في خضم حملة تقتيل فلسطينييغزة, التي باشرت بها إسرائيل رسميا أواخر شهر فبراير, من الجو بالطائرات والصواريخ, ومن البر بالدبابات وفرق الاغتيال الخاصة, قال نائب وزير الدفاع الإسرائيلي ماتان فيلنائي, وهو شيخ طاعن في السن, هادئ, يدرك جيدا بالحكمة التي تأتت له بالتجربة, قال: كلما اشتدت الهجمات بصواريخ القسام, وزاد المدى الذي تصل إليه الصواريخ, جلبوا على أنفسهم محرقة أكبر, لأننا سنستخدم كل قوتنا للدفاع عن أنفسنا . قد لا يكون أمر تقتيل الفلسطينيين, أفرادا وجماعات, شيوخا ونساء وأطفالا ورضعا, مقاومين بالسلاح أو موكلين أمرهم لله, ببيوتهم كما على الجبهة, المبرزين لوجوههم جهارة كما المتخفين, الحاملين للسلاح, كما المجاهدين بالكلمة والصورة... قد لا يكون أمر تقتيلهم مثار استغراب أو مكمن استفهام, فهذا كان قدرهم ولا يزال, منذ نكبة العام 1948, وإلى حدود اليوم. لكن الجديد المستجد حقا, إنما استعارة إسرائيل الرسمية لتعبير يرفض اليهود استعارته فيما سوى حالة المحرقة, التي تعرضوا لها على يد الألمان بالحرب العالمية الثانية, لا بل ذهبوا لحد إجبار العالم على القبول برواية عنها واحدة, روايتهم هم لا سواهم, وضغطوا على أكثر من دولة, كي تجرم التشكيك في حقيقتها , أو المزايدة على خلفية من الطعن في العدد الحقيقي للذين تعرضوا للمحرقة, بأربعينات القرن الماضي. إن توظيف المحرقة من لدن يهود العالم بالماضي كما بالزمن الحاضر, لم يقتصر على ابتزاز العالم الحر , ليمنحهم دولة قومية, تقيهم من الخوف وتؤمنهم ضد الجوع (وقد كان لهم ذلك على حساب فلسطين), ولم ينحصر في ابتزاز العالم المذنب , لدفع التعويضات للضحايا , الموتى منهم كما الأحياء على حد سواء. ولم يقف عند حد تجريم المشككين في الرواية الرسمية (حتى وإن كانت نابعة من أكاديميين, ذوو باع في البحث, ولا مصلحة لهم في المزايدة), بل أسسوا لأنفسهم لوبيات خفية بكل الدول الكبرى, جعلت سلوك دولتهم بمنأى عن المحاسبة, وقادتهم بمنأى عن العقاب, في حين ضمنوا لأنفسهم بالآن ذاته, تعاطف معظم دول العالم, هم الذين تخفوا ويتخفون دائما, خلف مقولة إنهم الديموقراطية الوحيدة وسط سيل من الديكتاتوريات , وإنهم الدولة الوحيدة بالعالم التي يحيط بها الأعداء من كل جانب . ما الداعي إذن لأن تذهب إسرائيل لحد التهديد بتحويل قطاع غزة إلى محرقة كبرى , هي التي احتكرت التعبير لنفسها, وجعلت منه مصدر ابتزاز وتعاطف, وسمت به, من بين ظهرانيها كما من بين ظهراني الولاياتالمتحدة وأوروبا وغيرها, سمت به لدرجة القداسة؟ إن الذي يشي به تصريح نائب وزير الدفاع الإسرائيلي, والموت رائحة غزة بامتياز, إنما ثلاثة أمور أساس, لن تخجل إسرائيل ولن يحول دونها ودون تنفيذ ذلك, حائل ديني أو أخلاقي يذكر: + الأول ويتمثل, كما بفترة النازية, في قابلية إسرائيل على نهج سياسة الترحيل الجماعي للفلسطينيين (بغزة كما بالضفة, كما داخل الحزام الأخضر) إلى جهة ما من الجهات (قد تكون سيناء, وقد تكون صحارى الأردن, وقد تكون غيرها) بغاية التخلص منهم نهائيا, وضمان نقاوة الدولة اليهودية , تماما كما فعل هتلر, عندما عمد إلى ترحيل اليهود, وإبعاد جزء كبير منهم عن ألمانيا, لضمان طهارة وسمو العرق الآري, الذي لطالما آمن به, وجعل منه ناظما رفيعا لأمبراطوريته. لن تكون جهة المصب مركز اعتقال واسع للفلسطينيين فحسب, بل سيكون أوشفييتزا جديدا وموسعا, يقف العداد به عند حجم الموتى والموبوئين, لا عند من هم أصحاء أو ضمن الوافدين الجدد, أو ما سواهم. + أما الثاني, فقد يكون تحويل فضاء غزة ذاته إلى أوشفيتز حقيقي, يمكن إسرائيل, وهي المسيطرة عليه جوا وبرا وبحرا, من تحويله إلى جحيم لا يطاق, تتحكم في أزراره عن بعد, قطعا لتيارات الماء والكهرباء والطاقة والغذاء كلما عن لها ذلك, أو ارتأت أن ثمة بعضا من الممانعة باق هنا أو هناك. لن تعدم إسرائيل السبل في تبرير ذلك ( تجميعهم ومراقبتهم, درءا للشر المتطاير من أعينهم, والكامن بدواخلهم ), بقدر ما ستعمد إلى تسويغ الوضع الجديد (عندما سيتسنى للأمريكان تمرير مشاريعهم بكل المنطقة), على أساس كونه حماية لإسرائيل من الفلسطينيين, وحماية لهم من بعضهم البعض, هم الذين (الفلسطينيون تقصد) انشأوا لأنفسهم دويلات (تماما كملوك الطوائف) بالضفة وغزة...ولربما أيضا بدول الجوار المباشر, حيث المخيمات المتباينة الانتماءات والمشارب. + أما الثالث, فيرتبط بالمطاردة, كما بعهد ما بعد النازية, مطاردة كل من تلطخت يداه بدم اليهود , أو تواطأ يوما ما مع أعدائهم, أو غض الطرف عن معاناتهم, أو تمنع في مساعدتهم, وهم بالمحنة, محنتهم مع صواريخ القسام. لن يسلم من المتابعة المقاومون (في حالة استسلامهم, وحصر الأفق من أمامهم), بل وكل من ادعى أو كابر في الادعاء بأن فلسطين تاريخية , أو جاهر بأن إسرائيل دخيلة, لا, بل لن يسلم من المطاردة من فكر بقرارة نفسه حتى, بحقه في العودة للوطن (ومفاتيح بيته بجيبه), أو ساومه الحنين للصلاة في القدس, حتى وهي مهودة عن آخرها. وعلى هذا الأساس, أساس كل ما سيق من كلام, فإن تهديد نائب وزير الدفاع الإسرائيلي بتحويل غزة إلى محرقة كبرى , إنما يستحضر كل هذه الرواسب: رواسب التفنن في تعذيب وقتل الغريم, رواسب حرمانه من الآدمية الطبيعية التي منحت له من السماء, ورواسب الاستئصال العرقية التي يتسنى للآخر استدعاؤها, كلما توفرت لديه القوة أو المناعة أو الجلد (عبر الاحتماء بالأقوى) لإعمالها ضدا على الأخلاق, وعلى القيم, وعلى الحق في الحياة كسائر مخلوقات الله. إن مدعاة الغرابة في تصريح ماتان فيلنائي, إنما لجوء الخصم للأداة التي يجرم بها خصمه. ففلسطينيوغزة ساميون كما يهود إسرائيل والعالم, لا مجال هنا للادعاء بتجريمهم على خلفية قوانين اللاسامية . وفلسطينيوغزة أصحاب الأرض بالوراثة والتواجد المستمر, وليسوا ولم يكونوا يوما ولا ادعوا كونهم, عرقا صرفا, أو هم أصحاب ديانة نقية, تجبرهم نواميسها للعيش بغيتوهات معزولة عن باقي البشر, والنظر إليهم من منظورهم الضيق والمختزل. لو تسنى لإسرائيل حقا أن تعمد إلى تكريس ما قاله نائب وزيرها في الدفاع, فسنكون حقا بإزاء إفناء للسامية بأدوات السامية ذاتها. حينها لن تستطيع إسرائيل الادعاء بأن ثمة استهدافا للسامية, وإن قالت به أو ادعته, فسيرفع الفلسطينيون بوجهها محرقة طاولتهم من لدن أبناء جلدتهم وأبناء عمومتهم , وليس من لدن عرق آخر, يدعي لنفسه النقاوة والطهر. لست مضجرا بالمرة من عبارة المحرقة , التي وردت على لسان ماتان فيلنائي, فإسرائيل سلكت مسلكها منذ العام 1948, حتى دونما أن يرد التعبير إلا في أواخر فبراير من العام 2008, لكن الضجر (ضجري الخاص على الأقل), إنما يتأتى من ثلاثة مواقف , تبدو لي أن لا مانع لديها في أن تعمد إسرائيل إلى حرق ساكنة غزة, بالتضييق المشدد, بالقصف المسترسل, أو حتى بأفران الغاز إن أمكن: + الأول, موقف الأمريكان والعالم الحر مما جرى ويجري, ولكأن إسرائيل تدافع عن نفسها حقا عبر مواجهتها لبضعة صواريخ بدائية, محلية الصنع, لا تقتل بشرا ولا تدمر حجرا, حتى وإن تسنى لها أن تزرع الفزع داخل الخط الأخضر. إن محرقة غزة القائمة والقادمة, إنما هي صناعة أمريكية بامتياز, لا تعمل إسرائيل إلا على تنفيذ أحرفها الأولى, ليس فقط بدليل أن الأمريكان لم ينددوا بها, ولا طالبوا بوقف رحاها, بل وأيضا بدليل تمنعهم في أن تصدر الأممالمتحدة بيانا للتنديد, مجرد التنديد بما يجري. + أما الثاني, فموقف الجامعة العربية والمؤتمر الإسلامي, والحكومات العربية. إنها تثبت يوما عن يوم, أنها مؤسسات موات حقا, لم يعد من بين أيديها ما تقدمه ولا تؤخره, اللهم إلا الصمت والتواطؤ. إنها تندد بالكلام, ولا أثر للفعل من بين ظهرانيها يذكر. وأزعم أنها لن تحرك ساكنا, حتى وإن تسنى لليهود إحراق المسجد الأقصى...وأخشى أن يأتي ذلك اليوم, وتوضع مجتمعة على المحك. + أما حكومة رام الله, فهي التي لربما استعجلت المحرقة وطالبت بها, على الأقل من زاوية تحرير غزة من حكومة حماس, لتفتح السبل واسعة أمام جهابذة أوسلو الفاشلين, لتمرير ما تبقى لهم من ترتيبات دونما تنغيص من هذا الطرف أو ذاك.