بكل مناوراتها وارتباكاتها وتناقضاتها، ليستنزفها ويستهلكها سياسيا واجتماعيا ! الصحوة في حاجة إلى ضمان الاستقلالية التكاملية للدعوة ومؤسساتها ورموزها، فإذا فعلت ذلك تكون قد وفرت لنفسها الشرط القاعدي الأساس للأصالة والفعالية والاستمرارية . أما إذا عجزت عن ذلك، فإنها تكون قد حفرت قبرها بنفسها، لأنها بذلك تكون قد قطعت المدد الفكري والتربوي والروحي والبشري.. الذي تحتاج إليه في طريق التغيير والإصلاح والتجديد الطويل. عدم الغفلة عن البعد الثقافي التربوي الاجتماعي للدعوة كما نبهنا آنفا، فإن الصحوة هي التربية ما بقيت، فإن هي ذهبت أو تعطلت أو انحرفت، ذهبت الصحوة أو تعطلت أو انحرفت تبعا لذلك . وعليه فإن التربية الفكرية والروحية والسلوكية والاجتماعية لأجيال الصحوة والمجتمع، يجب أن تشكل الأولوية الاستراتيجية الأولى، في كل مراحل وظروف مسيرة الدعوة وتحولات المجتمع . بحيث عندما نضطر أن نضحي في أي ظرف من الظروف بأهم الأولويات، لا بد أن يكون خيار التربية هو الخيار الوحيد غير القابل للتضحية به، بل يظل يشكل البؤرة التي نضحي من أجلها بكل شيء. المسارعة إلى الاستيعاب الفكري والتربوي لقاعدة الصحوة: في مراحل الصدمات الكبرى المفاجئة، التي تمر بها الحركات والمجتمعات، يحدث اضطرب وبلبلة في صفوف قواعد الدعوة، بل وحتى لدى قياداتها، فإذا طال أمد استيعاب الحركة للصدمة، تعمقت البلبلة وتنوعت المواقف والمبادرات وتضاربت، ودفعت الحركة ثمن ذلك؛ أمنيا وتنظيميا واجتماعيا وسياسيا. إنه من المهم جدا أن يتم تعميق الاستيعاب الفكري والتربوي لجمهور الصحوة عامة، ولنخبة أجيالها خاصة، وأن يتم التحكم الفعال في انفعالاتها على صعيد الوعي الذاتي وليس فقط على صعيد الضبط التنظيمي، الذي كثيرا ما لا يجدي، في غياب الوعي الذاتي المتكامل. تأصيل استراتيجية النهج السلمي للدعوة والبعد عن منطق الازدواجية التنافرية في منهجية التغيير لقد أضر بالصحوة كثيرا، التذبذب والازدواجية وعدم الوضوح والاستقرار في طبيعة منهج التغيير والإصلاح الاجتماعي والسياسي، ولم ينضج الوعي بطبيعة منهج الدعوة والتغيير، بشكل كاف لحد الآن، لدى جمهرة الصحوة، وما زالت أطراف في الصحوة تراهن على القوة، وأخرى على المزاوجة بين الأمرين معا، وغيرهما على التربية، وهكذا دواليك، تتنوع وتختلف مناهج التغيير اختلافا تنافريا غير تكاملي، وهو ما يعرض الدعوة للاستنزاف المستمر، لأن أي خطأ يرتكبه شخص أو جماعة أو حزب في منهج التغيير، يطال تأثيره السلبي بقية جسم الصحوة ! ولقد أنضجت التحولات الحضارية المختلفة في العالم، الوعي بأصالة وفعالية النهج الدعوي التربوي البنائي التكاملي المتدرج، في عملية التغيير والإصلاح الاجتماعي، وهو ما يجب على الصحوة أن تعمق الوعي به، وأن تؤسس آلياته المنهجية والمؤسسية الأكثر فعالية في واقعنا وعصرنا . ولعل النتائج السلبية للمزاوجة التنافرية في طبيعة المنهج، التي أسفرت عنها التجربة في الجزائر، وقبلها في مصر وسوريا وغيرهما.. تؤكد ضرورة تعميق الوعي بأهمية المنهج الدعوي البنائي التدرجي المتكامل. ولما كان كثير من الناس لا يهضمون المسائل إلا عبر التربية بالأحداث، فإن استثمار الصدمات الكبرى التي تحدث من حين لآخر في المجتمع، يعد أمرا مثاليا في عملية ترسيخ الوعي بأهمية وفعالية المنهج الدعوي في التغيير. البراءة الصريحة من منهج العنف وأسبابه: وفي هذا السياق، لا بد أن تكون الحركة حاسمة في موقفها من استعمال القوة في التغيير الاجتماعي والسياسي داخل المجتمع، وأن لا ترتبك أو تتردد في رفضه والبراءة منه، وأن لا تتهاون في أمره، تحت أي ظرف من الظروف أو مبرر من المبررات، لأن عواقب منهج القوة وخيمة، في الهزيمة والانتصار على حد سواء، كما تبين التجربة ذلك ! ولا يقتصر تأثيرها السلبي على المبادرين به فحسب، بل يطال مصالح الدعوة والمجتمع والدولة والأمة معا، وإن بنسب متفاوتة . إن سكوت الحركة عن العنف الذي يتم باسمها، أو باسم الإسلام، ويطال مصالح وحقوق العباد والدعوة والمجتمع والدولة، في المجتمع الذي تعيش فيه وتساهم في إصلاحه وترقيته، يعد خطأ كبيرا من جانبه الشرعي والدعوي، والسياسي والاجتماعي معا. إبراز البعد الاستراتيجي الوطني للصحوة وتعميق الوعي به ومما ينبغي على حركة الصحوة أن تهتم بإنجازه بشكل مستمر، وخاصة في مراحل الخطر، إبرازها للأبعاد الاستراتيجية للصحوة، التي ينبغي أن لا تغطي عليها بعض الأخطاء هنا وهناك، يرتكبها أفراد أو جماعات أو أحزاب أو هيئات إسلامية، لأن ذلك قد يكون ناتجا عن جهل، أو عن سوء تقدير للمصلحة، أو عن عدم التفات إلى المآلات الخائبة، أو عن توريط واستغلال من قوى محلية أو إقليمية أو دولية مضادة لمصلحة الصحوة والمجتمع والدولة والأمة، وما أكثرها في هذا الزمان ! ينبغي على الصحوة أن تنتبه جيدا إلى هذه القضية، وأن لا تترك القوى الظلامية المناوئة لها، أن تشوه سمعتها، أو أن تغطي على أبعادها ومكاسبها الاستراتيجية الوطنية، أو أن تهمشها، أو أن تبرزها كخطر على المجتمع والدولة والأمة . فالصحوة في حاجة إلى برنامج توعوي واسع، يبصر السلطة والمجتمع والعالم، بأن الصحوة مكسب وطني إستراتيجي بالغ الأهمية، ينبغي أن نحرص جميعا على حمايته واستثماره في خدمة نهضة المجتمع والأمة، لا أن نفككه وندمر وجوده، كما فعلت ذلك بعض الدول في العالم الإسلامي وفي مقدمتها الجزائر مع الأسف الشديد، بسبب النفوذ العلماني اليساري واليميني على حد سواء في مفاصل الدولة بالخصوص. التواصل التكاملي مع كل قوى الصحوة الوطنية: لقد بات من الضروري أن تتواصل وتتكامل القوى المختلفة للصحوة إسلامية كانت أم وطنية أم قومية.. من أجل المصلحة الاستراتيجية العليا للمجتمع والأمة. وتواصل وتكامل القوى الإسلامية أكثر إلحاحا واستعجالية، للأخطار التي تواجهها داخليا وخارجيا . فالصحوة الإسلامية مستهدفة بشدة، ولم تبق الحرب عليها محلية فقط بل عالمية، إذ استطاعت قوى داخلية وخارجية التقت مصالحها، أن تربط الصحوة بالإرهاب، وأن تجعل منها هدفا للمواجهة العالمية مع الأسف الشديد. ناهيك عن المحذور الشرعي الخطير، في بقاء قوى الصحوة تعيش في جزر فكرية وتنظيمية منغلقة ومتنافرة، فإن التواصل أصبح ضرورة وجودية للصحوة ولمكاسبها الدعوية والبشرية والمؤسسية، بل ولمستقبل الإسلام ذاته كثقافة وكحضارة. المضي قدما في تطبيع الوضع مع الدولة: ونقصد بالتطبيع هنا، مدّ الجسوروتجاوز حالة الشك والخوف والتربص والتشويه والتحريش والتنافر والصراع... القائمة بين الحركة الإسلامية والدولة الوطنية المعاصرة، إلى حالة من الالتقاء على ثوابت المصلحة الوطنية، والاعتراف المتبادل بحق بل بواجب كل مواطن في المشاركة الفكرية والثقافية والسياسية... لخدمة هذه المصلحة، وترقية الوعي بها، والحرص عليها، والحماية لها، في ضوء احترام الأعراف والقوانين المنظمة والمؤطرة للمجتمع، بغض النظر عن المسالك المنهجية المتنوعة والمختلفة، التي تتخذها هذه المشاركة. لقد شكل هذا الوضع التنافري الاهتلاكي المزمن، بين الحركة الإسلامية خاصة ومجمل قوى المغايرة الوطنية من جهة، والدولة الوطنية القائمة بالقوة من جهة أخرى، أخطر التحديات الداخلية التي أضعفت فعالية أداء المجتمع الإسلامي المعاصر، وتسببت في استنزاف وهدر خطير للإمكان الحضاري والإرادة الحضارية للمجتمع والأمة، وغرستهما أكثر في أوحال الغثائية والتبعية الحضارية المشلة والمذلة ! وقد تنبهت القوى المناوئة للصحوة لهذه الفجوة الخطيرة، فعملت على استثمارها بفعالية، وهي تعمل عليها اليوم أكثر من أي وقت مضى، بعد أن تمكنت من استعداء الدولة الوطنية المعاصرة على الصحوة، وتصويرها كخطر استراتيجي على الدولة وعلى مصالح المجموعات السياسية والاجتماعية المستفيدة منها، وهي تواصل استكمال دورة الاستيعاب النهائي لهذه القوى، وربط مصالحها بمصالح القوى المناوئة للصحوة كما يتجلى ذلك في استراتيجية مواجهة وهم الإرهاب الذي اتخذ كذريعة لتسريع إحكام الطوق على الدولة الوطنية بشكل تام. وإذا كانت الدولة الوطنية تتحمل القسط الأكبر من المسؤولية التاريخية عن هذه الوضعية المشلة والمذلة، بسبب المنطق الهيمني الأحادي الإقصائي القمعي، الذي حكم علاقتها بالمجتمع عامة، وقوى المغايرة أو المعارضة النقدية التكاملية فيه خاصة، منذ نشأة هذه الدولة الوطنية المعاصرة، فإن وعي المجتمع، ومصلحته، والتحديات التي تواجه مصيره، والأخطار التي تترتب عن استمرار حالة التنافر والصراع والإهتلاك، كل ذلك يحتم على الدولة أولا، وعلى كل قوى المغايرة النقدية التكاملية ثانيا، وفي مقدمتها الحركة الإسلامية، المضي قدما وبلا تردد في تطبيع الوضع بين الدولة والمجتمع وقواه الاجتماعية والسياسية المختلفة، على قاعدة استعادة المجتمع لحقوقه وواجباته الطبيعية والشرعية في المشاركة الفعالة في خدمة المجتمع وترقيته وحمايته، وتحقيق طموحاته في النهضة والمواكبة والمنافسة الحضارية. لقد أصبح هذا الأمر من الأولويات الاستراتيجية العاجلة، التي لا تقبل التسويف، وتحتم على كل القوى الوطنية بلا استثناء، المشاركة الجادة في تذويب كتل الشك والخوف والتشويه والحقد والتنافر والإهتلاك... التي تراكمت عبر عقود من الهيمنة الإقصائية للدولة، على مقدرات المجتمع والدولة والدعوة، وهو ما يقتضي من كل طرف أن يحرص على التركيز على الأولويات المشتركة ابتداء، وعدم الإلحاح كثيرا على كل ما يمكن استكمال إلحاقه بساحات المتفق عليه تدريجيا. المضي قدما في تطبيع الوضع مع المجتمع المدني: أي مع القوى الاجتماعية الأهلية أو الشعبية المنظمة والمستقلة، المساهمة بشكل مباشر في التأثير على الحركية الاجتماعية الواسعة داخل المجتمع، والمؤثرة بشكل غير مباشر، ولكنه فعال، في الحركية السياسية العامة كذلك؛ سواء على مستوى الدولة ذاتها، أو على مستوى الحركة الحزبية المنافسة على السلطة، إذ الكل في حاجة إلى دعم وخدمات المجتمع المدني. فالمجتمع المدني ولأسباب تاريخية خاصة بالدولة الوطنية المركزية المستبدة الإقصائية، هيمنت عليه قوى اجتماعية بعضها مُوَالٍ للسلطة، وبعضها الآخر مغاير لها بشكل مستخفٍ، وكانت مشاركة الحركة الإسلامية المنظمة فيه محدودة، بحكم نواقص فكرية ومنهجية خاصة بالحركة ذاتها من جهة، وبحكم نواقص خاصة بالدولة الوطنية التي انبثقت من رحم المشروع الاستعماري الحديث، وكانت امتدادا طبيعيا له، في كثير من مكونات مرجعيتها الفكرية والسياسية والمنهجية من جهة أخرى . إن الصحوة الإسلامية المعاصرة يجب عليها أن تبذل جهدا منهجيا مُرَّكَزًا لاستيعاب المجتمع المدني، أو على الأقل الاندماج السلس فيه، وتجاوز حالة النفور والخوف والشك.. التي تطبع علاقة الصحوة بفعاليات كثيرة فيه، وخاصة قطاع المرأة منه، الذي أصبح مضغة خصبة للاستعداء على الصحوة. المضي قدما في تطبيع الوضع مع المجتمع السياسي : أي مجتمع المعارضة السياسية للسلطة القائمة في المجتمع، والذي تمثله الحركة الحزبية الرسمية غير الرسمية أو غير المعتمدة. فقد لوحظ في جل تجارب المجتمع السياسي الموازي أو المعارض، أن حركة المعارضة كثيرا ما لا تتمحور على المغايرة الاستدراكية على السلطة القائمة، بل يتجه جزء كبير من اهتماماتها نحو معارضة المعارضة، وخاصة منها ذات التوجه الإسلامي، وهو ما يشكل انحرافًا في مسار المعارضة السياسية الوطنية، تتحمل الصحوة جزءًا من المسئولية فيه، كما تتحمل المعارضات الأخرى وكذا السلطة جزءًا آخر من المسئولية فيه. إن الصحوة مدعوةاليوم بإلحاح كبير لتجاوز هذا الوضع غير الطبيعي، من خلال امتصاص المعارضات الجانبية لها، وإعادة توجيهها نحو بؤرة المعارضة السياسية الحقيقية، وهي السلطة القائمة في المجتمع ، وذلك بمحاولة تطبيع وضعها مع المجتمع السياسي الوطني قدر ما تستطيع، لما في ذلك من فائدة للصحوة ولبقية قوى المجتمع السياسي عامة، وللمصلحة الوطنية خاصة . فالدولة الوطنية في حاجة إلى معارضة وطنية تكاملية حقيقية مركزة، تراقب نشاط السلطة بدقة، وتساهم بفعالية في تقييمه وتقويمه، وتركيز فعاليته على خدمة مصلحة المجتمع والأمة. وقد تنبهت بعض السلط ذات التوجهات الفئوية والطبقية المحدودة النفس الوطني، إلى هذه الفجوة الخطيرة في كيان المجتمع السياسي الوطني المغاير أو المعارض، وعملت على استثمارها في إخفاء نواقصها بل وجرائمها الاستراتيجية في حق الدعوة والمجتمع والدولة والأمة، بتعميق وتوسيع نطاق المناوشة والصراع الثانوي بين مكونات المجتمع السياسي الوطني، استدامة للأمر الواقع وتكريسا له. لقد أن الأوان بأن ترتقي الصحوة بوعيها إلى آفاقه الاستراتيجية الوطنية، وتتجاوز منطق المناوشة والصراع الجانبي، وتركز على توسيع نطاق مساحات التداخل التكاملي في جهد المجتمع السياسي الوطني، لترشيد حركة السلطة وتفعيل أدائها السياسي الاجتماعي . إن الصحوة الإسلامية تمتلك مقومات وشروطا غير عادية، لأن تكون محورا مركزيا لحركة المجتمع السياسي الوطني برمته، وأن تؤثر فيه بفعالية، وهو ما يجب أن تنتبه إليه، وتحاول استثماره، ولا تترك الفرصة لخصومها العارفين بمصادر قوتها، لإلهائها عن تحقيق هذه المحورية الإيجابية الفعالة في الحراك السياسي والاجتماعي الوطني . الحذر من الحضور الاستفزازي في الساحة السياسية وفي هذا السياق، ينبغي على الصحوة أن تنتبه جيدا إلى الدور السلبي التعويقي الذي يشكله أحيانا حضورها الاستفزازي في الساحة السياسية الوطنية خاصة، والساحة الاجتماعية والثقافية عامة . فقد لوحظ أن الحضور الموجي السريع والمكثف وغير المخطط في الغالب، للصحوة في الساحة السياسية بالخصوص، يشكل عامل استفزاز سلبي مثير للساحة السياسية بصورة مضادة، لأنها تحس بأن الصحوة بصدد تهميشها، وتقليل فرص المشاركة أمامها، فتترك معارضة السلطة القائمة، وتتوجه نحو مكاملة دورها مع السلطة في معارضة المعارض، وتوهين الصحوة بالمناوشات والصراعات الجانبية المنهكة . إن الصحوة في حاجة إلى استراتيجية جديدة، أكثر واقعية وتكاملية وتوازنا وتدرجاً... في مرحلة تأسيس الفعل السياسي والاجتماعي والثقافي الوطني التعددي . وهي مرحلة جديدة تتسم بكثير من الحذر والشك والخوف والتذبذب والاضطرابات والصراعات، لا ينبغي للصحوة أن تقفز عليها، وأن تلقي فيها بكل ثقلها، وأن تنهج نهج الهروب إلى الأمام، خاصة وأنها تشكل بؤرة القلق والخوف والصراع لدى السلطة خاصة والمجتمع السياسي والمدني عامة . وهو ما كان يقتضي منها انتهاج استراتيجية التطمين والتأسيس التدريجي للوجود الاجتماعي المؤسسي للصحوة وخاصة الوجود السياسي منه. وقد تذهل الصحوة عن هذه الاستراتيجية، وتسترسل وراء منطق الاستحواذ السريع غير المخطط، على الساحة السياسية والاجتماعية، وهو ما يشكّل عامل استفزاز وخوف حقيقي لدى القوى الفاعلة في السلطة في المجتمعين السياسي والمدني على حد سواء، فتكون النتيجة أن تبادر هذه القوى إلى انتهاج منطق الوقاية الاستراتيجية لمصالحها، و أن تستنجد في تحقيق ذلك بكل ما تيسر لها من إمكانات الدولة والمجتمع والقوى الدولية المناوئة للصحوة، مما يتمجض عنه من تدمير وإجهاض واسع النطاق لمشروع الصحوة. لذلك نرى بأن الصحوة في حاجة إلى استراتيجية تطمين للساحة السياسية، وتأسيسٍ تدرُّجي لوجودها المؤسسي الاجتماعي والسياسي والثقافي الفاعل . وهذا يستلزم البعد قدر الإمكان عن منطق الاستفزاز والإثارة السلبية للقوى المنافسة والمناوئة معا، وفسح المجال أمامها لأخذ فرصتها في الحضور، بل ومعاونتها أحيانا على ذلك ! ثم الاستفادة منها في التأسيس الاجتماعي والثقافي والسياسي المتين لوجودها، أي الصحوة، دون الوقوع تحت ضغط الفكرة الخاطئة القائلة بفوات الفرص، التي كثيرا ما تقع في تأثيرها السلبي أطراف عديدة في ساحة الصحوة، وتدفع بها نحو حرق المراحل، وإهدار الفرص فعلا ! تجديد الخطاب الدعوي والسياسي في اتجاه الواقعية والأصالة المعاصرة: وهو من شروط امتصاص قلق وخوف السلطة خاصة والمجتمعين المدني والسياسي عامة في الحركة الوطنية أولا، ثم لدى القوى الإقليمية والعالمية ثانيا. زيادة على ضرورته الحيوية في التأسيس الفعلي الاجتماعي والثقافي والسياسي للصحوة، بما يتيحه من واقعية في تحليل وفهم واقع المجتمع والأمة والعالم، وما يمنحه للصحو بعد ذلك من فعالية تكاملية على مستوى الأداء والإنجاز الميداني . فالخطاب الدعوي والسياسي للصحوة، تعتريه عمومية وسطحية وتبسيطية وتجزيئية وتنافرية غير قليلة، تحد من أصالة وفعالية نفسه الإنجازي، بل وتشحن مفرزاته بسلبيات عديدة، تزيد من حدة هموم الصحوة وتحدياتها اليومية . لذلك أصبح لزاما على الصحوة أن تقيم مؤسسات قوية لمراجعة وتطوير وتجديد خطابها الدعوي والسياسي والاجتماعي والثقافي... في اتجاه الأصالة الإسلامية المعاصرة، والفعالية الإنجازية المبدعة المتجددة، التي تتجاوز خطاب المؤسسات الوعظية المرققة للقلوب والشاحذة للهمم، إلى خطاب المؤسسات المستثمرة لذلك في بناء الوعي المنهجي التحليلي النقدي الاستنباطي التخطيطي العملي الفعال. إن الصحوة في حاجة إلى خطاب يتحدث عن التكاملية في العلاقات الدولية، وعن تداخل المصالح والتبادلات الدولية ! خطاب يستجيب لمنطق المواطنة ورعاية حقوق الأقليات ودمجها في المجتمع... خطاب يستشرف آفاق الدعوة في مفاهيم الاحتكاك الثقافي، وحوار الأديان والحضارات. إن تطوير وتجديد مضامين ومنهجية خطاب الصحوة، من شأنه أن يخفف عنها الضغوط الداخلية والخارجية كثيرا، وينتقل بها إلى مراحل أكثر تأسيسا وتأصيلا لوجودها الفكري والاجتماعي والسياسي، وتفعيلا لأدائها في المجتمع، الذي سيحولها إلى قوة حقيقية فاعلة في التأصيل والتجديد والوقاية الوطنية الاستراتيجية، لا يمكن بأي حال من الأحوال لأي مشروع أو فعل أو توجه غير مؤصل، أن يجد له رواجا أو نفوذا في المجتمع بحضورها. والله ولي التوفيق الطيب مبارك-باحث جزائري