إن الوسائل قد تتغير من عصر إلى عصر، ومن بيئة إلى أخرى، بل هي لابد متغيرة، فإذا نص الحديث على شيء منها، فإنما ذلك لبيان الواقع، لا ليقيدنا بها، ويجمدنا عندها. بل لو نص القرآن نفسه، كما قلنا في الحلقة السابقة، على وسيلة مناسبة لمكان معين وزمان معين فلا يعني ذلك أن نقف عندها، ولا نفكر في غيرها من الوسائل المتطورة بتطور الزمان والمكان. ويدخل في ذلك ما جاء من الأحاديث المتعلقة بأدب المائدة في فضيلة (لعق الصحفة) والأصابع ونحوها. وقد ذكر النووي في (رياض الصالحين) جملة منها. من ذلك ما رواه الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: >إذا أكل أحدكم طعاما، فلا يمسح أصابعه حتى يلعقها أو يلعقها<. وروى مسلم عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: >رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاث أصابع، فإذا فرغ لعقها<. وروى أيضا عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلعق الأصابع والصحفة، وقال: >إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة<. وعن أنس رضي الله عنه قال، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أكل طعاما لعق أصابعه الثلاث، وقال: >إذا سقطت لقمة أحدكم فليأخذها وليمط عنها الأذى، وليأكلها ولا يدعها للشيطان، وأمرنا أن نسلت القصعة (أي نمسحها)، وقال: إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة<. إن الذي ينظر إلى لفظ هذه الأحاديث فقط لا يفهم منها إلا أن الأكل بالأصابع الثلاث، ولعقها بعد الأكل، ولعق القصعة أو سلتها ومسحها، سنة نبوية، وربما نظر إلى من يأكل بالملعقة نظرة اشمئزاز وإنكار؛ لأنه في رأيه مخالف للسنة متشبه بالكفار! والحق أن روح السنة الذي يؤخذ من هذه الأحاديث هو تواضعه صلى الله عليه وسلم، وتقديره لنعمة الله تعالى في الطعام، والحرص على ألا يضيع منه شيء هدرا بغير منفعة، كبقايا الطعام التي تترك في القصعة أو اللقى التي تسقط من بعض الناس، فيستكبر عن التقاطها، إظهارا للغنى والسعة، وبعدا عن مشابهة أهل الفقر والعوز، الذين يحرصون على الشيء الصغير، ولو كان لقمة من خبز. ولكن الرسول الكريم يعتبر اللقمة إذا تركت إنما تترك للشيطان. إنها تربية نفسية، وأخلاقية، واقتصادية، في الوقت نفسه، لو عمل بها المسلمون ما رأينا الفضلات التي تلقى كل يوم بل كل وجبة في سلة المهملات، وأوعية القمامة، ولو حسبت على مستوى الأمة المسلمة لقدرات قيمتها الاقتصادية كل يوم بالملايين، فكيف بها في شهر أو في سنة كاملة؟ هذه هي الروح الكامنة وراء هذه الأحاديث، ورب امرئ يجلس على الأرض ويأكل بأصابعه، ويلعقها اتباعا للفظ السنة ولكنه بعيد عن خلق التواضع، وخلق الشكر، وخلق الاقتصاد في استخدام النعمة، التي هي الغاية المرتجاة من وراء هذه الآداب. ومن عجيب ما سمعته ما ذكره لي بعض العلماء: أنه زار بعض البلاد في آسيا الإسلامية، فوجد في دورات المياه عندهم أحجارا صغيرة مكدسة في جوانبها، فسألهم عن سرها، فقالوا: إننا نستجمر نستنجي بها، إحياء للسنة! وكان على هؤلاء أن يفرشوا مساجدهم بالحصباء اتباعا للسنة، وأن يدعوها بلا أبواب محكمة، تغدو الكلاب فيها وتروح، اتباعا للسنة، وأن يسقفوها بجريد النخل، ويضيؤوها بمصابيح الزبت، اتباعا للسنة! ولكن مساجدهم مزخرفة، مفروشة بالسجاجيد، مضاءة بثريات الكهرباء! يوسف القرضاوي