"واعلموا أن الظفر لمن احتج لا لمن لجّ" علي بن أبي طالب مقدمة: التبني الحضاري والتجديد الجذري ليس مشروعا لقيطا لا يستحضر طبيعة الأشياء وقواعد النظر حيث إدراكهما غاية البعث الوحياني. فالعلم والدين ليسا متخاصمين ولا متفقين بل إنهما أمر واحد، لأن مجالهما الحقيقة وإن تعددت مصادر العلم. وآية ذلك أن معيار الحقيقة هنا أو هناك أن تتمكن من إثبات الحقائق من خلال العلم والدين معا التمييز هنا إجرائي وليس حقيقيا . فالحقيقة العلمية المحكمة هي ما يستطيع الدين إثباتها أيضا. والحقيقة الدينية المحكمة هي ما يستطيع العلم إثباتها أيضا. وهنا وجب القول أننا نتحدث عن عملية إثبات يمكن جريانها بعد الثبوت. فقد لا يستطيع العلم لوحده إثبات حقيقة دينية في أول الأمر. لكن عند ظهورها يستطيع إعادة إثباتها واستيعابها. والأمر ينعكس أيضا. إن التبني الحضاري والتجديد الجذري له منهج في التعاطي مع القواعد والقوانين ومع النص أيضا. وإذا كان ليس كذلك من هذه الناحية فهو من باب أحرى ليس كذلك من حيث أنه تجاوز لرهق الفكر وكدحه الذي هو حيلة الأشقياء ومبلغ الجاهلين. فلا إبداع إلا بالتأويل وغيره سبات في التمثل والتقليد. وهذه هي آفة النصوص الكئيبة التي تموت قبل أوانها. وليس بعيدا عن الصواب أن تحدث نيتشه يوما عن ضربين من الفلاسفة: أحدهما حقيقي والآخر كادح (ouvrier). فالحقيقي هو صاحب الإبداع ولو عبّر عن فكره بالإشارة. بينما يهيم الفيلسوف الكادح في أدوات التفكير المدرسية ويجتر محفوظاته المدرسانية التي ليست من إبداعه وإنما هي من مراكمات المعرفة الإنسانية، فيخفي عجزه في المباني الصلبة التي لا تحمل مضمونا كجنة من الإسمنت خاوية على عروشها. وهو ما نسميه بالحصر. فالتأويل منهج المبدعين وطريقهم إلى قطف ثمار الحضارات من دون شقوة التعمل غير النافع والإعمال غير المنتج . وهكذا حادت الأمة عن كيمياء الإبداع مذ ناهضت التأويل وأحاطت بها دائرة السوء من كل جانب. ولا سبيل إلى البحث عن طريق ناجع من صميم تجربتنا ومن هامش مجالنا التداولي وغالب مفاهيمنا الرائجة بفعل السلط الخارجية وليس بفعل السلط النابعة من صميم نجاعة المفاهيم والآراء في التحرر من هذا الحصر إلا بالتأويل الذي يمنحك طريقا للإبداع ويعلمك كيف تصطاد بدل التوهيم بجرعات خيمياء معرفية تحتكرها الذات البارانويانية لتمارس بها تهويلا على الأجيال وأهل الجهالات طلبا للتسلط على الخلق . فتقبر مع صاحبها أو تجف منابعها قبل الأوان وما أن تنتقل إلى من لا يحسن ترقيعها على غرار السقف المغشوش ، حتى يبدو عوارها ويظهر ثقلها على النفس والعقل لغرور أصحابها واغترارهم بالمضمون الهزيل لأفكار لا تغري ذوي البصائر وأهل النهى فضلا عن أنها لا يراد بها وجه الله. وفي هذه الجولة نقدم منهجا لفهم النص واستيعاب معناه يشكل روح فكرة التبني الحضاري والتجديد الجذري، لنفهم أنه ليس مشروعا لا يستوحي روحه حاق التعاليم، حيث يضع بين يد القارئ ليس منهجا نظريا فحسب بل منهجا قابلا للتطبيق. وذلك ما كنا اعتبرناه الفشل التاريخي للأمة في الخروج من زمن التنزيل إلى زمن التأويل. ولا يعود الفضل في ذلك إلى عبقرية ندّعيها كما يدعيها مدعو ألوهية الإبداع والمرضى الذين تقطعت بهم الأسباب في مجال إبداع المعرفة ، بل الفضل فيها راجع إلى اكتشاف طريقة الرعيل الأول من القراء الذين همشهم التراث الغالب وكيف كانوا يفهمون الكلمات والأشياء انطلاقا من تقيدهم بمنهج تأويل الكتاب الذي تضمنه الكتاب. وهي دعوة السلف الحقيقية وليست دعوة السلفيات المغشوشة، أي بتعبير آخر: كيف نقرأ القرآن كما أنزل وبالقراءة التي أنزلت ؟ لبنات من أجل عصر أنوار إسلامي جديد جاء الحدث الإسلامي، فعلا، لكي يدخل المجتمع العربي ومن حوله في عصر أنوار. وهذا ما نفهمه من الخطاب الإسلامي:( ليخرجكم من الظلمات إلى النور). على أن لكل عصر أنواره. لا يمكننا أن نتحدث عن عصر أنوار واحد ، أي عصر أنوار تاريخي. الأنوار هي حركة مستدامة. هي أنوار تشتد في كل عصر ، اشتدادا مختلفا يجعل كل عصر يعانق أنواره في حركته لا في تاريخه. وهذا ما يجعل الحضارة متوقدة دوما ، وليست جمرا يخبو بالتقادم فيصبح رمادا . الإسلام جاء ليجعل سيرة البشرية كلها متألقة وإن لم يف التاريخ الإسلامي بطموحات الإسلام كلها. وحيثما توقف فعل التنوير وأصبحت باقي مراحل التاريخ مرتهنة لهذا الأنوار القديم الذي يشغل الذاكرة، نكون قد خرجنا عن منطق الإسلام بوصفه حركة تنوير مستدامة. إنها قصتنا مع النور نفسه . أنوار الشموع ليست كأنوار الشموس . نعم كلها مصاديق للنور. ولكن هذا نور قوي وذاك نور ضعيف. نور على نور؛ تأمل معي قوله تعالى: (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة، كأنها كوكب ذري يوقد من شجرة مباركة، زيتونة لا شرقية ولا غربية، يكاد نورها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء). إنه نور تتولد عنه أنوار لا تخفت أبدا. ذلك هو مصداق الأنوار الإسلامي . إن القرآن يستعمل الظلمات بصيغة الجمع، ليبين بأن لكل عصر جاهليته، وظلماته. وعلينا أن نحقق أنوار كل مرحلة. نعم لقد قطع الإسلام مع ظلمات الجاهلية ، ليدشن مفهوم القطيعة في العقل المسلم، متى ما أصبح الأمر يتطلب قطيعة مع الماضي. لقد أبقى الإسلام على أهم ما استمر من تراث العصر الجاهلي ، وأعاد إنتاجه وفق منظور أكثر تطورا ووعيا ؛ أعني لما قال صاحب الدعوة: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". وهذا لا يقتضي منا سوى الرجوع إلى المنابع بعقل حر. ما أحوجنا إلى ذلك العقل الفعال الذي يحقق نقلة العقل المسلم من هذا الضياع المعرفي إلى مرحلة العقل الفاعل المنتج. وهذا العقل الفعال ليس هاهنا عقلا مفارقا، إنما هو إرادة حرة من العالم العربي و الإسلامي، لمعانقة جديدة وحديثة وفعالة ومعاصرة للمنابع أو التعاليم الإسلامية الأولى. وهذا لا يمكنه أن يتم إلا بعد أن نتحرر من سيطرة المورد الأول لصالح الموارد المحتملة والممكنة. إن ما يزعجني حقيقة، هو أن العقل المسلم الآن ماضي في صناعة القول والفكر. ولكننا لم نعد نجد للقرآن حضورا قويا بقدر ما هناك تضخم في ثقافة الشروح والتحشيات. بمعنى أن الغائب الحقيقي، حتى في الأدبيات الإسلامية، هو القرآن. لم يعد للمسلمين ضمن هذا الإنتاج الضخم من الشروح و التحشيات، قيمة مضافة تتعلق بفكر معاصر نابع من القرآن. القرآن، صراحة وعلينا أن نعترف بذلك يعاني من حصار. لأنه لم يعد قادرا على النطق في عصرنا. إننا لم نشهد عصر نزول جديد. فإذن حينما نتحدث عن عصر التنوير الإسلامي، فإنما نتحدث عن عصر نزول جديد للقرآن بما يخدم مصلحتنا في هذا العصر. وأن يحقق، أيضا، للناس ما ينفع الناس. وهذا لا يمكن تحققه إلا إذا حررنا القرآن من جملة المفاهيم و الأفكار، التي أصبحت أشبه ما تكون بأقفال على الفكر. أقفال تحول دون تفتق القرآن عن إضاءاته لهذا العصر. وهذا ما جاء صريحا في القرآن نفسه: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها). هناك من يعتقد أن المشكلة تكمن في النص. وأنا أقول أن المشكلة ليست في النص وإنما في كيفية استنزال النص. وأيضا هي في ذلك الحصار الذي تمثله المفاهيم والأطر التقليدية للنص. ثمة إذن اغتيال للنص. وحينما نحرر النص يتحرر معه العقل، ويتحرر معه العالم. فالعقل نفسه ضحية هذه الأطر التي أحاطوا بها النص والمعنى. المشكلة التي يعاني منها الفكر الإسلامي، ولعلها الأخطر، أنه يرى في المنهج قضية نهائية مقدسة وغير قابلة للتجدد. بل والأنكى من ذلك كله، أنه مع ادعائه الاجتهاد ، يرى إمكانية قيام الاجتهاد على أساس المناهج التقليدية نفسها دونما عمل على تجديد يكون موضوعه هذه المناهج وآليات الاجتهاد نفسها. وكأنهم بذلك يفتحون باب الاجتهاد في النص، ويغلقونه في المنهج. بينما المشكلة هي في المنهج وليست في النص. إنهم بمعنى آخر يعتقدون بأن المنهج خالد، والاجتهاد على وفقه مفتوح. على أن فكرة خلود المنهج هي من أغبى التصورات التي ابتلي بها الفكر الإسلامي. بل إن القرآن نفسه يكذب هذا التصور حينما يقول: ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا). فلا تستقيم فكرة خلود النص إلا إذا اعتبرنا تجدد القراءة. نعم يمكننا القبول بخلود النص وخلود القراءة الواحدة، لكن ليس على أساس استمرارية تدفق المعنى، بل كأحناط أو حفريات ثقافية تزدان بها المتاحف. ولذا لا معنى لبقاء النص دون مشروعية التأويل، فالتأويل قبل أن يكون منهجا، هو فن. تحرير النص مقدمة، أيضا، لتحرير العقل أعني بتحرير النص، الإنصات للنص خارج تلك الأطر المذكورة. بمعنى أوضح، أن نقرأه ضمن رؤية مفهومية جديدة لهذه الأطر، تمكن المتلقي من أواليات الاستنطاق. والحال هل ما هو موجود يصلح أن يكون أوالية للاستنطاق أم أنه أوالية للحجب والتعتيم؟ إذا أحسنا الإنصات، فثمة علاقة تكوينية بين العقل والنص، تجعل ما يجري داخل النص مثالا لما يجري داخل العقل. أو بتعبير أوضح، إن الآلية التي يتم بها إنتاج المعنى هي نفسها الآلية التي يتم بها فعل التعقل. بهذا المعنى إذا حررنا النص من هذه الأطر، فإن العقل سيتحرر بالتبع. وهذا التحرر الذي أتحدث عنه لا يتحقق إلا في إطار المنظور التأويلي. فمن ناحية مبدئية، لن تجد عندي هذه "الإثنينية". فلست ممن يقر بالفصل بين النص والعقل. فالنص في نظري مبني بناء عقليا. والعقل في نظري أيضا، مكون تكوينا لغويا. و أتفق هنا تماما مع من ذهب إلى إقرار نوع من التشاكل بين بنية اللغة و بنية اللاشعور. وإذا أردنا التعبير على طريقة جاك لاكان، فلا وجود لبنية إلا باللغة. وهو ما يجلي حقيقة هذا التشاكل بين بنية العقل وبنية اللغة ! فنحن حينما نتعقل، نخضع لحد ما من إكراهات السياق ولعبة الاستبدال والإكمال والإشارة والاختزال و.. ثمة إذن في القرآن تعاليم تنطوي على معاني ودلالات. وعلى العقل أن يكون في قامة هذه الدلالات أو له قابلية التخاطب مع النص. أي أن يكون في قامة لعبة الحضور والغياب لطيف المعنى. على العقل أن يكون في مستوى هذا البناء الديناميكي للنص. إن العقل المؤول يلعب هنا دور التحري الذي يتتبع آثار المعنى الهارب ، ولا يرضى بخداعاته المتكررة، واستدراجات علاماته الموهمة. ففي إحساس التحري أن ثمة دوما شيئا ما يخفيه اللص أو يؤجل البوح به ، وعليه هو البحث عنه باستمرار. النص واللص في ذلك سيان . المؤول لا يرضيه ما يظهر من النص، تماما كما لا يرضي التحري ما يبوح به اللص. فلا يكتفي أي منهما بالمعنى الواحد، لأنه يدرك أن النص في الوقت الذي يقذف فيه ببعض أسراره إلى الواجهة فهو يقوم بالتضليل أو بتقسيط فعل الإظهار للمعنى. النص على هذا الأساس يظهر بقدر ما يخفي . إنها لعبته الأزلية. وعلى المتلقي حينها أن يواكب اللعبة على طول الخط. وأن لا يكتفي بسماع البوح النصي ، بل عليه ممارسة أقصى أشكال الاستنطاق. فالنص ليس بريئا ، بل هو متهم بحيازته لبقايا المعنى المؤجل. النص لا ينطوي على معنى واحد. وأظن أن هذه حقيقة معروفة في تراثنا أيضا، وإن ظلت حقيقة مغيبة. والآن أصبح تعدد المعنى أمرا واضحا بشكل كبير مع هذه الثورة السيميوتيكية والهرمنيتيكية. اليوم نحن مكرهون على الاعتراف بهذه الحقيقة. الذين تورطوا في فكرة النص غير المفتوح ، واستبداد المعنى الوحيد، هم أنفسهم الذين تورطوا في فقه اللغة الأرسطي . وهو المنطق الذي لا يقر إلا بالمعنى الواحد للنص الواحد كما يقرره منطق المواضعة الأرسطي. وإذا اتفق في حالات استثنائية أن يكون هناك معنى آخر، فهو مجاز ليس إلاّ. أي ذلك المعنى الذي يقع على هامش المعنى الحقيقي. قد يكون هذا الحصار الأرسطي للمعنى جاء في جو من القلق ال "ما بعد سقراطي" لوضع حد للفوضى، أو المتاهة الهرمسية ، لو أردنا التعبير على غرار أمبرتو إيكو. ولكن من قال أن التأويل لا يمتلك لغته الخاصة وحدوده التي تمكنه من تمييز التأويل الصائب من التأويل الخاطئ. فاستيعاب ظروف تشكل فقه اللغة الأرسطي في لحظته التاريخية ، يؤكد على أنه كان بمثابة سد باب الذرائع على مغالطات ومفارقات السفسطائيين. وهذا ما يعني أنهم منعوا الماء على العطاشى ، لأن آحادهم شربوا منه فشرقوا. بهذا المعنى دخل التمييز في صلب اللغة نفسها، وأصبح هناك ما له مجاز وما ليس له مجاز. وهذا معناه أن بعضها فقط قابل للتأويل على شرط تحقق القرينة الصارفة عن الحقيقي إلى المجازي ، بينما بعضها لا يخضع للتأويل، لأنه لا مجاز له. وحددوا ضروب القياس، مقرين بالبرهاني منه ومهملين المقايسة والتنسيب، باعتباره من شأن الطرق الطبيعية في الاستدلال وليس طريق أهل الصناعة المتشبثين بالقطعي من الأدلة وليس ظنيها. فمن القياس ما كان ظنيا ومنه ما كان قطعيا. والحجية تتبع القطعي، أو حتى الظني بمعناه الخاص عند الأصولي ، من حيث يرتد إلى دليل قطعي يمضي دليل آخر الجري العملي على وفقه، ضامنا إياه. بهذا المعنى أصبح التأويل نفسه أمرا استثنائيا شاذا ما دام المجاز يختص ببعض الألفاظ دون أخرى. فالمجال يظل تحت وصاية التفسير، لأن وظيفته هنا أن يبين الحقيقي وليس المجازي. فهو من الفسر، أي الإظهار. ما يعني أن القضية في نهاية المطاف، ليست إلا تحصيل حاصل؛ إننا لا نظهر الظاهر . وهذا يتوقف على القوة التداولية للفظ. لكننا نحن نقول غير ذلك. إن النص حمال وجوه. وهي وجوه متكاثرة . نحن نتحدث عن سبعة وجوه وقراءات مشروعة للنص، كما تحدث بعض القدامى. والسبعة في لسان العرب كما تفيد معنى العدد ، فهي تفيد مطلق الكثرة أيضا. إن النص القرآني ينطوي على مخزون من المعنى لا نهائي. وكل نص هو كذلك لأن تلك هي بنيته . الاختلاف هو في المضمون الذي يحبل به المعنى. وأن هذه المعاني، تحضر وتغيب بحسب السياق اللغوي الموضوعي. والعقل المتحرر المتماهي مع هذه البنية النصية أو مع هذه اللعبة النصية، هو الذي يستطيع أن يكسب لياقة تأويلية تجعل النص يتحرك مع حركة الواقع. بهذا المعنى فقط ، لن تصبح لدينا ثنائية إسمها : العقل و النص. فالنص يحمل معنى ظاهرا، كما يحمل معنى باطنا. بل أكثر من ذلك، إن لكل ظهر منه ظهرا ولكل بطن منه بطنا. إنها أنوار متفاوتة الظهور، وظلمات متفاوتة الخفاء. ولا يمكن لهذا النص المحصور في بنيته اللغوية أن يستمر ويكون خالدا في حياة المسلمين والبشر إلا إذا كانت عنده قدرة على الحركة. وهذه الحركة تترجم بحضور المعاني الممكنة للنص. هذه الحركة في الواقع هي حركة دائرية تناظر حركة الكون. القرآن يتحدث عن هذه الحركة لتاريخ الخلق وعلينا أن ندرك بأن للنص تاريخه أيضا قائلا: ( كما بدأنا الخلق نعيده أول مرة) . فالنزولات التأويلية هي مصداق لهذا الدوران . لأن القرآن نفسه مصداق لعموم الخلق. فالمورد الأول يعيد نفسه ، لكن بشكل هرمينوتيكي؛ أي عودة المثال. فالشيء بذاته لا يعاد، لاستحالة إعادة المعدوم كما يقول ابن سينا وعموم الفلاسفة. لكن العودة هنا هي عودة المثال . فالمحدود لا يمكن أن تستمر حركته إلا إذا كانت دائرية. لذا كانت الحركة الدائرية ، أكمل الحركات. وهي حركة دائرية مفتوحة غير مغلقة، على النحو الحلزوني. حركة تقوم على المثل والممثول . ذلك لأن الحياة قائمة على فكرة المثال. أو كما قال علي بن أبي طالب: " فالأمور أشباه". و هذا يعني أن نتمثل موقف المؤولين الأوائل من القراء، وهو موقف قائم على فكرة "الاستنطاق". يقول القرآن الكريم: (هذا كتاب ينطق عن الحق). نعم، إن النص بطبيعته أخرس. هو عقل مسطور. والمتلقي هو الذي يستنطقه. أو كما جاء في قول علي بن أبي طالب، وهو بمثابة بيان للآية: "استنطقوا القرآن ولن ينطق، لكن أخبركم عنه". إنه وكما يقول أيضا: "لا ينطق بلسان ولابد له من ترجمان وإنما ينطق عنه الرجال". إذا كنا نسمع القرآن يقول عن نفسه و بشكل صريح، أنه جاء تبيانا لكل شيء ، فلماذا كلما لجأنا إليه هذه الأيام، لا نجد فيه أجوبة شافية عن أكثر المعضلات التي ابتلي بها العصر. هنا، أعرف أن ثمة مشكلة أو لنقل أزمة. ولكن أين تكمن هذه الأزمة؟ هل هي أزمة واقع أم أزمة نص أم أنها أزمة قراءة؟ أنا أرى أنها أزمة قراءة. رفع القداسة عن التراث العربي والإسلامي إذا انتبهنا جيدا لما كنا بصدده، ستجدنا لا نتحدث عن عقل بديل عن النص. فحينما ننفتح على العقل التأويلي، فإننا نضخم من النص. أنا هنا، نصي بامتياز. لأنني أحسن الإنصات للنص. ولكن هؤلاء الذين يدعون إلى الالتزام بالنص ويدعون إلى إيقاف الاجتهاد بحجة أن النص غير قابل للتأويل ، هؤلاء يحاصرون النص. أي أن دعاة الالتزام بالنص ليسوا أنصارا حقيقيين للنص، بل هم أعداءه الحقيقيون. لست أدعو دعوة الحشوية القاضية بتقبل النص خالصا كما هو، و طرد العقل نهائيا. كما لا أدعو دعوة أهل القياس بالمعنى الاصطلاحي للاجتهاد بما هو أقيسة غير منتجه أو بما هو تسامح في الظنون و طرد لما لا يتوافق من النصوص مع الأقيسة الأرسطية ، وإنما أدعو دعوة التأويل . وهي دعوة الأنبياء أنفسهم ، قبل أن تصبح تيارا كبيرا له أنصاره ومدارسه المختلفة في العالم كله. هي دعوة قد تجدها بشكل ما مختلف عند فلاسفة تقليديين أمثال شلايرماخر أو تايلور كما تجدها عند نقاد و فلاسفة معاصرين أمثال بول ريكور أو أمبرتو إيكو..كما تجدها عند باحثين من العالم الإسلامي أيضا ، كل بحسبه ، دون أن يفوتنا أن للتأويل مجال استشكالاته الخاصة التي نبغي هاهنا وضع موازين لحسمها وتظهير أهمية المنهج العاصم للتأويل من الفوضى. أي لا أقصد هنا تأويليات نصر حامد أبو زيد أو أركون أو علي حرب ... من يمثل التأويل في المجال العربي والإسلامي؟ هؤلاء لا يمثلون اتجاها واحدا. فضلا عن أن منهم من لا علاقة له بالتأويل بالمعنى الذي نتحدث عنه. بل إن مشاريع بعضهم تربك رسالة التأويل في الفكر العربي والإسلامي المعاصر. بعضهم قدم محاولات تتصف أحيانا بالعمائية والفوضى، وأحيانا بالخلط والمفارقة؛ حيث يترنح بعضهم بين التأويل ونقيضه . هذا في حين أن التأويل الذي نحن بصدده ، لا يقبل بأن يتم التلفيق بينه وبين مناهج موسومة بالحصر. نعم، بالمعنى العام للتأويل، يمكننا الحديث عن محاولات من ذاك القبيل. وفي ذلك يدخل كل هؤلاء الباحثين. لكن ليس ذلك هو التأويل إلا بالقدر الذي يجعلنا نخلط بين كانط و شلاير ماخر، أو بين غادامير وسارتر، أو بين ابن عربي والسيوطي مثلا. التأويل الذي أتحدث عنه هو مدرسة تتمتع بمحددات و معالم كبرى. إن علي حرب مثلا، هو رجل تفكيكي. ومع أن التفكيك نفسه لا يخرج عن دائرة التأويل، إلا أنه بمثابة طرائق تمثل التأويل المبتور أو التأويل المدخول بأدوات الحصر. إلا أن المائز هنا ، أن هدف التفكيكي ينتهي مع استطلاع المعنى قبل فوات أوانه. أو التباكي على المعنى بعد فوات أوانه. بمعنى آخر، أن يقتنص المعنى في الأول بتسكين الواو قبل قضاءه واكتمال تنزيله، أو في المآل بعد تأويله و نسخه . لكن لا وجود للمنطقة الوسطى ، أي التأويل الناجع الذي يتجادل فيه الحضور والغياب بصورة إيجابية. إنه يريد فضح لعبة النص من خلال إلقاء القبض عليه متلبسا في عملية حجب ما، يمارسها في حق إحدى معانيه الممكنة. وهذا أمر يمثل جزءا من وظيفة النص، وجزءا من قانون اللعبة. فالمعاني لا تظهر زرافات، بل تتقاطر تباعا. فقدر المعنى أن يأتي على أنقاض سلفه. هناك ما أسميه بقيامة المعنى، حيث لكل معنى أجله. هناك معنى يموت وآخر يولد. ويتعين على المتلقي أمام هذا الميكانيزم ذي الطبيعة التناوبية، أن يعلن دائما: مات المعنى فليحيا المعنى. وما يفعله التفكيكي مثله مثل الذي يجتهد ليظهر كيف أن سائق التاكسي ينزل ركابه ليحمل آخرين. إنه يريد أن يفضح سائق التاكسي على أنه ما كان له أن يستقبل الركاب الجدد إلا بعد أن تخلص من الركاب السابقين. لكن ، تلك هي طبيعة الحمل وطبيعة الأشياء. التفكيكيون يتباكون إذن على المعنى الميت . ولكنهم لا يدركون أن هذا المعنى قد استنفذ أغراضه تداوليا، وأنه أخذ نصيبه من الحياة ، وقد خضع لدورة المعنى ، بموجب قانون النشوء وأوالية النسخ ، التي هي عملية مستدامة. إنهم يبحثون عن المعنى في سلة المهملات أو في أحلام اليقظة ، ولكنهم لا يأبهون بالمعنى في أوج تسلطه. و حتى في بكائياتهم تلك ، ليسوا جادين. إنهم يمارسون ضربا من النفاق تجاه المعنى. إنهم لا يأبهون بالركاب حتى ينزلون. وهكذا، فالمعنى لا قيمة له عندهم، بل هو متهم حتى ينقضي نحبه ، ليتحدثوا بعد ذلك عن حقه في الوجود. وهذا ما تورط فيه التفكيكيون بوصفهم لا يقدمون إلا تحصيل حاصل. لكن نتائجهم التفكيكية والجينيالوجية هي دعوة لفتح النص على العماء. وهذا لا يعني أن الجانب الأهم في الممارسة التفكيكية هي مقاومة النسيان والغفلة عن المعنى الممكن حتى وإن لم تسعفه سلطة التداول أو تم قمعه تحت طائلة سلط متعددة. نعم هناك فيما ينتجه الأستاذ علي حرب ما هو مغري وممتع. لكن من منا تراه مستعدا لأن يضيف إلى عمائنا المزمن عماءا جديدا. ومع ذلك فإنها أفكار يجب أن تبقى لكي تحرك التساؤلات الممكنة في مشهد عربي تكلس عقله النقدي. إنها أفكار للاختبار لا للتبني. وهو نفسه لا يطرحها للتبني ، ولا يراها مشروعا إنقاذيا أو رسالة خلاصية. أما بالنسبة إلى أركون ، فهو ينتمي إلى مدرسة تأويلية بقدر ما هي تفسيرية، فهي تتردد بين التفكيك والبناء. هي نتيجة تلفيقية تستند إلى ضرب من الحشو المناهجي ، لاستدخال كل المناهج إلى الإسلاميات التطبيقية من دون إخضاعها للنقد الإبستيمولوجي والميتودولوجي . يحسن أركون الظن في كل هذه الحمولة المناهجية ولا يحسن حتى النظر فيما لو كان عامل استدماجها مع بعضها قد يكون له أثر سلبي مثلما يحدث في التفاعلات الكيماوية بين العناصر. فمن باب أولى في المناهج التي تتضمن حيثيات وزوايا نظر متخالفة قد يقع هذا النوع من التفاعل الذي يحولها إلى أوضاع مختلفة عن تلك التي نظنه منها يوم كانت مفردة. هكذا ، فإن آثار ما يبدوا لنا تأويلا عند أركون بناءا على استعاراته من حقل التحليل النفسي الفرويدي واللاكاني أو الأنثربولوجية الستراوسية أو الجينيالوجيا الفوكونية أوسوسيو ثقافيات بيير بورديو، سرعان ما تنتهك لياقته التأويلية مع استعاراته الكانطية والهيغلية والكونتية والفويبرية...فداخل الحشو المناهجي الأركوني يمكنك أن تعثر على كل شئ. فلربما تبين للبعض أننا هنا ، أمام حالة من الإغضاء عن الإنصات لنبض النص ، بقدر ما هي ممارسة كبيرة للعبة الإسقاط أو كأننا مع متحدث عن النص بالوكالة أو بصدد لعبة ممسرحة، لا ينطق فيها النص بقدر ما يتم قمعه تحت سلطة مناهج جاهزة ومفروضة. كل هذا من السهل أن يراه أي قارئ لأركون لا يستحضر النمط المعرفي الذي يتحكم بقراءته. لكن ثمة ما لا ينبغي الإغضاء عنه في هذه المحاولة، وهو أننا أمام انهمام منقطع النظير من قارئ متترس بقوة المناهج الحديثة ، بالجوانب المعتمة واللامفكر فيها في التراث ، بل إنني أرى في المتن الأركوني ما يغني الفكر الإسلامي وما يشغله بالإشكاليات الكبرى التي تعرضت لها الأديان الأخرى. فأركون ليس ضد الإعتقادات بل هو يدرس كيفية التهام الإعتقادات الكبرى أو لنقل الأرتذكسيات الكبرى ، للمعتقدات الصغرى. وهذا ما يهمني شخصيا في قراءة أركون ، إعادة الاعتبار للمهمش . فقد يكون التراث المغلوب مثله مثل التراث الغالب قد وقع في الكثير من مظاهر التزييف: تزييف الغالب لمزيد من السيطرة وتزييف المغلوب لكثير من الانفلات من تلك السيطرة. غير أن المطلوب إبستيمولوجيا وأخلاقيا أن نرفع تزييف الغالب أولا قبل تزييف المغلوب ؛ فرفع تزييف الغالب من شأنه أن يرفع موضوع تزييف المغلوب. فليس الغالب كالمغلوب، على الأقل أن المغلوب في حكم المضطر بينما التزييف لدى الغالب اختيار. كما أقدر في أركون إيمانه بالإنسان وأيضا إنصاته للآخر، والأهم من ذلك كله، أنه لا يرى فيما يقدمه الرأي المطلق والنهائي.وهذا القدر من الاعتراف، مهم لاستمرارية النقاش الحر. فالأحرار لا يخشون من النقاش الحر. إن اتهامي له بالحشو المناهجي والطرائقي ، هو أمر يلمسه كل قارئ لهذا المتن الكثيف الإستدماج للمفاهيم والعلوم المعاصرة. لقد حاولت أن أنقل له مباشرة هذه الملاحظة، وقد رأى أن الأمر يتطلب جهدا جماعيا، لأن مثل هذا الاشتراط هو مستحيل وغير مقدور عليه بالنسبة للفرد، مثل هذا الكلام معقول، إلا أنني أتمنى لو يستمر في توضيح ذلك أكثر ، لا سيما وأن دعوته تتجه إلى الباحث الفرد في الإسلاميات التطبيقية وليس الباحث الجماعي. أما بالنسبة إلى نصر حامد أبو زيد ، فهو منشغل بالتأويل انشغال متخصص لا انشغال هاوي. والاختلاف معه هو في بعض التفاصيل ، أو لنقل في الصغرى وليس في الكبرى. إنه اختلاف المؤول مع المؤول، الذي تجد فيه الكثير من التفهم والتسامح بناءا على وحدة كبرى دليل التأويل. المسألة، هي أن بعض المشتغلين على التأويل في العالم العربي غالبا ما ينزاحون باتجاه المنظومة التصورية للمدرسة التفسيرية أو يقعون في درجات متفاوتة من الخلط بين التأويل والتفسير تطبيقا ، وإن كانوا هم سادة العارفين باختلافهما من الناحية النظرية. من حيث أن أدوات وذوق التأويل مختلف عن أدوات وذوق التفسير. هذا يحدث سواء فيما يتعلق بمحاولاتهم الميتا تأولية، أو ما يتعلق بالناحية التطبيقية، حيث ما يرد في مساهماتهم الفكرية الأخرى لا نقف على تطبيق لمنهج تأويلي له قوانينه مثل ما أن لباقي المناهج أصولها وقواعدها . فأفكارهم لا تختلف عن تلك التي يتوصل إليها عموم المثقفين حتى من دون تأويل. إن قيمة الدعوة إلى منهج ما، هو قدرته على إمداد المتلقي بقواعد للتحليل والتفكير. على أنه لا ينبغي أن يستدرجنا الخلط بين منحى المعتزلة في القول بالمجاز وبين منحى ابن عربي في القول بالاعتبار. فشتان بين الطريقتين والغايتين. وكما قلت قبل قليل، إن التأويل لا علاقة له بإشكالية المجاز عند المعتزلة. بل هو أوسع وأعمق في آلياته ومقاصده واستشكالاته. ولو أننا خلطنا بين المجاز والاعتبار، لأمكننا الربط بين ابن عربي مثلا وابن رشد أو الجرجاني... إن الانتقال إلى المعنى المجازي يتحدد بالاستثنائية وأيضا بالمواضعة، في حين أن الاعتبار ، هو عبور إلى المعنى لا يتحدد بالاستثنائية. حيث يشمل كل لفظ، سواء أكان من المشترك اللفظي أو غيره. وأيضا لا يتقيد بالمواضعة اللفظية. فهو مرتبط بلعبة الاستبدال والإكمال، وهما لعبتان تركيبيتان تتعلقان بعموم السياق وليس بالسياق ، في حال وجود الاشتراك اللفظي فقط. ففي المجاز نعبر من الحقيقة إلى المجاز. لكننا في التأويل أو الاعتبار، فنحن ننتقل من المتشابه إلى المحكم. أو لنقل: إننا نعبر من حقيقة باطنة إلى حقيقة أخرى ظاهرة، ومن ظاهر إلى أظهر أو من طبقة إلى أخرى. في المجازي لا يمكن اعتبار المعنى الحقيقي بعد تبدل السياق، حقيقة. لكن في التأويل يعتبر المعنى الأول حقيقة والثاني حقيقة. إن المعنى الجديد لا يهدم المعنى القديم على نحو حقيقي، بل ذلك ضرب من الإعداد، الذي يجعل الناسخ حاكما على المنسوخ، لأن الدورة التأويلية يمكنها العودة من حيث بدأت. إن الانتقال من معنى إلى آخر، لا ينفي الحقيقة عن الأول. فكل مجاز تأويل وليس كل تأويل مجاز. فقد يصادف أن صرف الكلمة عن معناها بقرينة السياق لا يدخل في حقيقة المجاز، فيما لو اعتبرنا أن هذا الصرف بقرينة السياق تم من معنى مجازي في ظاهر العبارة إلى معنى حقيقي هو المطلوب. هنا ينعكس الأمر ويصبح التأويل بخلاف المجاز ومناقضا له. فالغاية في التأويل التحول من معنى إلى آخر ، دون قيد الإتجاه من الحقيقة إلى المجاز. فالسياق هو الذي يحدد إن كانت الكلمة حقيقة أم لا. فالمجازي هو حقيقة إذا ما تم الانصراف إليه بقرينة السياق. إن كلمة نظير: كان زيد أسدا له زئير في مواجهة المتحرشين به ، هي مجاز بلا شك، لكنني لو عرضتها على أصل آخر كما لو قلنا: إن للأسد الحيوان زئيرا، ثم قرأناها إكمالا وإبدالا، فنقول: كان للأسد الحيوان زئير في مواجهة المتحرشين به. فنحن هنا انصرفنا من المجاز إلى الحقيقة تأويلا بعكس المجاز. المنظور اللغوي التقليدي الذي يقوم عليه مجاز المعتزلة وكثير من اللغويين كانوا معتزلة كونهم يعتقدون أن بعض المعاني تتوقف على إعدادات أو قرائن منفصلة أو متصلة محكومة بالاستثنائية . بهذا يكون التأويل مخصصا لا عاما. أي مورده هو ما تحققت فيه القرائن والإعدادات؛ أي المجاز. مع أن التأويل هو أعم الأشياء. فهو شامل للحقيقة والمجاز. أليس ثمة صور من المعنى لا هي بالحقيقة ولا هي بالمجاز، نظير المعنى التعيّني؟!إن التأويل الذي نحن بصدده الآن يتلخص في مفهوم الإحكام. أي إحكام المتشابه المجهول بالمحكم المعلوم. باختصار أقول أن التأويل في المجال العربي المعاصر هو صورة من التأويل لم تقطع جذريا مع التفسير، من حيث قيامها على نفس أصول اللغة وقياساتها. ولا يخفى أن التأويل وجد طريقه في غير الاعتزال. لهذا، لم يكن هؤلاء لينتجوا إلا استنادا على المنهج الأرسطي، في حين طفح كيل الإبداع عند العرفانيين. فابن عربي أنتج من الأفكار ما لم ينتجه لا المعتزلة ولا ابن رشد. وإذا كان ابن سينا نفسه رأى المعتزلة غير دربين في فهم الوجود ومقالات الفلاسفة ، فكيف يمكن الربط بين دعاة السببية في شكلها الميكانيكي الأرسطي ، وبين منكري السببية أو الاستقراء بحسب الاعتبار. فالجمع بين ابن رشد و الجرجاني وابن عربي..أمارة على ذلك التخبط في اكتشاف هوية محددة للتأويل ومنهجه. وأما ما قدمه نصر حامد أبو زيد ، فتقديري ، أنه كان يفترض أن يفتح باب النقاش ويشكل قاعدة إقلاع جديدة ، لو لا أنه تعرض لضرب من القمع لا مبرر له. وهو القمع الذي يصرف العقل العربي عن النقاش العلمي المطلوب إلى المهاترات الأيديولوجية ، فيضيع بذلك فرصة أمام هذا العقل للخوض في الإشكاليات الكبرى. فالذين كفروا نصر حامد أبو زيد ، من أمثال عبد الصبور شاهين، رأيتهم يكفرون غيره أيضا ممن اختلفوا معه في الرأي، ثم رأيته في مواقع أخرى يثني على إيمان من ذهب أبعد من نصر أبو زيد في الرأي ، إنها مواقف أهوائية . لقد تحدثت مع عبد الصبور شاهين كما تحدثت إلى نصر حامد أبو زيد، فلاحظت أن الأول لا يتورع عن تكفير من خالفه الرأي، بينما لمست قدرا من التسامح لدى الثاني. إذن ، لا عليك من الأحكام الجاهزة، ما دام المطلوب من الفكر العربي والإسلامي ، أن يفتح الأفق للتفكير إلى أقصاه ، فبضرب الرأي بالرأي يتولد الصواب ، وقد أمرنا أن نمخض الرأي مخض السقاء. إن حديثي عن اتفاق بين أنصار التأويل في العالم هو في الكبرى لا في الصغرى. وإلا فما نقدمه هو رؤية في التأويل تجد أسسها في النص القرآني نفسه. فهي تاريخيا وجدت مع النص، وتاريخها هو تاريخ النص. بمعنى آخر إن التأويل الذي نحن بصدده ، هو منهج الأنبياء أنفسهم ، ووسيلتهم في رؤية الأشياء. ونحن هنا بصدد اكتشاف أو محاولة اكتشاف منهج مفقود وإعادة بناء معطياته ، على مسوغات خاصة وعامة ، تجعل من التأويل نفسه مسألة شاملة للأنطلوجي والإبستيمولوجي، وذلك على أساس وحدة العلم واقتصاد العلم. من هم أهل التأويل في العالم العرب والإسلامي؟ بلا، هناك أشكال ومذاهب من التأويل بعضها استوى واكتمل وبعضها لا يزال يتحسس طريقه، ولم يخرج بعد من دائرة الفوضى والغموض. ثمة مدرسة في طور النشوء، وإن كانت موجهة ضمن مناخ أيديولوجي يؤطرها وفق رهانات محددة ، وأيضا يجعلها تقتصر على تبني نتائج الدرس الهيرمينوتيكي لعلم الأديان المقارن في الغرب، والمدارس الهيرمينوتيكية المسيحية. وهذا بمثابة تطبيق لما دعا إليه أركون حينما اشترط على الباحث في الإسلاميات التطبيقية، إلماما بكل المدارس الغربية والاختصاصات وبأربعة قرون من الإنتاج المعرفي. وأنا حقيقة أرى أن ثمة حركة نشطة للهرمينوتيك اليوم في إيران. هناك تطبيقات هيرمينوتيكية على قدر من الأهمية عند سبشتري وقرا ملكي ومالكيان، وآخرين. وإن كنت أرى بعض المثقفين الإيرانيين ، غارقين في تنزيل نتائج الهيرمينوتيكا المسيحية على المتن الإسلامي من دون إعمال نقدي و ابستيمولوجي لهذه الهيرمينوتيكا إلا لماما، حيث وكما يؤكد بول ريكور، ثمة وجود لهيرمينوتيكات متعددة ، وبأن الدعوة اليوم ناجزة لقيام ابستيمولوجيا هيرمينوتيكية. إن للتأويل أنصارا مغمورين أيضا ، لكنهم واعدون بالأفكار المهمة التي يطرحونها. هناك، حتى لا أنسى، أخي الأستاذ الشيخ أحمد البحراني، وهو زميل وصديق جمع بيننا أكثر من عقد من النقاش الجاد الذي استغرق لياليا. والذي أعتبره أطول وأضخم نقاش حول التأويل جرى بين شخصين . ولعله كان له الفضل في أن جعلني أختصر الكثير من الجهد في القبض على المسوغات التراثية لهذا المنهج. وإن كنت أختلف معه في بعض التفاصيل وأسلوب العرض والموقف السلبي والتهويني من الثورات التي عرفتها العلوم الإنسانية ومجال اللغة والسيميائية والهيرمينوتيكا الجديدة والنظريات اللسانية.. أي باختصار الموقف من علوم الغرب. وأيضا حول عدم الالتفات إلى أن التطور الحاصل في الدراسات الهرمينوتيكية، كشف عن تلك المغالطة التي أثارها تايلور بخصوص التأويل كفن وليس كمنهج. وقد لا تفوتنا أيضا الإشارة إلى معرة التخندق بالتأويلية الهرمسية التقليدية وعدم إدراك آفات التسطيح التي وقع فيها ذلك الشكل القديم والبدائي للتأويل، أو ما كان سيميوزيس امبرتو ايكو قد وصفه بالتناظر السطحي الذي يفسر أسباب المتاهة الهرمسية، أي التناظر الذي يقوم على محض التشابه ، لمجرد التشابه، دون ما يمكننا نعته بنقد التشابه واختباره. إن نقد امبرتو ايكو لهذا الشكل من التناظر السطحي الذي يكتفي بالتناظر المورفولوجي وليس الوظيفي، هو حقا ما يؤدي إلى فوضى التأويل ، ويكون شأنه شأن القياس الفاقد للوسط. بهذا المعنى إن التناظر الذي يراعي الجانب الوظيفي المشترك ولا يقف عند الجانب المورفولوجي فحسب، هو من جنس القياس المنطقي الذي يدرك مناطه. أي باعتبار إدراك الوظيفة بمثابة الوسط الذي تتبث به الكبرى للصغرى. وما أعيبه على مثل هذه المحاولات القائمة على التناظر السطحي، هو جملة المفارقات التي يمكن أن تؤدي إليها. حيث بإمكاننا الانطلاق من نفس التقنية التناظرية السطحية ، لنقف على نتائج مناقضة تماما . وهكذا يمكننا لو انطلقنا من قوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر)، أو (وأنزلنا عليك الكتاب)،..إذا قرأنا وفق التناظر السطحي قوله تعالى: (وأنزلنا الحديد..) فإن افتقاد البوصلة التي تحدد المشترك الوظيفي، تجعلنا نقف على تناقض صارخ وخطير ، إذا ما اعتبرنا مجرد التناظر المورفولوجي كافي هنا. فنقول إن الحديد هو بمنزلة الكتاب المنزل تأويلا، في حين أننا سنصدم، حينما ندرك قوله:( ما أنزلنا عليك الكتاب لتشقى)، في حين، (أنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس). وإذا كان الحديد أداة للشقاء أيضا ، فهذا ما يناقض غاية الكتاب. وقد يصح الأمر فقط حينما نحدد وظيفة التشابه وليس الاكتفاء بالتشابه كيفما اتفق. وعليه، التناظر هنا صحيح مورفولوجيا لكنه خاطئ وظيفيا. مثل هذا التناظر التسطيحي ، لا يكاد يرقى حتى إلى مستوى تأويل الأحلام عند بن سيرين أو ما شاهدناه عند بن المقفع في كليلة ودمنة وصولا إلى حكايات لا فونتين المبنيتان على أساس تناظري ولكنه متطور من حيث استيعاب وظيفة التناظر. ومع ذلك نواجه عند هؤلاء حالات من هذه المتاهة الهرمسية أو التناظر السطحي الذي أحب أن أسميه التناظر الشقي، وذلك حينما يؤدي الرمز نفسه إلى معنيين متناقضين. نعم قد يحسم الأمر برد الشخص الرائي نفسه إلى سياق آخر، سياق الحال. لكن مثل هذا يفتح متاهة أخرى، أي إلى مزاجية المؤول ومدى معرفته بالنفس والاجتماع وفنون أخرى. ما أريد التأكيد عليه هنا، وما أعتبره فيصلا بيني وبين دعاة التأويلية الهرمسية، هو أن التأويل ليس مجرد تناظر فقط ، وإلا سقطنا في قياس إبليس . فلقد قام هذا الأخير بعملية تناظر مغالطة ، ركزت على الجانب المورفولوجي ، وحجبت الجوهر الوظيفي المكنون، بينه وبين آدم . فقام التفضيل في حجة إبليس على أساس التأويلية الهرمسية ، بينما الشرف الظاهري لنارية الأول، والخسة الظاهرية لطينة الثاني ، حجبا الوجه الوظيفي. وبحجبه ذاك الوجه وكفره، اعتبر كافرا وحاجبا للحقيقة. فلا يهم شكل القياس إن كان قائما على عدم نقد الجانب الوظيفي في العملية التناظرية. من هنا يمكننا الحديث عن اتجاه ظاهري لدى بعض أنصار التأويل. من جهة أخرى ، و ما فاجأني حقا، أن الساحة الإيرانية متقدمة اليوم على الساحة العربية بفضل هذا الانبعاث لما يسمى اليوم في إيران بعلم الكلام الجديد ، وفتق القول في الهيرمينوتيكا. وطبعا تظل هناك خصوصيات داخل هذه المدرسة التي تتسع دائرة أنصارها يوما بعد يوم. ولكننا قبل أن نؤكد على التميز في الصغرى لا بد أن نؤكد وحدة الكبرى كأساس لانطلاق ابستيمولوجيا تأويلية بديلة ودراسات مقارنة تجعلنا نقدم المدرسة التأويلية الإسلامية الخالصة بخصائصها المتميزة وأبعادها الكونية. على أنني أدفع بهذا، مغالطة كبيرة ، ألا وهي أن التأويل انطلق من الدوائر البروتستانتية أو أنه تعدى إلى العلوم الإنسانية مع شلايرماخر تحديدا، وتايلور أو غادمير وهايدغر. وذلك بتأكيد وجود مشروع مدرسة تأويلية إسلامية رائدة وأصيلة من شأنها أن ترفد العلوم الإنسانية ولما لا، الطبيعية بقيمة مضافة. وهي لا تنحصر في نطاق نقد النص وتحليله، أو مجال الأنطولوجيا، بل هي مدرسة واقعية أيضا، وهي شمولية وعامة ، تشمل علم الإنسان والطبيعة، تشمل الأنطولوجي والفقهي القانوني والإجتماع والنفس والرياضيات والهندسة والطب وما إليها . وكأننا أمام مستقبل واعد، فارسه، التأويل، لا محالة. مفاهيم تقليدية تحاصر النص ثمة بالفعل مفاهيم تحاصر النص ، وتضغط عليه باتجاه تكرار المعنى. وللأسف أن أكثر العلوم خطرا اليوم على النص القرآني هي هذا الحطام من الآراء التي تشكل ما يسمى بعلوم القرآن نفسها. لأنها تتضمن آليات مقوضة للتأويل الناجع تحت طائلة سد الذرائع أمام التأويل الفاسد. وهي آليات لم يعد لها من مبرر للبقاء، طالما أن وظيفتها أن تكشف عن حقيقة الظاهر مسبقا. إنه تحصيل حاصل. وبقاؤها يجعل وظيفتها عكسية تماما. أي يجعلها تؤدي وظيفة إسكات النص عن النطق مرة أخرى. وتساهم في جعله نصا ميتا و محنطا في دهاليس المورد الأول. أي أنها تقبل بالولادة الأولى للنص، ثم سرعان ما تتنكر لمشروعية الولادة الثانية له، أو الولادات الممكنة له. تصور أننا نقبل بوجود مولود لكننا نمنع عنه إمكانية النمو و التكاثر. إنها الولادة التي نعود فنسميها عكس التكوثر الولادة البتراء. هؤلاء ينطبق عليهم قوله تعالى : (إن شانئك هو الأبتر). أي ذلك الذي يولد له ولد واحد أنثى (فقط) ، كما عيّر الكفار الرسول بالزهراء التي سماها القرآن: الكوثر. نعم، إن النص في هيئته اللفظية الأولى يبدو ثابتا، لكنه قابل للنمو بالمعنى، بحسب محورين سبق أن تحدث عنهما البلاغيون ، وتحديدا، فردينوند دوسوسور بتفصيل؛ أعني المحور السانتاغماتيكي (الإكمالي) والمحور الباراديغماتي (الإبدالي). ومن هنا أرى نفسي خارجا عن هذه المشكلة المزمنة التي شغلت العقل الإسلامي وعلم الكلام القديم، حول العلاقة ما بين العقل والنص أو العقل والنقل. وسواء أقلنا أنهما متعانقان أو قلنا أنهما متناقضان، ففي الحالتين معا ، نكون قد اعترفنا وأكدنا على هذه "الإثنينية". أما أنا فلا أرى هذه الإثنينية إلا على نحو الاعتبار. هناك منطق واحد حاكم على النص وحاكم على العقل وهو نفسه حاكم على الكون. وحينما يندمج العقل والنص والكون في هذا المنطق، يمكن أنذاك أن يصنع المعجزات. بهذا العقل التأويلي المرن، المنفتح على النص وعلى حركيته، نستطيع اكتشاف "اللغة المنسية" للقرآن. ثمة تقنية لتدمير المعنى المحتمل للنص وتدمير لإمكانية النص في أن يكون فاعلا في الحياة المعاصرة. أنظر مثلا، إنهم يقولون بأن بعضا من القرآن منسوخ. والنسخ هو ضرب من النسيان: (ما ننسخ من آية أو ننسيها، نأتي بخير منها أوبمثلها). وهم بذلك عطلوا قسما منه كبيرا. في حين أن ما تتيحه البنية القرآنية، والتي هي بنية توليدية، هو أن النسيان أو النسخ هو عملية تناوبية دائمية. بل وأهم من ذلك، هي عملية توليد وإنتاج للمعنى وليس عملية تعطيل للنص أو شله كما هو من منظور علوم القرآن التقليدية: (ما ننسخ من آية أو ننسيها نأت بخير منها أو مثلها). وإذن، النسيان للمتشابه هو بإحكامه وفق سياق محكم ومضاء لالتقاط الإشارة. تحصين التأويل من آثار المذهبيات، والمصالح والأهواء الشخصية الجواب من القرآن نفسه. فثمة بلا شك ضرب من التأويل مذموم ، وثمة آخر ممدوح: (ولا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ). التأويل المذموم، هو حينما نحمل النص معاني خارج سياقاته الموضوعية، أو خارج منطق السياقات الممكنة في نطاق مشروعية المعنى. أي حينما يكون هناك ناطق عنه بالوكالة. في حين أن القرآن "ينطق بعضه عن بعض". إن التأويل المذموم، هو في الحقيقة عدم اعتراف باللغة المنسية للنص وعدم الإنصات لنبضه. حيث ليست أسباب النزول فيه تأتي من داخل القراءة و ضرورات التنزيل، بل هي نزولات مكونة داخل أهواء البشر. فثمة على كل حال (من جعل إلهه هواه). وهذا النوع من التأويل والتنزيل هو إسقاط معنوي، لأنه يخضع لأسباب نزول ذاتية وليست موضوعية للنص. هذا ما أسميه " الإسقاط الموردي الذاتي أو المتخيل للمعنى". في حين المطلوب منا "التكوثر الموردي الموضوعي للمعنى" . وعليه، يمكننا الخروج بضابطة معيارية للتمييز بين التأويل الممدوح والتأويل المذموم: الأول ، حينما نجعل القرآن ينطق بعضه عن بعض، ويكون المتلقي شريكا في بناء المعنى من خلال متغير الاستنطاق. الثاني ، حينما ننطق نحن عنه بالوكالة. تصور لو أن متكلما ما تكلم بكلام غني بالتشبيه والاستعارة ، ويريد أن يوجه المتلقي إلى معاني معينة ، ثم جاء المتلقي وضرب صفحا عن مراد المتكلم وقرأه ضمن أسيقة بديلة ؟ نعم إن القارئ شريك في العملية التأويلية. أي في تحريكها وليس شريكا في موضوعية المعنى. بالمعنى الذي نفهم منه استعارة معاني من أسيقة لا صلة لها بالنص وبالمقروء. إن للتأويل منطقا وآلية واضحة. ليس التأويل فوضى. ولا أقول أن التأويل ههنا مقدسا. بل على العكس من ذلك، التأويل ثورة ضد المقدس المغشوش، ضد الثابت، ضد التحنيط. التأويل هو انفتاح على كل إمكانيات الحياة وعلى كل احتمالاتها. أنا لا أتحدث عن طريقة في التأويل غريبة ومعقدة، ترتهن لهذا الاختلاف المهول للمذاهب والتيارات. بل أتحدث عن طريقة صاحب الدعوة في تعامله مع النص، هو وجماعة القراء الذين أشاد بقراءتهم في حين استبعدهم عصر التدوين. هذه الطريقة في تأويل الكتاب وفي جعله ينطق بأكثر من معنى، هو ما يهمني الآن ويهم كل أنصار التأويل، سواء في الدائرة الإسلامية أو خارجها. وهذه الطريقة هي نفسها تتماشى مع المنطق القرآني. ما يعني أن طريقة الاستنطاق كانت تتم بصورة توحى لنا بأن منطق العقل المستنطق بكسر الطاء هو نفسه منطق النص المستنطق بفتح الطاء . إذا تأملنا في النص القرآني نفسه، سنقف على وجود منطق معين في انبناء الآيات. وهو منطق قائم على ضرب من التوليد التأويلي. أي أنه ليس فقط المعنى هو ما يولد عن النص، بل ثمة نصوص هي متولدة في القرآن، نستطيع التوصل إليها تأويلا. وهاتان الظاهرتان القائمتان على ضرب من التناص ، أسميهما: "آلية التوليد المزدوج ". وسأوضح لك ذلك أكثر، لأن هذه الآلية هي نفسها المنهج التأويلي الذي لا ينحصر فعله في إنتاج المعنى وتحريك النص فحسب ، بل يتعدى إلى حماية النص من الانزياح أيضا. فالتأويل الذي أتحدث عنه هو ذو فعالية مزدوجة: الأولى، استنطاقية والثانية حمائية . إذن، التأويل وفق هذه الآلية، يحمي نفسه بنفسه، فلا مجال إذن للانزياح والفوضى. ذلك لأن أي عملية تأويلية خاضعة "للإسقاط الموردي الذاتي " سوف تتكسر على صخرة المنطق القرآني، لأنها أحكمت خارج أسيقته الممكنة. في حين هو يصدق بعضه بعضا. أي يحكم بعضه بعضا. وبهذا، فإننا نستطيع أن نمتحن أية تجربة تأويلية ، بإعادة عرضها على القرآن. أستوحي طريقة التأويل من درس تأويلي قدمه صاحب الدعوة ص لأصحابه. وهو درس يقوم على فكرة تحريك النص وإحكامه ضمن سياق آخر يمثل موردا من موارد العبارة مورد التشابه. فحينما نزل قوله تعالى: (الذين لم يلبسوا إيمانهم بظلم )، قالوا: ومن منا لم يظلم نفسه يا رسول الله ؟ كان الجواب: إن الظلم هاهنا هو الشرك، ألم تقرأ قول لقمان لابنه ( يا بني لا تشرك بالله ، إن الشرك لظلم عظيم) . لاحظ معي كيف كيف أحال صاحب الدعوة في ممارسته لبيان التنزيل ، المتشابه إلى المحكم عبر تغيير السياق استنادا إلى المثال. وهي عملية إبدال قامت بنسخ التشابه وإحكامه وبيان المجمل. إن ما أسميه بالتوليد الجواني، يمكننا من بناء نص آيوي . بل ، والتنبؤ به قبل معرفته. وهذا في نظري أكبر مصداق على صدقية هذا المنهج. أي طالما بإمكاني أن أتنبأ أو أعيد تأليف نص قرآني موجود انطلاقا من النصوص القرآنية واستنادا إلى آلية الإحكام ، قبل أن أتعرف عليه، فهذا معناه أننا عثرنا على منطق البنية القرآنية وامتلكنا سر تولد النص القرآني. ومن يملك أن يعيد بناء واكتشاف نص آيوي موجود، فهو قادر من باب المفهوم وفحوى الخطاب ، لا محالة على تأليف وبناء ما به يتوسع المدى القرآني. مثلا نقرأ قوله تعالى:(إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا) . نحيلها على نظيرها من قوله تعالى :( إنا أرسلناك شاهدا و مبشرا ونذيرا ). وهذا يتيح لنا قراءة الآية الثانية إكمالا، أي أن نضيف إليها " بالحق " الموجود في سياق الآية الأولى النظير لها فنقول:(إنا أرسلناك (بالحق) شاهدا ومبشرا ونذيرا).والحقيقة أنني بعدما قمت بهذه القراءة التركيبية ، بناءا على قواعد التأويل، أفاجأ بأن هذا النص الذي قمت بتركيبه تأويلا، هو آية قائمة بذاتها موجودة في القرآن سلفا. فهل معنى هذا أنني استطعت أن أؤلف آية موجودة في القرآن؟! معاد الله . وإنما هو تفعيل لمنطق التوالد القرآني . لقد واصلت التقنية نفسها ، وقرأت قوله تعالى: ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ). وأحلتها إلى النظير من قوله تعالى:( والكافرون هم الظالمون ). إذن أمكنني قراءتها كالتالي: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) بدل (الكافرون). ومرة أخرى أفاجأ بأن الآية التي استنتجتها من رحم هذا التحريك الإحكامي للنص القرآني تأويلا ، هي آية موجودة سلفا في القرآن . قرأت مثلا قوله تعالى:(قال يا أيها الملأ ليس بي ضلالة ولكن رسول من رب العالمين ) . أحلتها على قوله تعالى لمقام النظير وعلى طريقة الرسول (ص) في تأويل آية لقمان السابقة (قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين). وهي بدورها تحيلنا إلى قوله تعالى:(إنا لنراك فينا ضعيفا). فيمكنا استبدال الضلال بالضعف، وهذا يؤكده قوله تعالى:(قال الملأ الذين كفروا من قوله إنا لنراك في سفاهة). كلها نظائر. وهذا يؤكد قوله تعالى: (فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا) . إذن هذا يؤدي إلى قراءة الآية الأولى:(قال يا قوم ليس في ضلالة ولكن رسول من رب العالمين) بطريقة الإبدال: (يا قوم ليس (في سفاهة) ولكن رسول من رب العالمين).ومرة أخرى أفاجأ بأن الآية التي استخرجتها تأويلا ، موجودة أيضا في القرآن سلفا. ثم أقرأ قوله تعالى:(قال الملأ الذين كفروا من قوله إنا لنراك في سفاهة ) ، إبدالا :( إنا لنراك في (ضلال)) لمقام النظير المذكور، فأجدها مرة أخرى تحصيل حاصل لآية موجودة في القرآن الكريم. إذن، أنظر أننا نستطيع أن نتعرف على منطق انبناء الآيات، وهو أمر أذهلني إلى حد التساؤل: ماذا لو نقلنا هذه التجربة إلى خارج النص، إلى المجال العقلي أو العلمي الكوني، وسلمنا بوحدة النسق، أفلا نكون قد استطعنا الإمساك بناصية منطق انبناء الآيات الكونية؟! ألا يمكننا هذا المنهج نفسه من التنبؤ بالحركة الكونية؟! لأننا إذا أدركنا ذلك أمكننا إعادة تشكيل الأشياء، والوقوف على كم هائل من الحقائق والفرضيات التي يمكن تجريبها وإحكامها وفق المنهج ذاته. إنني أدعو إلى التأويل بوصفه الطريق المبدع الوحيد. وللأسف، فالعلماء في تجاربهم وخبراتهم يتبعون هذا المنحى من حيث لا يشعرون. التأويل ليس تفسيرا أو شرحا فحسب، بل هو إبداع وإنتاج يجعلنا نحكم آيات القرآن كما يجعلنا متمكنين من تأويل الكون. وهذا أمر يتطلب اشتغالا وكدحا معرفيا جادا. وأعتقد أن تلك هي معجزة التأويل مستقبلا. إن عملية إحكام نص بنص آخر، وهو مصداق قوله تعالى:(وإن اختلفتم في شيء فردوه إلى الله ورسوله). إن المحكم في القرآن هو ما علمناه، والمتشابه هو ما جهلناه. أنا ضد الرأي الرائج في علوم القرآن ، حيث يرى المحكمات قسما من الآيات وكذلك المتشابهات. القرآن كله متشابه وكله محكم. وهذا كلام له جذر في منطوق القرآن، حيث تارة يصف الكتاب بأنه كتاب متشابه، وأخرى يصفه بأنه كتاب أحكمت آياته. وعلى هذا الأساس ، لا مخرج إلا بأن نقيم علاقة تجادل المحكم بالمتشابه والناسخ بالمنسوخ بلحاظ حال المتلقي في العلم والجهل. فحتى ما كان من المنسوخ حكما، هو متشابه مجهول بما أن علمه غاب عن المتلقي المكلف. فالبداء هنا في التشريع كما في التكوين ، من حيث هو تعبير عن النسخ ، لا يعني بداء للمتكلم ، بل هو بداء للمتلقي ، لأنه في علم المتكلم تعالى هو علم محكم . إذن، كل ما هو مورد شبهة بالنسبة إلي، أبحث له من سياق آخر ضمن عملية تأويلية وتحويلية منضبطة وفق شروط التأويل الذي شهدناه في مثال (الظلم و الشرك ) السابق. وإذن يمكننا أن نقوم بنفس العملية التوليدية التي يقوم عليها فعل التوليد الجواني للآيات، على المستوى الخارجي. وهكذا ننتج أفكارا ومعاني ودلالات لا حصر لها. إنها بمثابة آيات تختلف وتتنزل بشكل دائمي. وهكذا نوسع من مضمون الآيات ودلالاتها. إذن عملية التأويل البراني ولنسميها عملية التأويل الإستدماجي ، لأنها تقوم بتجادل الأسيقة الخارجية مع الداخلية وتعيد إسقاطها على الخارج تنتج لنا أفكارا منسجمة مع القرآن، حينما نعرضها على القرآن، نجدها منسجمة معه. وهذا هو الحل الذي جعل كل كلام غير القرآن، لا يؤخذ به إلا إذا عرض على القرآن. فإن وافقه فبها ونعمت، وإن خالفه ضربنا به عرض الحائط. وهنا نكون أمام ظاهرة أخرى غاية في الأهمية، لأن النص إذا استنطقناه استنطاقا آيويا، فسيمكننا من إنتاج نص آيوي، ولكن إذا استنطقناه استنطاقا تأويليا دلاليا، فسيمكننا من إنتاج مضمون آيوي. وهناك لا بد أن نكون دقيقين في وضعنا لهذه الاصطلاحات. فنقول : إن العملية التأويلية، التي أسميها "العملية التأويلية الاستبطانية" هي العملية التي تؤدي إلى خلق "نص آيوي " أما العملية التأويلية التي سأسميها " العملية التأويلية الإستدماجية " هي العملية التي تؤدي إلى خلق "مضمون آيوي". والنتيجة إذن هي كالتالي: "النص الأيوي " هو قرآن مؤول. والقرآن المؤول هو قرآن بنص القرآن نفسه: ( ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه ) وهو ما يسمى التنزيل . أما " المضمون الآيوي " أو الحديث أو السنة هو تأويل مقرأن. والسنة هي مضمون قرآني بنص القرآن الكريم: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى). وهذا يعني، أننا متى ما تمكنا من ناصية الآلية المعنية بإنتاج النص الآيوي إنتاجا استبطانيا، حصلنا على "نصوص" إبدالية أو استكمالية. وهو ما يفسر سر تعدد القراءات في العهد الأول. وهو ما يمكننا أيضا من إنتاج المضمون الآيوي أي الصياغة المضمونية للنص، حيث النظائر اللفظية خارجة عن المخزون اللفظي القرآني. وهذا هو ما يفسر سر علاقة "السنة" بالقرآن. وهكذا لم تعد السنة هي فقط ما نطق به الرسول (ص)، بل تصبح كل قول كان مطابقا للقرآن مطابقة مضمونية. إن المعيار الوحيد للأخذ بالسنة هو عرضها على القرآن. وتصحيحها من خلال فعل مقايسة الفرع ( السنة) ، على الأصل ( القرآن). لنقل أنها إعادة "قرأنة" الخبر، واختبار مضمونه. إن كل كلام أيا كان مصدره، إذا أرجعناه إلى النص القرآني فكان منسجما معه، فهو كلام أو فكر "مقرأن"، وكل ما كان مقرأنا فهو "سنة" . فكل قول أو فكر، أيا كان ومهما كان، قاله الرسول أو لم يقله، إذا استجاب لوحي القرآن ومنطقه وتقرأن فهو "سنة". وهذا ما أعنيه من توسيع مفهوم السنة. السنة لم تنته. السنة يجب أن تمتد وتستمر. لأن كل فعل تأويلي يكشف لنا عن حقيقة أو فكرة ما، قابلة "للتقرأن" فهو سنة. السنة لا يمكن أن تكون حبيسة ومحصورة. السنة هي كل ما استجاب للقرآن. وأمامنا اليوم فرصة. إذ ما دمنا عاجزين عن الإنتاج، فما علينا إلا أن نؤول نصوصنا ونعرض هذا الإنتاج البشري الضخم على النص ونقرئنه، أي نعرضه على النص عرضا تأويليا. فإذا فعلنا ذلك نكون قد اختصرنا الطريق، وربما ظهر لنا ما نسد به ثغرات الفكر الإنساني وننخرط في الدورة الحضارية انخراطا فعالا وليس انخراط عزلة وانطواء. وأعتقد أن ذلك أجدى من دعوى أسلمة المعرفة أو التقريب التداولي. يل سيظهر لنا حصر هذه الدعاوى وضبابيتها وعجزها عن الإبداع بقدر استطراداتها اللغوانية والمنطقانية بالمعنى السلبي للعبارة. أنقر هنا لتتمة المقال http://www.hespress.com/?browser=view&EgyxpID=18373