ليس بخافٍ ما يتسم به هذا العصر من تغير على وتيرة (سريعة/ حادة/ مستمرة) بفضل الانفتاح (الاتصالي- المعلوماتي) الهائل الذي جاء نتيجة للتقنية المتدفقة المتقدمة، التي ليست إلا ثمرة للعلم (القوة) والخبرة الإنسانية المتراكمة. هذا التسارع المحموم الذي يعصف بالكثير من القيم، ويهزأ بما رسخ في وعينا و(لا وعينا) من تقاليد التسويف والركود ومصالحة الواقع، ويحمل في جعبته الكثير من التحديات والتساؤلات التي تحتاج إلى الإجابة عنها.. هذا كله لم يعد جديدًا علينا سماعه. لكن أين الجديد في أنماط تفكيرنا وسلوكنا، وأساليب تربيتنا؟ وهل يصب هذا وذاك في رصيد تقدمنا الحضاري؟ نمعن في الإلحاح على ثوابتنا وخصوصيتنا أما هذا المد العولمي، وتصور أنفسنا وكأننا الخصم الأخير الذي يعلن مقاومته لهذا (الطوفان) الجارف، ولكن دون أن نلمس إي إيجابية في اتجاه المربين لتطوير نظم التربية ووسائلها ومحتوياتها، في واقع ندرك أنه يلح في تشكيلها وصياغتها لتتكيف مع معاييره ومواصفاته. التربية هي الحل شعار براق، لكنه لم يعد ينطلي على متابع يلمح هذا التردي والانحطاط الأخلاقي والاجتماعي والقيمي الذي ينسحب بدوره على كافة مناشط الحياة من تدين وتعليم وثقافة واقتصاد وسياسة. لم تفلح أغلب جهود التربية في بناء المناعة الذاتية التي تقي من غوائل التأثر بضراوة وحدة المتغيرات، بل على العكس كرس كثير ممن يمارس تربية النشء في النفوس عزلة عن البيئة والمحيط الاجتماعي، بدعاوى التأطير وبناء الشخصية المتميزة، مما ولد شعورًا بالاستعلاء والتميز لدى هذا النشء الطيب، لتتسع الفجوة ويخيب الأمل في المشاركة في البناء والعمل داخل المجتمع.. وهكذا يستمر الدوران في حلقة مفرغة، ويصبح الكيان البديل الجدير بالعطاء هو الذات والتمحور حولها أرجو ألا أكون متحدثًا عن التوحد وأنا لا أعي. حياة اليوم تتطلب مهارات واستعدادات مختلفة أغلبها جديد علينا، ولكن نجد له ما يعضده من تراثنا الذي كثيرًا ما لجأنا إليه في الأزمات. فالخائض على هذه الشاكلة يعاني إشكالاً في تربية، وليس بعيدًا عنه من أثر (الانكفاء) والتقوقع عن واقعه ليعيش حالمًا في غير عصره. فالأحلام الوردية التي عشناها وتربية الصحوة حول استئناف الريادة الحضارية وأن المستقبل للإسلام، وأن نصر الله أقرب مما نتخيل في غياب مرحلية واستراتيجية نتحرك وفقها جعلت النتائج القريبة معيارًا لصواب الفكرة الإسلامية. ولما كانت دون التوقعات احتدم لدى كثير منا شعور باليأس من الإصلاح (أرجو- ثانية- ألا أكون كذلك). لست ساديًا يهوى تعذيب الذات، لكن تفكيرنا لما يقتنع بعد بجدوى نقد هذه الذات دون ارتياب وتخوف، بدل دغدغة المشاعر وتجاوز الإجابة عن هذه التربية التي نريد.. على ماذا؟ وإلى متى؟ ولأي هدف؟ وكيف نقيس نتائجها؟ وماذا يعيقها؟ أهدافنا.. مراجعة وتجديد الإدارة بالأهداف هاجس كل مريد للنجاح، وليست التربية بمنأى عن هذا، وحيث نروم لأمانينا أن تتحقق فإنني أزعم وجوب تطوير وعينا الضعيف بالزمن لنراهن على ذي طائل، وإذا قيست مراحل التجدد في السابق بالحقبة والجيل، فنحن اليوم بصدد التخطيط للحظة الحاضرة قبل حضورها؟ 1- التربية الروحانية نتداعى إلى ربط ممارسات الأفراد والجماعات العبادية والإيمانية بالمعايير الشرعية والعلمية، ونستوفي طرح الأحكام الفقهية تجنبًا لأي خطأ في الفهم والتطبيق. ولكن ما هي الحالة الإيمانية التي تعتورنا أثناء وبعد أداء العبادات والشعائر؟ نجيد الطرح النظري لمسائل التوحيد مثلاً ونبدع في التقرير والتقعيد، وهذا عاد بالتالي على تحريرنا من التلفظ بما قد ينتهك التوحيد نظريًا. ولكن ما حال (أعمال القلوب) ذات الأهمية اليومية، وأين تكريسها في نظمنا التربوية معرفة وسلوكًا؟ يغيب عن أولوياتنا تحقيق التوكل على الله وتحرير حسن الظن بالله وحسن الرجاء فيه، وحب الله وحب رسوله وحب مرادهما.. مسائل التوحيد العملي هذه لو وجدت منا عناية كافية لما انتشر في مجتمعاتنا المتدينة المحافظة (الانتحار) بداعي الإحباط وانسداد خيارات الحياة الكريمة، أو(السحر) والدجل طمعًا في ثروة أو انتقامًا من غريم أو طلبًا لحب صدود! هل نعتني بتصحيح الانحرافات العلمية في مفهوم (التعبد)، ونربط التدين والتنسك بالوعي الشرعي العلمي الواقعي (في الطرح النظري، والممارسات السلوكية)؟ هل يسعى من يتحدث عن الزهد في الدنيا، أو العزلة أو غربة الدين آخر الزمان، أن يستلهم الروحانية الإيجابية الفاعلة في عملية البناء الدافعة إلى الإصلاح والبذل والعمل والعطاء، لا القعود والاعتزال طلبًا للسلامة وبعدًا عن (الفتن). "رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم.... فما رعوها حق رعايتها. 2- التربية السلوكية مجتمعنا محافظ بحمد الله، ولكن هل يفخر بذلك حقيقة ويسعى (للحفاظ) على ذلك دون مزايدة أو تجن؟ وهل إدراكه لقيمة (الفضيلة) هو خيار عن وعي، أم رهن بظرف الإقامة في بلده، ليدوس عليها حالمًا يعبر الحدود؟ إنه حديث عن (المناعة) مجددًا التي تفرز لدى الإنسان (الحر) المواقف والسلوكات والقيم التي ينبغي عليه أن يتمثلها. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فلم المزايدة في التأكيد على الجانب الأخلاقي في أعمالنا، في حين يتفشى في كثير منا تضييع الأمانة، أو تعاطي الكذب و(نصف الحقيقة)، وعدم الالتزام بالوعود، أليس التغلب على عقد طبائعنا وسجايانا شرط لاحترام أنفسنا قبل كسب الاحترام من الغير..؟ البساطة سلوك حضاري وعملة صعبة نادرة قلما تجد من مثقفينا ومفكرينا وأدبائنا وعلمائنا ومربينا من يتوسل البساطة للنفاذ إلى دواخل النفوس بل المشهد المألوف: تؤدة ووقار مبالغ فيهما، جهامة ونفور من الغريب، سوء ظن بالناس -كل الناس-، حذر لا مبرر له غالبًا، تضخم للأنا.. أقول كن جميلاً تر الوجود جميلاً (إيليا أبو ماضي). إن طهارة الذات، ونقاء التعامل الإنساني مع الغير، مدخلان مهمان في التنشئة الإسلامية للإنسان الصالح والمواطن الصالح. 3- التربية المعرفية هناك عناية خاصة للمشتغلين بالتربية بتلقين العلم الشرعي للناشئة، إما بحفظ القرآن، أو استظهار المتون العلمية والتعليق على حواشيها، وهذا خير ولكن.. "كونوا ربانيين". - العلم بالأحكام وقواعد الاستنباط (امتلاك آلية الفقه) - العمل بالعلم وحمله وأداؤه بورع (المصداقية) - الفقه بخبايا النفوس وكيف يعالجها (الذكاء) - التفاعل مع الواقع وإدراكه والاتصال ب (فقه الواقع) هذه المعايير التي تضبط لنا صياغة المنهج العلمي الذي يهدف إلى إخراج جيل علمي جديد، بعد أن عاشت (الصحوة) مرحلة استثارة الهم وتجييش العواطف ورفع الشعارات المبشرة بالإسلام نهج حياة. يقول المثل: لأن تعلمني كيف اصطاد السمك خير لي من أن تعطيني كل يوم سمكة، هذا هو دور العالم، مربٍ وليس وسيطًا. يكَّون ولا يلقن، ويعلم آليات إنتاج العلم لا استهلاكه ولكن تقدير الطلاب لأستاذهم يعطلهم عن الدرس والبحث حال غيابه، لتبقى (هالة الغياب) مانعة من كل شيء إلا البكاء والرثاء وهذا حق واجب علينا، ولكن في إطاره الصحيح الذي يعني استئناف المسيرة الكف عن تثبيط الهمم، بالبكاء على فقد العلم والبصيرة. العودة إلى ما أمرنا به القرآن من سلوك حال تعاطينا الشأن الثقافي والمعرفي وذلك أن الآراء والاجتهادات لابد أن تختلف، لكن التعامل مع هذه الظاهرة لابد أن يستصحب المسؤولية الأخلاقية "لاضرر ولا ضرار". فالجدل لا يكون إلا بالحسنى، والدعوة لا تكون إلا بالحكمة، والبعد عن التضليل: (ولا تلبسوا الحق بالباطل)، وعن المزايدة (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم)، والدعاوى التي لا يصدقها العمل (كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون). هذا يتقاطع مع البناء الأخلاقي السليم لا شك، ولكن لا ينفك عن الشأن الثقافي. 4- التربية الدعوية قدرنا أن نكون أمة دعوة ورسالة، ولكن أن تتضخم الرسالة، فنجافي الموضوعية أمر ليس في صالح هذه الدعوة التي باتت مطالبة اليوم بأن تكون أكثر رشدًا. فلا تحتكر الحقيقة، في اتجاه ينزع إلى الإقليمية ونبذ (الوافد)، بل نطلع على كافة التجارب الإسلامية، بل الإنسانية ونفيد منها، فقد نتعرف على (ذواتنا) أو الأنا من خلال (الآخر). وننمي حاسة الوعي بالواقع ونقده، باعتدال وموضوعية، ونوسع آلية (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) حتى تشمل ما هو أعم من الممارسات الاجتماعية، السلوكية البسيطة. ونتحول من إنتهاج الفردية والارتجال في أي عمل إسلامي إلى الجماعية، إلى المؤسسية والمهنية المحترفة، مع تجذير روح (الشورى) كضمانة لجماعية الأداء، والحفاظ على روح الفريق الواحد. ونتداعى لتنسيق يروم (التكامل) و (التخصص) بين الجهود الدعوية، حتى لا يهدم أحد جهد آخر، طالما أن كلاً ميسر لما خلق له. ونستغل تعدد المشارب نجيره لصالح العمل للإسلام في نهاية المطاف. إن مثل هذا النقد لازم للبناء، ولابد من تكرار التوقف للمراجعة والمحاسبة لإنقاذ التربية والمراهنة عليها حلاً، أو جزءًا من الحل في الإجابة عن ذلكم السؤال الكبير: كيف ننهض؟ أسامة الغامدي (بتصرف)