هل ثمة منطقة فراغ؟ يبدو أن أمرا ما لم يتضح بعد حينما يقال أن لا نص في النازلة الكذائية. إن الحديث عن "إذا لم أجد يصار إلى" ، لا علاقة لها بالتأويل. التأويل نفس واحد. ليس ثمة دليل وآخر ما دونه في ظهور المعنى. كل التأويل ينتج قطعا وظهورا ويكشف بالقدر نفسه من الكاشفية عن واقع الدليل . وقد قلنا إن كبرى دليل التأويل أو حجية دليليته ترتكز على منطق انبناء الآيات القرآنية وفق منهج أئمة أهل البيت وحلقتهم الأولى علي بن أبي طالب وتلاميذه مثل ابن عباس وابن مسعود ، وعلى سيرة المؤولة من جيل الصحابة والتابعين المشهود لهم بالقراءة وعلى الاستبطان الشخصي و العرف النوعي، أي العنايات المتعارف عليها وعمليات الإبدال والاستكمال الحاكمة في عرف المنطق التداولي عند الناس ، ولغاتهم الطبيعية ورموزهم في الأحلام الليلية واليقضوية ومعاشهم. إن النص كائن متحرك. وحينما نستنطقه فإنه يجيبنا لا محالة. وبالتالي سنجد فيه بيان كل شيء. وليس روح النص، سوى هذا المسلسل اللانهائي من المعنى الذي ينطوي عليه النص. "روح" النص ليس مفهوما غامضا وعماءا لا تجسيد له، بل إنه هذا التكوثر المعنوي والدلالي نفسه، للنص. إنها سلسلة من البطون التي تظهر بحسب الاقتضاء وضرورات الحضور. كلهم يتحدث عن "روح" القرآن ولكن بكثير من العماء. وكلهم يقول بأن أفضل التفسير هو تفسير القرآن بالقرآن، لكنهم لم يجدوا حلاً أو معادلة علمية لهذه العملية. لكن مع هذا المنظور التأويلي، جعلنا من "روح النص" وفكرة "تفسير القرآن بالقرآن"، أمرا واضحا ومسألة تقنية خارج إطار الغموض. إنه بتعبير آخر، هو المنهج المغيب، الذي لم يفكر فيه المسلمون، منذ معارك الانتقال من مرحلة التنزيل إلى مرحلة التأويل فيما عرف بمعارك التأويل الأولى. هل هي محاولة لإعادة ترتيب مصادر التشريع؟ أعتقد أنه إذا حصل الوعي بالتأويل، نظرا وتطبيقا، فسنكون في غنى عن الباقي. فالصيرورة إلى الأصول هو مؤشر على وجود أزمة في الكشف عن الحكم الواقعي وليس انتصارا منهجيا. علينا ألا ننسى ذلك. نحن نتساءل ما معنى السنة؟ هل هي الأخبار والأحاديث؟ وهذه أمور أقبلها قبولا موضوعيا. ولكنني أقول بأن الحديث لا ينبغي أن ينتهي هنا. فالحديث هو سنة، والسنة هي نص أرجعناه إلى أصله القرآني وأحكمناه به "وتقرأن "، فهو سنة، قالها الرسول أم لم يقلها. فهي سنة ليس من حيث قال بها الرسول(ص) بل من حيث هي تعبير عن مضمون قرآني استنطقه الرسول (ص) ، بوصفه هو نفسه قرآنا يمشي على الأرض. وهذا الكلام الذي أقوله على غرابته التزام بصريح ما ورد في خبر عن الرسول (ص): "فما وافق كتاب الله فهو عنى قتله أم لم أقله". فالمناط في "السنة" ليس هو ما ينطق به الرسول (ص) بما هو بلا شرط ، بل ما ينطق به الرسول بما هو ناطق عن القرآن. وبما أن الرسول (ص) جاء معلما للناس، فهو جاء ليربيهم على كيفية استنطاق القرآن، ليكون كل حديث لهم بعده "سنة"، شريطة أن يكون تعبيرا مضمونيا عن القرآن. ولذا جعل العرض على الكتاب كالعرض على السنة النبوية، بمستوى تراتبي في الحجية بينما الصحيح أنه بمثابة العرض على الحقيقة نفسها، وبأن الرجوع إلى الرسول(ص) في الاختلاف يصار إليه في حال غم علينا العرض على الكتاب وتعذر من حيث جهلنا بمحكماته، حيث معنى ذلك المحكمات الخاصة بموضوع العرض على الكتاب واستنطاقه. أي المحكم الموضوعي النسبي وليس المحكم بالمعنى المطلق بحسب التقسيم النهائي الذي قال به البعض. والحال، أننا نعاني اليوم من ظاهرة توقف الزمن التأويلي. أي أننا نعيش توقفا في زمن "السنة"، المعبر عنه بعصر الانسداد. وهذا الانسداد راجع إلى عجزنا عن الانتقال من زمن التنزيل إلى أزمنة التأويل. هذا ما يتصل بالأصل الثاني من أصول التشريع، حيث أرى أن "السنة" هي أوسع من المفهوم الذي أعطي لها في علم الحديث، لأنها تشمل كل ما هو تعبير عن روح القرآن؛ أي كل ما "تقرأن" بفعل القياس على الكتاب. وهي سنة جارية ودائمة، خلافا لتوقفها المزعوم. أدعو إلى توسيع مفهوم السنة واستمراريته. ولهذا نلاحظ حتى في الخبر: " من أحيى سنة..." أو " من سن سنة..". أما ما يتعلق بمصادر التشريع الأخرى، أقول أن ثمة بناءا تاريخيا متكاملا لهذه المصادر. و الخلاف هو هنا في المفهوم الذي خلعوه على "السنة" وعلى "العقل" وعلى "الإجماع" وعلى باقي المصادر الأخرى. فأي عقل وأي سنة وأي قياس وأي إجماع نريد يا ترى؟ أعتقد أن ثمة تساهلا وتسامحا في كل هذه المباني. لنأخذ على سبيل المثال الإجماع. كيف يمكن إحراز الإجماع. وأي إجماع هو المعتبر وما حجية هذا الدليل؟ هناك من يقول بإجماع أهل الحل والعقد. فهناك من يتحدث عن إجماع أهل المدينة وهناك من يتحدث عن إجماع عصر بعينه وهناك من يرى إجماع العصور كلها وهناك متسامح قال بحجيته من حيث هو كاشف عن رأي المعصوم. على أن إحراز الإجماع هو أمر في عداد المستحيل. لذا أرجح رأي من اعتبر الإجماع مجرد "مسامحة". وأما القياس، فأي قياس هو حجة؟ نعم هناك من حصر القياس الشرعي في أشكال محصورة في قياس الفرع على الأصل مع اجتهاد في تحقيق المناط لتبرير التعدي بالحكم من الأصل إلى الفرع. وقسم رفض القياس رأسا، واعتبر ضروبه المقبولة كقياس الأولوية من المفاهيم لا القياسات. لكنني أعتقد أن لا جدوى من نقاش كهذا كما جرى بين أهل الأصول والأخبار و الظاهرية الرافضين للقياس أيضا ، لسبب بسيط، هو أنه لا وجود لخطاب أو دليل أو أصل لا يقوم على القياس. حتى التأويل هو قياس قائم على التمثيل. ولعله الصورة الأكثر مشروعية ، لأنه من القياس الذي قام الدليل على حجيته لمقام قياس السنة على الكتاب ، حيث كل عملية لعرض السنة على الكتاب وأنا أفضل أن أقول السنن فضلا عن السنة النموذجية النبوية ، بما فيها كلام الناس، لاشتماله إجمالا على السنة الحسنة والسنة السيئة هي في حد ذاتها قياس. ومن هنا لا أقول أن قياس الأولوية ليس قياسا أوأنه فحوى للخطاب، فليس ثمة جدوى من نسبته للمفاهيم طالما أن دائرة المفاهيم نفسها لا تنشز عن القياس. إن مذمومية القياس ليست هي القياس من حيث هو، بل إن المذمومية في بعض صورالقياس التي لا تحرز واقعا، بقدر ما تؤدي إلى الظنون وعدم القطع بالمناطات. لا يهم هاهنا أن تكون من جنس الظن العام أو الخاص، بما أن تلك لا قيمة لها في منطق التأويل الذي لا يصار فيه إلى ما هو دونه بحثا عن كشف واقعي أو وظيفي، ما دام أن كاشفيته عن الواقع هي وظيفته نفسها. وأيضا لا تمثل الوظيفة إزاءه موقع المقابل للكشف الواقعي. لأن كل ما هو ناتج عن التأويل هو واقعي بالضرورة. على أن مغالطة الأصولي هي هنا ؛ في التفريق بين الواقعي والوظيفي، في حين أن الوظيفة ما هي في نهاية المطاف إلا إنشاءا لواقع جديد. فضلا عن أن الوظيفة هنا ليست مجرد مصلحة سلوكية فحسب، بل هي كاشفة. وإذن أمكننا الحديث عن الوظيفة الواقعية، وليس الوظيفة العملية. نعم، حتى مع فرض القول بالظن الخاص ، لكنه بما أنه قام دليل قطعي على اعتباره ، فهو إنشاء لواقع جديد . وأما باقي الأصول فمدرك حجيتها هو دليل الانسداد أو ما يسمى بمقدمات الحكمة . وقد قلنا أن التأويل هو واحد من ضحايا عصر الانسداد. فمقدمات الحكمة تبرير لانتصار منطق التنزيل على منطق التأويل في عصور موردها التأويل لا التنزيل. وهذا ما يفسر غياب العقلانية ، ما دام العقل هو وضع الشيء في محله، في الزمان والمكان . ولما وضعت الأمة منطق التنزيل في المحل المحدد لمنطق التأويل ، أكدت بذلك على أزمتها العقلانية. وهذا ما عبرنا عنه مرارا بعجز الأمة عن تحقيق التحول من عصر التنزيل إلى عصر التأويل. فنقاشنا لمقدمات الحكمة هاهنا كبروي لا صغروي. فمتى ما صدقنا بكبرى عصر الانسداد ، وجب التصديق بالمقدمة الرابعة من مقدمات الحكمة، أي الاجتهاد. بينما الاجتهاد بحسب منطق التأويل هو عمل دائمي، لا يقوم على مبرر الانسداد، بل هو قائم على مبرر التشابه، حيث كل شبهة في عصر التنزيل أو عصر التأويل هي بمثابة انسداد. وأن رفع الانسداد وإحراجاته هو بإحكام المتشابه بواسطة آليات التأويل وليس بالصيرورة إلى الأمارات أو الأصول غير الإحرازية لإنشاء الوظيفة. لأن عصر التنزيل نفسه شهد هو الآخر دورات تأويلية ، لعلها ما كان ألهم جيلا كاملا من القراء ، وبقي من آثار ذلك ما كان سببا لاندلاع محنة توحيد القراءات، والمؤامرة التاريخية ضد التأويل. إذن، مع وجود التأويل لا مجال للصيرورة إلى ما دونه. فلا مجال للحديث عن إعادة ترتيب مصادر التشريع، لأن الأصل في هذه التراتبية هو القول بوجود منازل في الحجية ، وقد علمت أن لا منازل في الحجية في التأويل ، فلا يصار إلى غيره. أتحدث هنا عن انعدام منازل في الحجية الشرعية لا كما هو حال الحجج في مقام السلم الحجاجي لديكرو. إن تكثير الحجج هناك حول القضية الواحدة من متطلبات الإقناع لا من متطلبات تحقيق العلم. ولا نتحدث بالمعنى نفسه عن مراتب واشتداد في التأويل إلا بالقدر الذي يعود على دربة المؤول وذهوله عن بعض الأشباه والنظائر والحيثيات. إن كبرى التأويل واحدة بلا منازع، ولكن مراتبه متعددة في الظهور والخفاء، حيث ثمة ظهر وظهر الظهر، كما ثمة بطن وبطن البطن. فحجيته واحدة لكن مقدار كاشفيته اشتدادية بحسب المؤول. فالصيرورة عند الاقتضاء هي من مرتبة تأويلية إلى أخرى ، من التأويل إلى التأويل. وإذا قلنا باختلاف التأويل ، فهو اختلاف بالتأويل وفي التأويل ومن التأويل، فما به الاختلاف هو ما به الاشتراك في المقام. إن التفاوت هو موردي وليس حقيقي. فقد رأيت كيف أننا أرجعنا السنة إلى الكتاب ، وكيف بينا أن الإجماع محض مسامحة كما عبر الشيخ الأنصاري وهو من الأصوليين المبرزين؟! وأما القياس فقد علمت أن صورته المشروعة هو قياس القول أو الفعل أو التقرير على الكتاب. وأن التأويل هو أقصى القياس. وأما باقي الأصول التي مواردها الشك فلا يصار إليها لعدم الحاجة إليها وعدم وصول النوبة إلى مورد جريانها ، ولأن لا وجود لمورد متمنع عن جريان التأويل، ونظرا لانتفاء موضوع الأصول مع انتفاء حال الشك البدوي أو الشك في البقاء أو الشك المقرون بالعلم الإجمالي. لأن غاية التأويل الكشف عن الحكم الواقعي، بينما غاية الأصول إنشاء الوظيفة العملية. ومن هنا ، إن كان لا بد أن نتحدث عن إعادة ترتيب أصول التشريع ، فلنقل: إنها الكتاب وحده مؤولا ، أو لنقل: إنه الكتاب والسنة المقاسة عليه والمحكمة به مادة ، والتأويل منهاجا. هنا فقط نستطيع وضع حد لذلك الفصام النكد، مابين الدليل والأصل و مابين الواقع والوظيفة. السنة المستدامة ذلك لأنني أعتقد أن ما حصل في التاريخ هو أن الجماعة المسلمة أخفقت في أن تخرج من زمن التنزيل إلى زمن التأويل. وهي المرحلة التي يخرج فيها النص من مورده الأول ليعانق الموارد الممكنة. فعصر الانسداد إذن هو عصر اغتيال التأويل. وهذا الإخفاق في التحول، ناتج عن عوائق كثيرة؛ قبل أن تكون عوائق معرفية، كانت عوائق سياسية. لقد حاصروا النص وقتلوه. كما حاصروه بمفاهيم من شأنها أن تغتال العقل والنص معا. وأما التعريف الذي ذكرته، فهو تعريف لا يقتصر على أهل السنة والجماعة، بل هو تعريف كافة المسلمين سنة وشيعة. وما نحن بصدده هو أوسع دلالة من هذا التعريف. فالسنة كما أكدنا هي كل قول مقرأن. وكلام الرسول (ص) هو سنة لأنه أقصى التعبير عن منطق الكتاب، من حيث هو قرآن يمشي على الأرض. والواقع أن كل قول أو فعل هو سنة، أيا كان مصدره. لكن هناك سنة نموذجية خاصة وأخرى عامة: سنة حسنة وسنة سيئة . والمراد بالسنة الشرعية هنا ، السنة الحسنة المقرأنة. أي هي كل قول وأي تقرير "تقرأن" بعد عرضه على الكتاب. وهذا سر الدعوة إلى توسيع مفهوم السنة، انطلاقا من الكتاب نفسه. وأما المائز في سنة الرسول (ص) ، فهو أنه لم يأتينا بالسنة لنحفظها ، بل لقد علمنا كيف ننتج السنن. وهو مصداق قوله تعالى:(ليعلمهم الكتاب ويزكيهم). بل وهو مصداق ما جاء في الخبر:"اعقلوا عني الخبر عقل دراية لا عقل رواية". فسنة الرسول (ص) هي مثال لتمثل المنهج لا للحفظ والحشو. من هنا ندرك كيف تزامن عصر الانسداد مع بزوغ ظاهرة الحفاظ والحشوية. حتى كان من باب المدح أن يوصف العالم بالحافظ، لا بالقارئ. والقارئ والقراء، هي الصفة التي سمى بها الرسول (ص) الفقهاء من أصحابه من الذين أوتوا فن تأويل الكتاب. فظاهرة الحفظ ، على عكس المدعى، تخفي فشلا ذريعا في حفظ السنة . لأن السنة تنتج لا تحفظ . وأن المناط في سنة الرسول (ص) هو منهاج السنة ، أي الدراية وليس الرواية فحسب. ولعل هذا الوعي بالسنة هو ما كان أخّر فعل تدوينها على يد الخلفاء الأوائل، بل ومحاربة تدوينها أصلا. السنة والقرآن: أي دور تكميلي؟ هذه أكبر مغالطة في تاريخ التشريع الإسلامي. أولا، لأن هذه تتناقض مع حقيقة كون القرآن اكتمل. ولا يمكننا الحديث عن تكميل للقرآن. لأن القرآن إذا كان مهيمنا على ما سبق من الكتب السماوية فكيف تكمله السنة؟! فالقرآن مهيمن على السنة وليس العكس ! السنة هي تفريع على القرآن و بيان لما تشابه منه. وهذا البيان هو من داخل القرآن نفسه. فإما أن ينتج "نصا آيويا" ممكنا كما قلت، أو" مضمونا آيويا" فيكون سنة. ولذا أرى في ما ذهب إليه الشاطبي من أن السنة التشريعية ليس بالضرورة لها أصل في الكتاب ، كلام فيه تأمل. القرآن في حد ذاته قادر على أن يتحرك بدلالاته حينما ننفتح عليه بعقل تأويلي. فالقرآن نفسه يقول: (أفلا يتدبرون القرآن، أم على قلوبهم أقفالها). هذه الأقفال، هي كل المفاهيم التي حاصرت النص. مثل قولهم بوجود آيات محكمات وأخر متشابهات. أو قولهم بأن ثمة آيات ناسخة معينة وأخرى منسوخة معينة أيضا. وهو ما أعتبره "آفة تعطيل النص القرآني". في المبدء ، لا أنكر هذه المفاهيم ، بل بالعكس، أتبناها بقوة. ولكنني أحمل مفهوما آخر عنها، يختلف جذريا عما حملوه إياها من معاني خاطئة و متداولة في علوم القرآن وهو مقتضى التجديد الجذري. إذن، السنة ليست مكملة للقرآن، بل هي إكمال واستبدال للقرآن. والفرق هنا واضح بين الإكمال والاستكمال. فأما الإكمال فليس شأنها، وأما الاستكمال ، فهو طلب معناها الخفي الثاوي في بنيتها السياقية. بمعنى آخر، أن استكمال السنة للكتاب ، هو إظهار ما هو كامن في النص وإن بات محجوبا عن المتلقي العادي. فعملية الاستكمال تختلف من متلقي إلى آخر . فكلما تكثفت الشبهة واتسعت دائرة الجهل ، إلا وكان فعل الاستكمال أكبر وأكثر إلحاحا. وكلما كانت دائرة العلم أوسع عند المتلقي كلما استغنى عن التطويل في الاستكمال. فالاستكمال يتسع بشكل مضطرد مع حال المتلقي في الجهل وحاجته للإظهار. وهذا واضح في بنية الدليل نفسه ، حيث تكاثر مقدماته يتوقف على حال المتلقي. فمنه من يستغني بمقدمتين أو أقل ومنه من يحتاج إلى إظهار ما لا يحتاج الآخرون إلى إظهاره من مقدمات. ويستمر ذاك حتى تندك الواسطة تماما بين الموضوع والمحمول، فيكون ذلك بمثابة حدس. وليس الحدس حينئذ سوى دليل تحقق معه الاستغناء عن المقدمات في حال المتلقي الذي أمكنه استبصار ما خفي من الدليل بمجرد تصوره للموضوع والمحمول، مع استبطان كل المقدمات دون حاجة إلى إظهارها. ولذا كان هناك من القراء من يستوعب القرآن كله من خلال الفاتحة، ومنهم من استوعبه من خلال البسملة، ولا غرابة فيما يقوله بعض العرفاء من أن ثمة من يدركة من النقطة. لكن هناك من لا يفهمه جميعه إلا إذا اتسعت استكمالاته وتجاوزت حجمه، كما رأينا في تآويل القراء الذين تضمنت مصاحفهم استكمالات جعلت من السور الصغيرة ما يقارب الطوال منها ، كما تدل إحدى روايات السيدة عائشة في الصحيح. وبما أنني أرفض أن تكون معايير تصحيح السنة من خارج القرآن نفسه، فكيف يعقل أن معيار تصحيح السنة يحتاج إلى أن تكمله السنة. القرآن هو معيار تصحيح السنة. ولا أبحث عن صحتها من خلال سندها أو رجالها. لأن فكرة السند والرجال تدل على أزمة في العقل المسلم. حيث أصبح عاجزا عن أن يعرض كل قول على القرآن لإحكامه. وربما أنهم عجزوا وفشلوا في ذلك، فاختاروا طريقا وعرا وظنيا، ألا وهو التماس صحة الخبر في الراوي الفلاني، والسند الفلاني. وخلقوا لنا علما، هو أقرب إلى علم "استخبارات" أسموه عبثا علم "الرجال". على أن علم الرجال فضلا عن أزماته يظل المخرج الممكن من الأزمة التي وضعهم فيها غياب المنهج والضابطة التي يتم بها قياس السنة على الكتاب. وهي طرائق عاجزة عن إحراز الحقيقة. وقصارى ما يمكن أن تنتجه،مجرد ظنون حول الأشخاص إلا ما ورد من ذلك حسا كما يرى الرجاليون. وهكذا بات العقل الإسلامي حبيس دوامة من المفاهيم هي أجنبية عن روح القرآن الكريم وعن منطق البنية القرآنية. أليس التفصيل والتخصيص إكماليين؟! إن التخصيص والتفصيل أدوار إجرائية . ومع ذلك نقول : ليس كل الناس قادرين على استخلاص المعنى مباشرة من القرآن، لأسباب، هي بالتأكيد خارج المنطق القرآني ولا تتعلق بتيسير قراءته. وإلا لما جهل الناس حتى ظاهر القرآن المدرك بالعنايات العرفية المشهورة والمتداولة. أي كما قلنا قبل قليل هي أسباب راجعة إلى شأنية المتلقي وغفلته وطبيعة الأقفال النفسية والعوائق المعرفية التي تحجب عنه الرؤية. فرجوع الجاهل إلى استكمالات العالم هو أيسر فهما من الرجوع إلى النص الأصلي حيث تضمر بعض الاستكمالات. الرجوع إلى الرسول(ص) لكي يحكم ما تم حوله الخلاف، هو رجوع لما هو أظهر من الكتاب. لأن مناشئ الخلاف أحيانا لا تعود إلى اختلاف في الطريقة بل تعود أحيانا إلى انضمام بعض المقدمات بما يجعلها في حكم المتشابه. وإن الرجوع إلى الكتاب يتم بقرأنة جماع السنن القولية والفعلية بواسطة العرض على الكتاب، أو الرجوع إلى الرسول(ص) لإحكام ما تشابه على الناس، هو تعدد في منازل الظهور والبطون. فهناك من لا يفهم من الكتاب إلا ظاهرا، وهناك من لا يفهم منه إلا ظهر الظهر، كما أن من المؤولة من يدرك باطنا ، وثمة منهم من يدرك بطن البطن. وكله تفاوت بلحاظ حال المتلقي في العلم والجهل. لذا وجب رجوع الجاهل إلى العالم، لإحكام ما تشابه عليه، وهو ما يجهله. فالرجوع إلى الرسول (ص)، هنا هو رجوع إلى (قرآن يمشي على الأرض ) هذا في مورد السنة الفعلية و التقريرية أو (لا ينطق عن الهوى) في مورد السنة القولية فحينما يقول الرسول (ص) بأنه ستكثر بعده الكذابة، فإذا جاءكم حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه وإلا فاضربوا به عرض الحائط، فهذا معناه، أنه كل ما يصدر عن الرسول (ص) ، لا يمكن أن يكون جديدا على القرآن، وإنما استظهار لما خفي في أسيقته نزولا عند طلب المتلقي، متى ما تشابه عليه من أمر القراءة شيء. فالسنة كما وضحت سابقا ليست إضافة على القرآن، بل هي لو صح التعبير،إعادة إنتاج قرآني. هي استبدال واستكمال، أي هي تأويل. ليست النصوص فقط هي ما يحتاج أحيانا إلى إحكام تأويلي، بل هناك من التأويل ما يحتاج إلى مزيد من الإحكام التأويلي أيضا. أو لنقل: من التأويل ما يحتاج إلى تأويل. على أن الذي يقرر هذه الحاجة دائما، هو المتلقي وحاله في الجهل والعلم كما مر معنا. إن عملية الإحكام هي عملية نسبية، بحيث الأظهر هو دائما محكم للأقل ظهورا. وإذا ما اعتور بعض التآويل من غموض أو عدم تحقق ظهورها التام، واحتفاظها ببعض باطنيتها، فإن من شأن التأويل العليل أن يعرض على التأويل الأتم، طلبا للإحكام. فالرجوع إلى الرسول(ص) في الخلاف معطوفا على الكتاب ، هو من باب قياس التأويل العليل على التأويل الأتم. إن التأويل الأتم، أو السنة النبوية هي في طول القرآن . نعم ، قد نتحدث عن ضرب من الإكمال، ولكنه إكمال بلاغي بياني وليس " إضافي ". أي استكمال محض. فالاستكمال السياقي الذي يزيد المعنى بيانا و تأكيدا، هو ثاوي في إمكانية النص ذاته على الاختزال و الإكمال و الإبدال أيضا. وهذا موجود في عينات من القراءات التأويلية، كما عند ابن مسعود أو ابن عباس. فقد كانوا يقرؤون بعض الآيات إكمالا. وهذا الإكمال يستوحونه من داخل النص. إنه إكمال يتيحه النص ولا يضاف إليه من خارج المخزون السياقي القرآني. فحينما يقرأ بن مسعود قوله تعالى:(فما استمتعتم به منهن) مستكملا وقارئاإياه: (فما استمتعتم به منهن (إلى أجل مسمى)). فإنه بالتأكيد لم يخبرنا من أين جاء بهذا. ولكننا وفق المنهج الذي فصلنا في أوالياته ، يمكننا اختبار مدى صحة هذه القراءة التأويلية. يمكننا تطبيق المنهج نفسه ونصل إلى القراءة ذاتها . فابن مسعود لم يأت بهذا الإكمال من عنديته، بل هو أحال قوله تعالى:(فما استمتعتم به منهن ) إلى قوله تعالى:(ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا ) أو قوله ( ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ). فقرأ الآية الأولى إكمالا ( فما استمتعتم به منهن (إلى أجل مسمى)). وهو كما ترى تمثل للمنهج نفسه. إن ما لا يظهر من المعنى(المتشابه) الذي قيل: هو ما تجهله ، ينكشف ويظهر بعرضه على المحكم. لأن المحكمات هي "الكتاب" وهي الأصول. من هنا كان التأويل من الأول (بتسكين الواو). فحينما سأل أحدهم الإمام علي بن أبي طالب عن قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناظرة) ، وهو يعتقد بإمكان الرؤية الحقيقية، أجابه الإمام بأن معناه الانتظار وليس النظر. وهذا حتى و إن كان واردا في لغة العرب، إلا أنه سلك إليه تأويليا بإحكام هذا التشابه من خلال آية أخرى. أي أنه لم يعترض على ذلك استنادا إلى اللغة بل إلى التأويل. فأحالها على قوله تعالى : (فناظرة بم يرجع المرسلون). لا أعتقد أن الأمة يمكنها أن تضل و تتفرق و هي تملك التأويل. ففي التأويل تكون الوحدة في التعدد والتعدد في الوحدة. نعم، هناك خبر يقول : "أوتيت القرآن و مثله معه ". وهو حديث ثابت عندي تأويلا كما ثبت في الخبر. أي أنه عدل القرآن، من حيث هو فسر وتأويل له. لأن وظيفة الرسول (ص) أن يبين للناس ما أنزل عليهم. "فمثله معه" هنا، معناها، الصورة المطابقة له. لقد ذكرنا بأن معيار الصحة أو الخطأ في الأخبار هو بعرضها على القرآن. و رب سائل يقول : المشكلة هي في العرض على القرآن. من يملك أن يعرض السنة على القرآن؟ و الواقع أنهم بهذا يدخلوننا في دور منطقي مستحيل. على أن العرض على القرآن ليس مسألة فوضوية أهوائية، بل هي عملية قائمة على منطق المثل و الممثلون وقاعدة النظير وفعل التنسيب. ولذا يقول الإمام الرضا : " ما جاءك عنا فقسه على كتاب الله عز و جل و أحاديثنا، فإن كان يشبههما فهو منا و أن لم يشبههما فليس منا". بمعنى أن المعتبر والحجة ما كان كتابا أو مثله. والمثل هنا يتحقق بالعرض على الكتاب عبر منهج التأويل والإحكام. إن القرآن هو كتاب "ينطق بالحق". و الرسول ( ص) (لا ينطق عن الهوى ) ، أي ينطق بالحق. ولذا قيل " كان قرآنا يمشي على الأرض". وهذا هو معنى مثله معه. بل إننا بالتأويل نفسه نستطيع فهم هذه المثلية. فالقرآن يقول: (ما ننسخ من آية أو ننسيها نأت بخير منها أو بمثلها ) . أفهم من هذه الآية تأويلا ، أن عملية النسخ والإحكام هي التأويل نفسه. فما كان من جنس النسخ الحكمي كان بلا شك خيرا ، وما كان من جنس النسخ البياني بالإكمال والإبدال كان مثلا . لأن لا تبديل هاهنا في الحكم بل تبديل في وسائط الإظهار والتفهيم. والسنة كذلك من حيث هي مبينة بتظهير المبهم وتقييد المطلق وتخصيص العام .إذن، المقصود ب" ومثله معه" هو التأويل. فالسنة هي التأويل. إن التأويل قائم على منطق المماثلة و الأمثال. ولأنه ميسر لتعدد القراءات وتكاثر الأمثال، كان قرآنا كريما. و يبدو لي أن هذا مفاد ما قاله ابن عباس : " الجماع يقصد الرفث ، ولكن الله كريم يكني ما شاء بما شاء" . فالكناية هنا وهي ضرب من التشبيه مصداق هذا الكرم. فلأن القرآن كريم ، كان التأويل كريما في وجوهه. فالقرآن ضرب من كل مثل، وهو كريم لأنه صادر عن الكريم وغني بالمثال : كرم المعنى. والسنة هي مصداق هذا الفيض من المعنى ومصداق هذا الكرم. المفهوم الجديد للسنة والاستغناء عن السند السند إشارة عن ضعف الوسيلة إلى إحكام الخبر. والتأويل يغني عن الإسناد. فلو امتلكنا ناصية القياس على الكتاب في ضوء الضابطة المذكورة لاستغنينا عن علم الرجال والإسناد بكامله. لكنها الضرورة ومقتضياتها. فقليل من العلم أفضل من عدمه. وهذا هو مفاد قيام هذه العلوم بوصفها ظنية وليست واقعية. دعني أسأل: إذا أتاني حديث قوي السند لكن متنه يناقض القرآن الكريم، ترى هل آخذ به أم أرده؟! وما رأيك إذا جاءني خبر ضعيف لم يقفوا على كل رواته أو لم تثبت عدالة بعضهم، و كان متنه مطابقا للمضمون القرآني، فهل أرفضه؟! و إذن، إن مناط الأخذ و الرد في الرواية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون هو "السند". لأن السند يقوم على عدالة الراوي أو وثاقته. وعدالة الراوي أو وثاقته هي وجهة نظر أو لنقل هو مبلغ علم المحدث أو الرجالي أو المخبر عن حال الراوي. وهنا ربما احتاجوا إلى الإجماع. وهذا أمر مستحيل! ولنفترض أن الراوي موثق وعادل وثقة، فهل مسألة الخطأ في الإخبار هي فقط تلك الأخطاء الناتجة عن سبق إصرار وترصد، أم أن الخطأ أيضا ينتج عن التوهم واشتباهات الراوي؟! فليس الخطأ في الرواية هو الكذب فقط بل أيضا هناك التوهم والاشتباه. الإمام علي بن أبي طالب يقول : "إن في أيدي الناس حقا وباطلا وصدقا وكذبا، وناسخا ومنسوخا و...و" ، ثم يقول : "وإنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس.. "وواحد من هؤلاء الأربعة : رجل سمع من رسول الله (ص) شيئا لم يحفظه على وجهه فوهم فيه.. فلو علم المسلمون أنه وهم فيه لم يقبلوه منه، ولو علم هو أنه كذلك لرفضه". لم يعد التقسيم التقليدي للخبر انطلاقا من السند، ما دام أن الصحة والخطأ في الإخبار لا تختزل فقط في إرادة الوضع والكذب. بل هي مسألة أعم من ذلك ، حيث قد تشمل خبر الثقة الواحد . فإن قالوا أن خبر الثقة حجة، قلنا إن حجيته ليست ذاتية، بل تستند إلى حجية دليل قطعي آخر. وهذه مسألة يمكن الاعتراض عليها انطلاقا من مستويين: أولا : ما يتصل بحال المتلقي. وقد سبق وتحدثنا عن هذه الحيثية في موضوع الدليل. فالأمر نفسه ينسحب إلى دليلية الخبر. وذلك انطلاقا من أن بنية الدليل واحدة سواء أتعلق الأمر بالدليل العقلي أو الدليل الإخباري. ثانيا: ما يتصل بالنص فأما من الناحية الأولى، فإن آية النبأ داعية للتثبت، وليس للترك. وأن هذه الآية في تصورنا وهنا سأسمح لنفسي بمخالفة السائد لدى الأصوليين لا مفهوم لها. بل هي بصدد الوصف، فليست شرطية بهذا المعنى ، فهي على مقتضى الآية الكريمة: (لا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا). وأما تأويلا فإن أي خبر بعد انقطاع زمن الرسالة أو غياب المعصوم ، تقتضي تثبتا ، حيث نبه صاحب الدعوة (ص) إلى تكاثر الكذابة بعده . فيكون حال العلم بالإخبار الصحيح بمثابة العلم الإجمالي . هاهنا، يصار إلى قاعدة العرض على الكتاب والإحكام به. فإذا بما كان علما إجماليا صار علما تفصيليا. فالراوي زمن الحيرة هو فاسق بالقوة لا بالفعل، قبل التثبت. لأننا إذا رجعنا إلى تأويل معنى الفسوق بناءا على قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فؤلئك هم الفاسقون) (ومن لم يحكم بما انزل الله فؤلئك هم الكافرون) (ومن لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الظالمون) (و الكافرين هم الظالمون) فلو توسعنا في وجوه الفسق ، فسنجد أن أحد مصاديقها هو الكفر نفسه بالمعنى العام اللغوي ، أي الحجب والاشتباه، وهذا لا يستثنى منه الراوي الثقة الواهم نفسه. فالثقة الواهم ، هو حاجب للحقيقة ، وإن اختلفت النوايا. فهو من حيث النية ثقة، لكن من حيث الإخبار الواهم وما يترتب عليه من آثار، هو في حكم الفاسق بموجب آية النبأ. هذا دون الحديث عن الظلم بمعناه العام الذي هو شأن الراوي زمن الحيرة بالقوة وبالفعل. إن حال المتلقي في زمن الحيرة إما أن يكون متأولا أو قريبا ممن أوتي التأويل ، لإحراز عملية العرض والإحكام بالكتاب أو لا يكون. فإذا لم يكن، رجع إلى الثقاة ليحملهم مسؤولية الإخبار والرجوع إليهم لمزيد من التحقق . وأما من جهة النص، فإن الموضوع بالنسبة إليه واحد. فالكذب والنسيان والاشتباه ، كلها مرتبة واحدة، أي إخطاء المتن و المعنى. وعليه فإن تمييز الموضوع أو المكذوب أو الموهوم لا يغير في أمر النص شيئا. فهو كله يدخل في حيز المتشابه الذي يقتضي إحكاما. فالتأويل يحقق اقتصادا في العلم واقتصادا في المنهج ، ويجعل من علم الرجال والبحث في حال الرواة وطبقاتهم أمرا لا جدوى منه. إن الاستعاضة بالسند عن المتن، هو ناتج عن أزمة في التأويل والبعد عن روح المنطق القرآني. الذين أوتوا التأويل والعلم بالتأويل هنا مراتب. فليس علم النبي(ص) كعلم غيره. فمن الصحابة من كان مؤولا، ومنهم من كان مقلدا لا يحتاجون إلى علم الرجال والسند. فهذا علم ظني، ولا يكون حاسما في تكذيب الرواية أو تصحيحها. دعني أذكر بأن الاهتمام بالسند صنعة متأخرة عند أهل الأخبار. فلسائل أن يسأل: متى ظهرت فكرة السند؟ لقد ظهرت فكرة السند في أزمنة متأخرة جدا. فهي علم مستحدث ولم يكن تقليدا معمولا به حتى في العصور الأولى. ذلك لأن تدوين الخبر نفسه هو عمل متأخر في التاريخ الإسلامي. إن في التركيز على المتن مناعة طبيعية ضد الاختراق. هناك بعض الوضاعيين قاموا بوضع أخبار كاذبة ونسبوها لصاحب الدعوة. غير أن هؤلاء، حتى لا يثيروا الانتباه، كانوا يصدقون مرات ليكذبوا مرة واحدة. فإذا اعتبرت بن أبي العوجاء كذابا ورفضت كل رواياته، فهذا معناه، أنني سأرفض أخبارا صحيحة، لعلمي الإجمالي بوجود الصحيح بينها. وهناك أناس فضلاء وثقاة، إذا أخذت بكل رواياتهم سأكون قد أخذت بما هو ضعيف ومتوهم ضمن مروياتهم. وإذن، المناط الحقيقي هنا، هو نقد المتن. ونقد المتن هنا، يتم بواسطة عرضه على أصله، وهو القرآن، ليحكمه وينطق عنه، بمقتضى القاعدة : "من رد المتشابه إلى المحكم هدى إلى صراط مستقيم". إن الاستغناء عن العرض على القرآن هو فشل وعجز العقل المسلم الذي ظل قرونا مرتهنا لدليل الانسداد. على أنه لم يعد قادرا على إحراز صدق الخبر، لأنه غير قادر على تحكيم القرآن ،(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون). فالاستناد إلى علم الرجال، كفر وحجب للنصوص الآيوية أو المضامين الآيوية. إذا كان القرآن مهيمنا على الكتب السابقة، وقادرا على الحكم على مضامينها إن هي عرضت عليه، فكيف بالسنة التي هي امتداد للفيض القرآني الكريم. وهذا كلام بل تحدي موجه لمن يجعلون من أنفسهم حراس السنة والحديث. تعالوا إلى كلمة سواء، إلى كتاب الله ليكون حاكما محكما ومهيمنا، ولنكف أن نجعل معيار السنة رهين علم الرجال. إنها دعوة لإحلال علم التأويل مكان علم الرجال. وهي بهذا المعنى دعوة للكلمة السواء، حيث هو مناط توحيد الأمة ومرجعها في إحكام ما تشابه وما اختلف حوله المسلمون. والتأويل كما رأيت هو وسيلتها لمعرفة طرق العرض على الكتاب وإحكام ما تشابه منه. لا، بل أكثر من ذلك، فالتأويل يتطلع إلى أن يجعل الدعوة إلى الكلمة السواء مع أهل الكتاب ، قضية واضحة ، فآلية التأويل تستطيع أن تختبر إن كان القرآن حقا مهيمنا على الكتب السابقة أم لا . وإذا ثبت أنه قادر على أن يوصلنا إلى النص الأصلي للكتب السماوية بواسطة الإحكام التأويلي وبموجب العرض عليه، انحلت المشكلة. وفي هذه الحالة يمكننا أن نعيد إنتاج كتب الأديان السماوية على أساس التأويل، لنقول لأهل الكتاب: هذا هو النص التوراتي أو الإنجيلي الذي نعتبره كتابا سماويا. كيف نتعامل مع المجاميع وكتب الصحاح؟ مثلما دعوت إلى توسيع مفهوم السنة فلا بد من أن تلزم عنها دعوة أخرى لتوسيع مفهوم الصحيح. نحن نتطلع إلى أن تعود الأمة لتكتشف صحيحها و تعيد كتابة صحيحها. ليس الصحيح يكتب مرة واحدة فقط . وليس القدماء هنا أقدر على إحراز الصحيح منها، بل إن التأويل يتيح لك معرفة الصحيح في كل زمان وفي مكان. وذلك ليس لأن من وردوا قبلنا لم يؤتوا التأويل، بل إن منهم المؤسسين والأوائل، وهم أنفسهم يدركون بأن دائرة التأويل تتسع مع الزمان، وخبرة التأويل تتكثف مع التراكم التاريخي. وهذا هو مفاد ما قاله أحد سادة التأويل قديما، أعني ابن عباس، لما أشار إلى أن ثمة آيات من القرآن سيفسرها الزمان. وقول أستاذه علي بن أبي طالب بأن العقل ينمو بالتجارب. إن تعريفي للصحيح هو كل ما تم عرضه على الكتاب فثبت. وبتعبير آخر هو كل خبر مقرأن. أنا لا أدعو إلى رفض ما هو موجود بين أيدينا من متون إخبارية أو المجاميع الحديثية الكبرى ، كما يدعوا البعض بدوافع مذهبية ضيقة ، وهي دعوة مرفوضة من وجهة نظر التأويل نفسه. لكنها بحسب المنظور التأويلي تستوي عندي. إنها ليست في وضع تراتبي. أي ليس ثمة مصنف صحيح، وثمة ما هو أصح منه أو أقل صحة منه في الجملة. فقد يستوي عندي البخاري و الترميذي مع الدارقطني. أي أنها جامعة للصحيح وغيره. وليست الدعوة لتوسيع مدى الصحيح ، تقتصر على التأويل وحده، بل حتى بناءا على منهج السند والرجال، جرت العادة أن تكتب مستدركات للصحاح على أساس المبنى الذي سار عليه أصحاب هذه الجوامع نفسها، كما كتب الحاكم مستدركه على الصحيحين. لست أعتقد أن رواة هذه المجاميع كانوا قد التزموا بنقد المتن. لم نقف على كتاب من هذه الكتب عرض صاحبه محتواه على القرآن، حديثا حديثا. لقد انحصرت مهمتهم في جمع الرواية ورجالاتها، وبعضهم جعل مسؤولية تصحيحها وعرضها على القرآن في عهدة وذمة قارئها كما فعل الشيخ الكليني بصريح العبارة في تقديمه للكافي ، حيث سماه الكافي مسامحة ولم يعتبره صحيحا ، لأن ادعاءا كهذا بالنسبة لرواة ومحدثي ذلك الزمان، دونه خرط القتاد. و ما كان في اعتقاد كافة أصحاب هذه المجاميع ولا في واردهم عرض ما جمعوه على الكتاب عرضا استغراقيا. وحتى على مستوى السند، هناك ما يحتاج إلى إعادة نظر. بل إن المحدثين أنفسهم غضوا الطرف عن مسألة السند، حيث كان أكثر علما وحرجا، حيث لو تخلصوا من الأخبار الضعيفة ، لاندرس الخبر. وإذا قالوا إن المحدثين اتبعوا معايير معينة في تتبع الصحيح من الأخبار، قلنا كيف يكون الرجل صحيحا عند هذا، ضعيفا عند ذاك، وكلاهما كتب الصحيح؟! فإذن، لا يمكن القول إن ما تضمنته هذه الصحاح خضع لنقد المتن والسند معا. والدليل على ذلك، وجود الغريب من الأخبار فيها، إذا ما عرضناها على القرآن، سنجد هناك اختلافات وتناقضات في الأخبار وأمورا تخالف صريح القرآن. هناك أساطير و إسرائيليات لم ينج منها كتاب من هذه الكتب. هم يدركون أهمية العرض على القرآن. لكن مبررهم الوحيد، أن مسألة العرض هي من اختصاص الراسخين في العلم. أي أنهم في نهاية المطاف اعترفوا بجهلهم منهج العرض على القرآن. وهذا هو ما نحن بصدد الحديث عنه. على أن الدعوة إلى العرض على القرآن هي دعوة للناس وليست وظيفة خاصة بالمعصوم. فهذا دور منطقي أيضا. فالدعوة إلى العرض على الكتاب ، ملاكها تحرير الخبر من هيمنة الكذابة، الذين قال عنهم صاحب الدعوة أنهم سيكثرون بعده. وإذن ، فهو منهج لمن سيأتون بعده، وليست منهجا اندفن مع الأنبياء. إن هذا المنهج الذي كان في عداد اللا مفكر فيه حقيقة، هو موضوعنا الآن. و مع أن بعض المحدثين المعاصرين كانوا على قدر من الشجاعة في نقد بعض الصحاح، على أساس علم الرجال ، إلا أنني أعتقد أن هذه الدعوة ليست محرزة، لأنها تستند إلى نفس الآلية العقيمة. وكانت ستكون محرزة لو أنها تمت على أساس نقد المتن، أي بالنظر إلى "ما قال" وليس إلى "من قال". لكنها محاولات سلبية ، لأنها مهجوسة بتوسيع دائرة الأخبار الضعيفة، و لم تقم بإعادة تصحيح أخبار أخرى كان المحدثون قد رفضوها لضعف في السند مع تطابق بين متنها و المتن القرآني. وليس لذلك طريق سوى التأويل والعرض على الكتاب. ولا أحد يملك أن ينتفض ضد هذه الدعوة أو يرفض كبرى دليلية العرض على الكتاب . فهذا هو ما يوحد الأمة ويوحد منهجها، فلم لا نفعل ولا مخرج من الطائفيات والمذهبيات والعصبيات إلا بها المنهج وإلا فهي دعاوى مذهبية ضد أخرى فلا مخرج منها أبدا؟ هل معنى هذا أن الصحاح تحتوي على غير الصحيح؟ بالتأكيد، وأنا شخصيا أرفض على الإطلاق فكرة الصحيح، وفكرة الأصحية. كلها سواء. وإذ أقول أنها ليست صحيحة فلا يعني ذلك القول أنها ضعيفة. إنها بهذا المعنى معتبرة و معلقة على ذمة وجوب العرض على القرآن. ربما فكرة الأصحية هي من المفاهيم التي اكتسبت قدسية بالغة الخطورة في التراث الإسلامي. وهي من المفاهيم التي تحول دون الاجتهاد وتتعارض مع منطق التأويل. القول بأن ثمة كتابا هو الأصح بعد كتاب الله ، واحدة من مظاهر التعويض الناجمة عن صدمة الانسداد وآثاره . تلك الصدمة التي لا زال مفعولها ساريا حتى اليوم. ولا أدري أي دليل يسند هذه الفكرة، سوى مبالغات بعض المتقدمين. وهذه الأصحية لا يمكن أن تكون لأي مجمع إخباري، سواء أتعلق الأمر بصحيح البخاري كما عند الإخوة من أهل السنة والجماعة أم تعلق الأمر بكتاب الكافي للكليني كما عند الإخوة الإمامية. مع الفارق طبعاُ، لأنه يحسب للكليني أن جعل عهدة تصحيحها على القارئ، وذلك بعرضها على القرآن. كما أن القول بأصحيتها مرفوض. وكما يؤكد السيد الخوئي، فإن الكتب الأربعة، ويقصد الكافي للكليني والكتب الأخرى كالتهذيب والاستبصار للطوسي أو من لا يحضره الفقيه للصدوق، ليست قطعية الصدور. فلا يوجد شيء إسمه الصحيح عند الإمامية. فالكتب الأربعة هي معتبرة لا صحيحة. وثمة بلا شك فارق بين الصحة والاعتبار. إذا نحن قلنا بصحة ما جاء في الجامع الكذائي كله، سنكون في حرج شديد. ثمة روايات تتناقض مع أصول الاعتقاد. هناك روايات فيها تجسيم وأخرى تزعم أن الرسول (ص) كان يبول واقفا أو كان مسحورا . وفيها نجد أخبارا غريبة مثل حديث شق الصدر، أو حديث الغرانيق. ولذا أقول، لماذا نحن نحمل سلمان رشدي ما ضمنه في آيات شيطانية، وكل أفكاره مأخوذة من حديث الغرانيق الذي يرويه البخاري. يروي البخاري مثلا عن عمران بن حطان رأس الخوارج، الذي مدح قاتل الإمام علي بن أبي طالب، وهو بذلك على الأقل مجروح. مع أنه رفض أن يروي عمن أوهم البهيمة بأن في يده علفا. مبررا عزوفه عنه بكونه لا يأخذ الحديث عمن كذب على البهيمة. المشكلة إذن، ليست مشكلة البخاري أو الكليني علما أن الكليني لم يدع أن ما جمعه كان صحيحا مطلقا بل هي مشكلة من اعتبروا ما بين دفتيهما صحيحا. إذن لا يمكن أن يكون كتابه أصح الكتب بعد كتاب الله. ومع ذلك نحن لا نرفضها.بل نخضعها لميزان العرض على القرآن. لأن بعض رواتها مطعون فيهم. وأنا أقول ذلك على مبنى القوم. أما بالنسبة لي، فلا أرفض الرواية حتى لو جاءت عن مسيلمة الكذاب. لأنني أعرف أن معيار الصحة والخطأ هو بعرضها على الكتاب وإحكامها من خلاله أيّا كان مصدرها. وبناءا عليه ، قد نقف على الصحيح حتى داخل الروايات التي كانت محسوبة على الضعيف بناءا على ضعف السند ، كما يمكننا الوقوف على الخبر غير الصحيح فيما تراءى صحيحا بناءا على اتصال السند، بلحاظ إمكان التوهم. فالدعوة اليوم قائمة على إعادة بعثرة المجاميع وتجميعها بصحيحها وضعيفها على المبنى القديم ، وإعادة عرضها على الكتاب استغراقا واحدة واحدة للخروج بجامع واحد صحيح للأمة، أي الدعوة إلى توحيد الجامع. فهو، أي نعم ، جامع للحديث وجامع للأمة على السواء. إنها تبدو دعوة مثالية مستحيلة التحقق، ولكن لا طريق آخر لجمع الأمة إلا على الكتاب بعد أن فشلت المذاهب في توحيدها وصبت على نار فرقتها زيتا زادتها تفتينا وشرارة وانسدادا. بل لا طريق للتقريب والوحدة بين المذاهب إلا على أساس الكتاب والعقل(أي التأويل). وهي في تقديري دعوة ممكنة جدا وضرورية، بل هي دعوة إلى الكلمة السواء! ، لمن كان يرجو الله واليوم الآخر. [email protected] mailto:[email protected]