هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'        أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء        الحكومة توقف رسوم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام    "دور الشباب في مناصرة حقوق الإنسان" موضوع الحلقة الأولى من سلسلة حوار القيادة الشبابية    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    وفاة ضابطين اثر تحطم طائرة تابعة للقوات الجوية الملكية اثناء مهمة تدريب        أمن البيضاء يوقف شخصا يشتبه في إلحاقه خسائر مادية بممتلكات خاصة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال في مطار الجزائر بعد انتقاده لنظام الكابرانات    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    يخص حماية التراث.. مجلس الحكومة يصادق على مشروع قانون جديد    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    إتحاد طنجة يستقبل المغرب التطواني بالملعب البلدي بالقنيطرة    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التبني الحضاري والتجديد الجذري - تتمة
نشر في هسبريس يوم 14 - 12 - 2009


ما البديل؟
إلى هنا نستطيع تبيان الأسباب التي تهجس باستمرار إلى ما نسميه بالتبني الحضاري والتجديد الجذري، البديل الوحيد عن أطروحة التجديد التوفيقي والتلفيقي التي سادت العقود الأخيرة ولازالت هي السمة الرئيسة للنمط المعرفي السائد حتى اليوم . وسوف أعمل على إبراز أهم معالم هذه الأطروحة كي تكون هي المعيار الذي يسهل على القارئ فهم خلفيات وأبعاد كل المقاربات التي يضمها هذا الكتاب وكل أعمالنا التي ستليه.
أولا، لنبدأ من السؤال أعلاه، فنقول: إلى متى سوف نظل متمسكين بصيغة هذا السؤال، دون أن ينطلق التجديد في صميم السؤال نفسه. إن أطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري، تسعى إلى إعادة النظر في أصل السؤال، وجعل التجديد يبدأ من السؤال وينتهي إلى مشاريع الحلول؛ ففي البدء كان السؤال؛ فهل أسئلتنا تظل خارجة موضوعيا عن ضرورات التجديد؟ إذا كان لابد من إجراء تغييرات في مسارات النظر إلى مشكلاتنا، فإنه لابد من تمثل القاعدة التالية: فلكي نستأنف النظر في حل مشكلاتنا، علينا بادئ ذي بدء، فتح النقاش الحر حولها. ولا شك أن ما يبدو الآن، هو حصيلة آراء محددة وتمثل الفكر الوحيد والنمط المعرفي الوحيد. وحتى الآن وبعد مرور عقود من الزمان، لا وجود البتة للنقاش الحر حول أهم مشكلات الفكر الإسلامي المعاصر. بل يمكننا الحديث هنا عن ضرب من التواهم على وزن تفاعل ، وهو أن نقبل أوهام بعضنا البعض :أي، أن تتسامح في قبول أوهامي لكي أتسامح في قبول أ أوهامك إن القاعدة المذكورة تحيلنا على قاعدة أخرى، متفرعة عنها: فلكي نصل إلى مستوى النقاش الحر حول مشكلاتنا، علينا بادئ ذي بدء أن نكون في تمام الاستيعاب لحجم الأزمة. ولا غرو أن هناك غيابا كارثيا لما يعكس درجة الاستيعاب الحقيقي لحجم الأزمة. وحال الأمة من السبات والاستسلام، وحال نخبها وطلائعها من انعدام الجدية والنزاهة، ما يجعلنا في الدرك الأسفل من وعينا بالأزمة، فما بالك باقتدارنا على اصطناع حلولها.
ولا يحتاج الناظر إلى كثير شواهد للوقوف على مفارقات مشهد أمة تطرب لأزماتها، وتحسن الفرجة فيما يجري في أطرافها وأعماقها. حيث إن أطروحة التبني الحضاري والتجديد تحمل الأمة مسؤولية هذا السبات بالقدر ذاته الذي تحمله نخبها . فالنخب لا تفسد أمة مسلحة باليقظة والفضيلة . والقابلية للانحطاط هي الطرف الآخر في جدلية التأخر الحضاري. ومن يطلع على وسائل الإعلام العربية يدرك إلى أي حد بتنا في درك الإحساس بحجم أزمتنا. حقا، إن العربي لهو ملك الطرب، حتى في أحلك الظروف. وهناك مثل إيراني صادق على حال العربي؛ حيث لو وجد عربيان فقط ، فلا بد أن يطبل أحدهما ويرقص الثاني . هذا الإغراق في اللامعنى، وهذا السيل الجارف من التسويق الرديء لثقافتنا وهذا التظهير المفارق لأحوالنا وآمالنا، لهو أبرز دليل على أن حال الأمة لا يزال دون الحد المطلوب للاستيعاب. أما النخب، فحدث ولا حرج . فلقد بات طبيعيا أن تتحول قضايا الأمة وأقطارها إلى موضوع تجارة في مزاد علني وإلى بازار مشرع الأبواب. حتى أنك قد تجد الوصولية والازدواجية قد بلغت مبلغها، إلى حد القدرة الفائقة على إعلان الزواج الكنسي بين الأطروحة ونقيضها. ويا لهول الموقف يوم ترى نمو هذه الظاهرة في قلب مواجعنا، تساير هذا الموكب الجنائزي وتضحك على ذقون ضحايا هذه التراجيديا التي لم تستطع أن تحرك ضمير هذه النخب.
ولسائل أن يسأل ماذا نقصد بهذا الكلام؟
نعم، إن ما يبدو اليوم سبات الأمة وخيانة نخبها، لأمر يعيق تحقق القاعدة المذكورة، فكيف نكون في حجم المأساة، ونكبر بحجم المحنة؟
إن التراجيديا هي لحظة حاسمة في حياة الأمم. وحجم الضربات التي تقع عليها يوشك أن يوقظها. ولاشك أن ما يحصل اليوم، هو نوع من الضغط الذي يتعين على الأمة استغلاله لصالح مستقبلها . ففي ظل ما يجري اليوم، هناك أكثر من هامش للعمل. هناك فرصة للأمة لكي تعيد إصلاح نفسها ومراجعة أوضاعها. فلا يهم أن يكون الضغط الخارجي سلبيا أو إيجابيا، مادام المطلوب هو أن تتحرك الأمة وتناور داخل هذا المناخ كي تمسك بخيوط الأزمة. إن الأمة استكانت لذلك المناخ السياسي القاتل الذي جعل كل شيء يتوقف برسم السياسات الأمنية. وقد أدرك الجميع، أن هذا الاختيار حتى وإن كان أحيانا ينطلق من تشخيص مبني على حسن النوايا، إلا أنه بات يشكل تحديا محدقا بالعالم العربي. فبعض الدول لم تسقطها إسرائيل، بقدر ما أسقطتها فظاعات سياساتها الداخلية المتعسفة والتي تحولت إلى مسوغات للتدخل الخارجي. وكان مثل هذا يقتضي إحداث إصلاحات فورية لتقوية الجبهة الداخلية وإدارة الصراع بأسلوب آخر مختلف. إذا استوعب الأمة حجم الأزمة، يمكنها إذ داك أن تكون في حجم مأساتها، وبالتالي أن تتحرك في مستوى فتح النقاش الحر حول قضاياها في جو من التعبير عن الاختلاف برباطة جأش وتسامح كبيرين. إذا أدركنا ذلك، عرفنا أن الحديث عن بدائل مستعجلة، هو جزء من مشكلات الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر. أي، ذلك النمط الفكري الذي لا يزال يعمل على استعجال تصيد الحلول تحت نوعين من الأسئلة، يختزلان أزمة انسداد وتوقف الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر. السؤال التقليدي الأول: "لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟" والسؤال الثاني تبسيط ميكانيكي: "أين الخلل؟" وحتما، ندرك أن كل الحلول التي قامت على أساس السؤالين المذكورين، لم تقدم حلولا حقيقية حتى اليوم. في هذا الكتاب، لا نزعم أننا بصدد هذا البديل، بقدر ما نمهد لذلك بتفعيل الأسئلة الممكنة والأكثر جذرية للنمط المعرفي السائد. إننا لازلنا في طور تجذير المساءلة وزحزحة كبرى البداهات المغشوشة والمتسلطة على الفكر الإسلامي المعاصر، من أجل فتح هذه البنية النائمة المتكلسة على فضاء الأسئلة الممكنة. ولهذا السبب تحديدا، جاءت كل موضوعات هذا الكتاب، في صورة أسئلة لا في صورة حلول.
إذا كان كل كاتب يتوقع قارئه، فنحن نتوقع قارئا مختلفا، يقرأ النصوص قراءة نقدية تثير لديه السؤال تلو السؤال. إنني أتوقع قارئا يراكم السؤال، وينمو معه. قارئا لا يقرأ هذه النصوص إلا كشكل من أشكال التجريب وبوصفها مغامرة ، وتعبيرا عن قلق معرفي مشروع وضروري لتقدم الفكر وديناميته. لأننا إذا لم نغير من النمط المعرفي الذي يجعل القارئ خارجا عن مسؤولية المقروء، أو حينما نجعل من الكاتب منتجا للحقيقة، فلن نفهم جوهر هذا الكتاب.
على هذا الأساس تنهض أطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري، فهي تسعى إلى تغيير صورة السؤال وكذا إحداث تعديل في نمطية التعاطي بين القارئ والمقروء.
وبينما لازال قسم من المحللين على تشبث بالسؤال الأرسلاني بوصفه سؤالا يحيل على السؤال آخر المتفرغ عنه: أين الخلل، ومن ثمة محاولة البحث في أسباب الانحطاط واحدة واحدة وفق منظور سببي ميكانيكي، فإن ما نسعى إليه في ضوء هذه الأطروحة، هو إعادة صياغة السؤال كالتالي: نحن اليوم مختلفون، فكيف إذن نتقدم؟
قد يبدو للبعض، أن لا جديد هنا على السؤال الأرسلاني، فما قيمة السؤال الأخير؟ غير أن أدنى تأمل يجعلنا ندرك بأن المسافة بين السؤالين هي ذاتها المسافة التي تفصل بين نموذجين معرفيين؛ النموذج المعرفي الميكانيكي، والنموذج المعرفي الجدلي والديناميكي. إن المشكلة التي يعاني منها العالم العربي والإسلامي، هي ككل المشكلات، ليست محصورة في الموقع الذي انطلق منه مسلسل الخلل. نعم، إن الخلل يتطرق إلى الجسد من إحدى مداخله. لكنه ما أن يدخل حتى يصبح مشكلة بنيوية مركبة. تبدأ المشكلة على وفق قانون علي، لكنها تنتهي بمركب بنيوي. وحينئذ، يصبح عبثا السؤال : أين الخلل أو ما هي أسباب الانحطاط. لأن حبل الرجوع إلى الأسباب انقطع، وأن المداخل والأسباب والعلل، ما هي إلا واجهات مرحلية ومنافذ نسقية لتسرب الخلل، بل إن المسألة هي أعقد من أن تكون عطبا في ثغر تسلل منه الخلل. فالسؤال المطروح والمتفرع عن سؤالنا الأول: لماذا يكون المدخل الكذائي هو أضعف مداخل الخلل؟
تعتقد أطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري، أن البنية المأزومة تفرز بنفسها مداخل ومخارج الأزمة. إن مداخل الأزمة هي بالأحرى، مداخل مرشحة من قبل البنية كاملة وليست مداخل عفوية أو مستقلة عن البنية. فالأزمات بنيوية وحلولها لا بد أن تكون بنيوية. وعليه فالحلول المنشودة هي الأخرى ثمرة لدينامية البنية وإمكان من إمكاناتها. فلسنا نحن من يملك تحديد مخارج الأزمة طالما لم نملك قبل ذلك تحديد مداخل الأزمة. إن تفعيل السؤال والدفع بالبنية لاكتساب ديناميتها وفتحها على الممكن، هو من يحدد للبنية مخارج الأزمة؛ وهذا ما نسميه باللحظة التاريخية للفعل الديناميكي للبنى. فاشتغالنا بناء على الأطروحة المذكورة، لا ينحصر في البحث عن الحلول المعينة أو تصنيف المخارج المتخيلة والمصممة سلفا؛ بل اشتغالنا على تفعيل الأسئلة والنقاش الحر وتهيئ البنية للانفتاح على فضاء الممكن، واكتساب البنية لديناميتها؛ إنها دعوة لتحريك البنية باتجاه لحظتها التاريخية. فالذين تسائلوا بعد أرسلان بعقود من الزمان: "أين الخلل؟"، كانوا ينطلقون من الرؤية الستاتيكية الميكانيكية نفسها؛ أي افتراض بقاء الخلل منحصرا في مدخله، وبالعودة إلى هناك ومحاولة ترميمه يتوقف الخلل عن إصابة باقي الأجزاء. مثل هذه النظرة التسطيحية للأزمة وللظاهرة الإجتماعية إذ الأزمة جدلية بنيوية لا تنحل إلا بحلول جدلية وبنيوية التي تستبعد الطابع البنيوي والديناميكي لمشكلاتنا، ترى أن طرو الخلل من موقع ما من كياننا الحضاري، معناه، أن موقعا ما يشكل ثغرا فاسدا ويحتاج إلى إصلاح. إن المشكلة الحضارية، وإن بدأت من موقع معين، فهي في الحقيقة تنطلق من المركز . وقد تصمد أطرافها التي تستجدي قواها من آثار الاستقواء القديم، لكن الخلل يتصيد المواقع الأنسب ، حتى لا نقول الأضعف، كي يتسلل منها، ويجد البنية في لحظة انحطاطها التاريخي، مستعدة لفرز أو ترشيح الثغر الأنسب والعامل الأكثر لياقة على تسرب الخلل. ولا يمكننا القول، بأن مدخل الخلل هو دائما المدخل الفاسد أو الضعيف ، بل قد يكون المدخل الأكثر انسجاما مع مركز البنية. ما يجعله الجزء الأكثر دينامية في البنية. وكما أن للبنية لحظة انحطاط تاريخي تنفرز من خلاله مداخل الأزمة، فكذلك للبنية لحظة انطلاق تاريخي تنفرز من خلاله مخارج الأزمة. إن مشكلتنا بهذا المعنى؛ بنيوية بامتياز. ولا يمكن تصور أزمة إلا على هذا الأساس. وهنا تبدو المسافة بين السؤالين واضحة، إذ لم يعد من المفيد في شيء أن يتجه السؤال إلى أسباب تخلفنا أو أسباب تقدم الآخر، بما أننا حتى لو حاولنا تمثل طريقة الآخر في التقدم لما أفلحنا، إن استحضار أسباب تقدم الآخر بصورة ميكانيكية، تتطلب استحضار لحظة تاريخية بكل مقوماتها وعلائقها. والحال أ ن لكل عصر معطياته ومشاكله ودينامياته وحلوله الممكنة. ولعل إصرارنا على إعادة صياغة السؤال الأرسلاني، هو مدخل وعنوان للنمط المعرفي الذي نقيم عليه وعينا بالأشياء.
إذا كان المنظر الغربي نفسه بات عاجزا عن الإمساك بزمام الأسباب التامة للنهضة، اللهم إلا نزوعا أيديولوجيا، فكيف بنا نحن من يوجد على الهامش على طول الخط . إننا في ضوء أطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري نعتقد أن كل محاولة من هذا القبيل، لن تكون محرزة تماما، حتى وإن كان أصحابها من صلب تلك النهضة نفسها. بل، إن الغرب لو أراد أن يقوم بالنهضة مرة أخرى على أساس هذا المنظور العلي التبسيطي، لأخفق في ذلك لا محالة. فهذا ماكس ويبر وهو من أبرز المؤرخين للرأسمالية والأسباب الموضوعية لقيامها في المجال الغربي، لم يفعل أكثر من توصيف وضع على أساس من الغموض والإعجاز. فالمسألة إذن هي في غاية التبسيط؛ كن بروتستانتيا وستكون رأسماليا. على أساس هذا الربط المورفولوجي والإحصائي، يصبح الأمر غاية في التبسيط حتى وإن عجز عن شرح أسباب هذه العلاقة الوظيفية. ذلك لأنه أخطأ الفعل العميق والمعقد واللاوعي للبنى، بحثا عن لحظات تخارجها التاريخي. ولذا، كان عبثا أن يعزو ذلك إلى القيم التقشفية الكالفانية أو غيرها، حيث الفشل المنهجي في تبين الأسباب الدينامية جعله يرى في النتيجة مقدمة. ففي ضوء أطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري، ليست التحولات والإصلاحات الدينية التي شهدتها أوربا في بداية النهضة، سوى تعبير عن إحدى مراحل التخارج التاريخي للبنية في عنفوان مخاضها. لأن السؤال المطروح هو، إن كانت الثقافات تتقاسم المبادئ نفسها، وإن كانت الكيانات الحضارية الأخرى شهدت أشكالا من الأنماط الرأسمالوية Capitalistiques على حد تعبير رودانسون، فإن السؤال يظل مفتوحا؛ لماذا القيم نفسها تصنع هنا المعجزات فيها تخفق هناك؟ تعين حينئذ أن يولى الاعتبار إلى علاقة القيمة بالنسق، فالنسق في لحظات تخارجه التاريخي، وفي أوج ديناميته البنيوية، يفسح المجال لفعل القيم، حيث تجد قليلا من القيم ينتج الكثير من المردودية ويحقق الكثير من الإنجازات، والعكس صحيح أيضا، حيث النسق في لحظات انزوائه وانكماشه التاريخيين، يعيق الفعل القيمي، حيث تجد كثيرا من القيم في بنى متكلسة لا تنتج شيئا. هنا تغدو القيمة في الفعل والعمل وتحصيل وسائل الدفع للبنية بغية تحقيق ديناميتها. إذن، عرفنا لماذا التمسك بوسائل وطرق انتهاض الأنساق والكيانات هنا أو هناك هو مغالطة كبرى؛ بل إنه محض مغامرة حمقاء؛ حيث ما يبدو دينامية من ديناميات النهوض في لحظة من اللحظات أو في مجال من المجالات، قد يتحول في لحظة تاريخية ما إلى دينامية تخليفية لا تجديدية. لأن الذي يحدد قيمة الدينامية، ليس هي من حيث هي، بل هي من حيث نجاعتها داخل النسق المخصوص. هكذا، فإن البحث في أسباب تقدم الآخر بتوصيف ما صار ظواهر اجتماعية في كيانه، كما فعل رفاعة الطهطاوي في "تخليص الإبريز في تلخيص باريس" أو صار حديث الركبان حيثما تحققت المتعة البصرية بما يبهر النفوس ويبعث فيها الحسرة تلو الأخرى داخل هذا الفضاء الغربي الحديث المدهش بحقائقه وإنجازاته؛ أجل، فلا معنى لذلك، إن لم يتحول إلى أمارة محفزة للبحث عن شروط النهضة التاريخية ليست كمساطير في مدونات مودعة في خزائن الآخر، بل هي معطيات متجددة وقوانين صائرة وتعقيدات متكاثرة. فالنظر إلى النهضة كما لو كانت كياناتنا معزولة أو استثناءا من معادلة معقدة لنظام عالمي شديد التعقيد، هو ضرب من الأحلام اليقظوية، أو النزوعات اليوتوبيا، لمدائن لازمان لها ولا مكان، وفراديس مخملية من هندسة الخيال.
والسؤال الأخير هاهنا: ما هي الأطر الكبرى والمعايير المحددة لأطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري، في ضوء النمط المعرفي البديل؟
إن أطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري، تقوم على مفهومين متكاملين: لكل مفهوم مفاد يتقوم به أو مقتضى ينهض عليه. فمقتضى التبني الحضاري، هو النظر إلى الإسلام كتعاليم. ومقتضى التجديد الجذري، الوسطية في النظر والعمل. على أن لكليهما معنى غير المعاني التلفيقية التي سادت في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر. وهذا ما يحدد القيمة المضافة لهذه الأطروحة.
أولا: التبني الحضاري
لا نعني بالتبني الحضاري دعوة غامضة على غرار ما يحدث داخل بعض الاتجاهات الانتربولوجية، التي تتحدث عن خليط وأمشاج التقاليد والعادات والأذواق في حضارة ما أو كيان ما. فمثل هذا المنظور هو منظور ثقافي وليس حضاريا ومرة أخرى نرفض ذلك الخلط المتعسف بين الثقافة والحضارة إنه مجرد مطلب كيان اجتماعي لا يحمل مشروعا للتقدم ورسالة للنمو. إن التبني الحضاري ليس مسألة شعار أو عنوان غامض تتبناه حركةهنا ، أو حزب هناك، أو عناوين لكتب وندوات ومؤتمرات تملأ الدنيا هذه الأيام عبثا. إن التبني الحضاري كما نقدمه للقارئ الكريم، يفرض علينا مهمتين:
الأولى: تمييزا دقيقا وحاسما بين ما هو حضاري وما هو ثقافي.
ثانيا: الانتقال من مستوى الخطاب الدعوي المرتكز على الخطاب الطبيعي مع ضرورة استمراريته وتهذيبه واستدماجه ضمن النسق العام الخاضع لسياسة التبني الحضاري إلى مستوى الخطاب الحضاري؛ الدعوة الشمولية.
فأما المهمة الأولى، فقد كنا فصلنا فيها القول في كتابينا "المفارقة والمعانقة" و " وحوار الحضارات " . وثمرة هذا الفصل المنهجي والمفهومي تتجلى في كون التبني الثقافي غايته إحراز الحق في الوجود. بينما التبني الحضاري غايته إحراز السبق في الوجود. ولا شك أن قيمة الإنسان وشرف إنسانيته يتقوم بالسبق في الوجود لا في محض الوجود.
وأما المهمة الثانية، فسيجد القارئ لها ضمن محتويات هذا الكتاب تقريبات شبه مفصلة، غاية القول فيها أن ما بين أيدي المسلمين اليوم من أفكار وتعاليم هو منجز من حيث كفايته لتحقيق المعذرية لدى المكلف الشرعي الشخصي، وليس المعذرية لدى المكلف الاجتماعي، المعني بإعداد القوة والتفوق وخلافة الأرض على أسس أقوم. إنه ما من شأنه أن يجعل المسلم مسلما بريء الذمة وكفى. لكن ما يجعل الجماعة المسلمة ناهضة متجددة متحضرة هذا شأن آخر، وهو موضوع أطروحتنا الرئيس.
إن دعوتنا إلى اختزال الإسلام في صورة تعاليم، معناه، أننا نستطيع في كل لحظة وفي كل جيل وفي كل اجتماع أن نؤسس علاقات جديدة مع هذه التعاليم في ضوء متطلبات ذلك الجيل أو ذلك الاجتماع. على أن المطلوب تحقيق تكييفات مختلفة لهذه التعاليم بعدد الأنفاس الجماعية. وهذه العملية الاختزالية هي خطوة منهجية لوضع التشخص التاريخي لهذه التعاليم بين أقواس، وصولا إلى التعاليم الماهوية ، أو لنقل التعاليم لا بشرط تلبسها بمركباتها التاريخية، الوسيلة الوحيدة للقبض على مناطاتها ومقاصده، قبل إعادة تركيبها بما يحقق تكييفانيتها الخلاقة في حالة من الإستئناف المستدام. فالتعاليم هنا يعاد بناء الصلة بها خارج أسيقة الماضي؛ حتى وإن كانت تلك الأسيقة تصلح كأمارت لا قيمة لها إلا بما تساهم به في إقامة ضرب من التناظر الحيوي الفاعل وليس التناظر السطحي، لصالح الجماعة المعاصرة. إن تمييزا لما بين أيدينا من خطاب منتهاه تحقيق معذرية المكلف المسلم وبين خطاب منتهاه بناء أمة حضارية، ليس دعوى لا جدوى منها. فمثل هذا الخلط أدى دائما إلى إضعاف الكيان المسلم وأدخله في دوامة من الصراع والتوتر والتناقض. لقد رأى المرحوم الشهيد سيد قطب، بأن لا جدوى من أن نضع ضميمة "المتحضر" في ذيل عنوان كتابه "نحو مجتمع إسلامي". فإسلامي في نظره كافية ومتضمنة لمفهوم متحضر.إن صدق هذه الدعوى الشاعري، يصطدم بالحقائق التاريخية. وقد أظهر لنا "طالبان" ودولتها القائمة على فكرة الحاكمية الإسلامية في صيغتها القطبية إلى حد ما، كيف أنهم قدموا أسوأ نموذج لدولة الإسلام المعاصرة. ذلك لأنهم كانوا يتصرفون برسم الإسلام المبرئ للذمة الفردية فيما ينبغي التصرف فيه برسم الإسلام المبرئ للذمة الجماعية المتحضرة الحاملة لمشروع نهضوي. ولذا لزم التفريق بين المعنيين. إن الذي يضفي الصبغة الحضارية على التعاليم الإسلامية، هو كيفية تعاطي المتلقي معها. وإن الذي يساهم في استمرار نمط من أنماط التعاطي مع هذه التعاليم، هو المجتمع أو المتلقي؛ فلابد إذن من استحضار مفهوم سوسيولوجيا التلقي فيما نحن بصدده.
الموقف من الفكر الإسلامي المعاصر
وإن كنا قد حددنا الإطار العام لمشكلات الفكر الإسلامي المعاصرفيما سبق ذكره ، فإننا نخصه هنا بمزيد من النقد. إذ لا بد من القول بأن تخصيص الفكر الإسلامي المعاصر هنا، لا يعني أن ما اشتغل عليه بعض الباحثين في دائرة الفكر العربي المعاصر هو خارج هذا الاختصاص. وذلك إيمانا منا، بأن الانتماء إلى الفكر الإسلامي، ليس بالضرورة أن يكون بالالتزام، بل من الممكن أن يكون بالاشتغال. وما لمسناه من الأطاريح الأيديولوجية العربية هو من ذلك القبيل. ولذا تعين أخذه بعين الاعتبار، من حيث هو شكل من أشكال المساهمة في الفكر الإسلامي. إننا نعني بذلك التخصيص، مجمل ما يشكل الخطاب الإسلامي المعاصر.
يتحدد موقف أطروحة التبني الحضاري والتغيير الجذري من عموم الفكر الإسلامي المعاصر في رفض حالة الجمود والدوران في حلقة مفرغة في مقاربات هذا الأخير للمشكل العربي والإسلامي. إنه لازال غارقا في سبات النمط المعرفي الذي تعرضنا له سابقا، وإن ما يبدو تجديدا في هذا المجال، لم يبلغ بعد مستوى النقاش الحر الضروري والسابق لعملية البحث عن الحلول. إنه فكر قد أبرز مهارة منقطعة النظير في رفض ما أسماه بالحلول المستوردة. غير أنه لا يزال مصرا على إنتاج حلول مستنفذة. ويبدو أنه عاجز حتى الآن عن تحقيق ثورته الحقيقية على مستوى النمط المعرفي. ولذلك لن يفيده كثرة التمسك بشعارات التبني الحضاري السطحي غير المستند إلى إستراتيجيات التغيير الجذري. وبما أن التجديد لم يصل إلى كيفية التعاطي مع الأزمة وإلى آليات التحليل وطبيعة المفاهيم وسياسة العلاقة المعقدة بين الفعل الواعي للإرادة والفعل اللاواعي للنسق، فإن كل هذه المراكمة ستكون عبارة عن أصفار على الشمال من شأنها أن تغذي هذا السبات الذي يهرب العقول بعيدا عن التفاعل الإيجابي مع متغيرات العصر والصيرورة الطبيعية للسؤال الكيفي. علما أن التراكم سيكون مقدمة ضرورية في صيرورة استملاك دينامية البنى، فقط حينما يكون تراكما كميا مشفوعا ب "الكيف". وهذا ما نسميه بحكومة الكيف على الكم في صيرورة الفعل النهضوي. هذا السبات على النمط المعرفي المستنفذ، فضلا عن كونه موقفا غير تاريخي، هو ظاهر في انسداداته كما تعكسها ثقافة الشروح والحواشي المتكاثرة أو ملهيات إعادة إنتاج المفارقات والتكرار الإنشائي وملأ الفراغ بفضلات التفكير السطحي. إلا أن هذا لا يعني البتة، أن لا وجود داخل هذا التراكم الإنشائي، لعينات من المقاربات والأفكار التي تحاول تعميق السؤال، ويزعجها هذا التكلس الخطير لهذا الفكر. و هذه العينات الناذرة نذرة الكبريت الأحمر وسط هذا الركام الإنشائي المهول، هي المعول عليها في فعل المراكمة النوعية التي تجعل الكيف حاكما على الكم؛ التراكم الضروري والموضوعي لتفعيل النسق. إننا في أطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري، نعتقد أن الفكر الإسلامي المعاصر، متأخر عن عمق الأسئلة المطروحة على صعيد الفكر العربي المعاصر الذي يشارك فيه مثقفون من مشارب عديدة، وأن الفكر الإسلامي المعاصر، إنما يستقوي على هذا الفكر ليس بعمق أسئلة ولا بمغامراته في الاستشكال، بقدر ما يستقوي عليه بعمقه الاجتماعي وقدرته على رفع إيقاع الممانعة والتعبئة. ولكننا نضيف أيضا، إلى أن هذا الفكر في نهاية المطاف، هو المعول عليه في إحداث التغيير. وبأن أي فكر يتحرك خارج هذا التموج الاجتماعي ولا يتحرك في دائرة الفكر الإسلامي، سيكون مجرد فكر، مهما بلغت رياضته النظرية معزولا بشكل طبيعي، لأن أسئلته مغشوشة وغير نهضوية بقدر ما هي عمائية أو لا تتحرك في إطار مشروع ، سيكون فكرا خارج دائرة التبني الحضاري المطلوب والتغيير الجذري الممكن. فمهما بدا لنا من أزمات في هذا الفكر، إلا أنه الفكر الذي لا يمكن تجاوزه أو نشدان التغيير والإصلاح خارجه، لأنه يستمد مصداقية وجوده من عمق تراثه الرمزي. على أن هذا التراث الرمزي أو على حد تعبير بورديو: الرأسمال الرمزي ليس بديلا عن الرأسمال المادي، متى ما افتقدت الشعوب لهذا الرأسمال أو عجزت عن تحقيقه. بل إننا نعتقد في هذه الأطروحة، إن الرأسمال الرمزي لا قيمة له إطلاقا إذا لم يستملك ديناميته ويتحرك في طول مسارات البحث عن لحظة تخارجه التاريخي. أي إنه لا قيمة للرأسمال الرمزي إذا لم يحقق الرأسمال المادي بوصفه قوة ممانعته وعنصر استمراريته. من هنا فأطروحة التبني الحضاري والتغيير الجذري تنظر إلى الرأسماليين، بمنظار جدلي متكامل، حيث الرأسمال الرمزي يحرز الرأسمال المادي، وبأن الرأسمال المادي من شأنه أن يعيد إنتاج الرأسمال الرمزي على أشكال متطورة من صور التكييفانية الخلاقة للرأسمال الرمزي؛ وهو شرط حيويته وتطوره.
تقف أطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري موقفا سلبيا من تلك الأطاريح الإسلامية التي تلتف حول الأزمة بتصعيد هجاس الممانعة الهوجاء أو الاستخدام السطحي لمفهومات التبني الحضاري إلى حد الإنزلاق في سراديب اللامعنى، على خلفية التبني المغشوش السياسوي. فأما الأولى، فقد بدا عوارها يوم إدركنا أن تصعيد هجاس الرفض غير المستند إلى مشروع رؤية حضارية أو فكر خلاق، هو مجرد تعميق للأزمة. أما الموقف المغشوش الذي يرى إلى خياراته بوصفها مواجهة حضارية أو بديل حضاري، دون أن يكون قد استنفذ النظر في عمق السؤال الحضاري،أو فتح ورشا للنقاش الحر حول تفاصيله ومضامينه، إنما فضلا عن كونه يجرف الوعي الإسلامي إلى أسئلة مغشوشة ويساهم في تمييع عناوين الفعل النهضوي، فهو يزيد في إقامة الأسس المغشوشة والهشة لقيام مشاريع عاجزة ومغالطة، تنصب فخاخا للفكر الإسلامي وتقوم بحجب نقاط الاستفهام الحقيقية، تحت طائلة التصعيد التعبوي برسم الممانعة الهوجاء.
هكذا تقف أطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري موقفا سلبيا من الأطاريح التي ترتكز على فكرة المؤامرة بلا شرط أو قيد أو تلك التي تتوسل بآليات التلفيق ورد الشبهات وقمع السؤال واختزال الأزمة في عناوين مغشوشة أو استعجال الحلول أو إطلاق العنان للاستعمال الأهوج للمفاهيم أو التقمصات والإسقاطات التي تجعل أصحاب هذا الخطاب يقعون في ازدواجية الخطاب، أو أن يتبنوا كل آراء مشاريع خصومهم الإيديولوجيين أو السياسيين والهروب إلى الأمام، كما لو أنهم لا خلاف لديهم حول القضايا الكبرى التي تطرحها الحداثة، أو تهريب أسئلة "المراجعة" الجذرية في آفاقها المعرفية إلى فضاءات تمسرحها السياسوي، أو تعطيل فاعلية العقل باستفحال آفة المجمودية على فكر المؤامرة. نعم، إن مقتضى الوسطية، أن تقارب الأشياء في سياق تجادل الداخل والخارج. فأطروحتنا ترى إلى المشكل العربي والإسلامي بهذا المنظور الذي يأخذ بعين الاعتبار، أننا أصبحنا نعيش ضمن نسق علائقي دولي؛ قسم منه بارز وقسم آخر منه، وهو الأكبر، خفي. واليوم، نحن نعيش لحظة حاسمة على صعيد الانتقال إلى عصر الثورة المعرفية والعولمة ومزيد من تداخل وتقاطع المصالح. إن مشكلتنا لم تعد ذاتية داخلية، بل هي اليوم مركب من عوامل ذاتية وأخرى موضوعية. وأطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري، ترى إلى هذه المشكلة على أساس أنها ثمرة لتربص البرانية واستفحال الجوانية. فالمؤامرة حق، لكن علينا أن نفهم المؤامرة في سياق تفاعل الإرادات وضمن أواليات اشتغال العلاقات الدولية. ولذا، إذا استوعبنا أن المؤامرة هي نفسها تتسرب عبر مسام جسد منهار لا يتمتع بما يكفي من الحصانة، فما علينا إلا أن ندرك بأن المؤامرة هي مظهر من مظاهر اللعبة في عالم تتصيد فيه الأقطاب الكبرى الحد الأقصى من المصالح الممكنة. فالمطلوب منا، استيعاب أننا نوجد على أرضية واسعة من لعبة الأمم. وبأن الاستسلام لما تسميه بالمؤامرة غير مبرر وبأن الحديث عن المؤامرة بلغة أخلاقوية مجردة لن يجدي نفعا. فالمطلوب، المناورة في قلب هذه المؤامرة، ليس بوصفها ملحمة ماسونية محض، بل بوصفها محصلة تزاحم المصالح والأطماع، قد تستغل فيه كل أشكال الأيديولوجيات والأديان والثقافات، فالكيانات الإجتماعية لا تعبر عن مصالحها بلغة الأرقام الجامدة المجردة ، بل إنها تعبر عنها بطيف هائل من الرموز الثقافية . فبما أننا لا نملك زمام نمونا ولا نتحكم في قوانينه في زحمة تناقض المصالح الكبرى ، فليس أمامنا إلا أن نصعد خيار المناورة إلى أقصاه ، داخليا وخارجيا، لتمكين أنفسنا من إمكانات التقدم والنمو والنهضة. فهذه لم تعد حقوقا تؤخذ بالمجان ولا حتى تنتزع بالقوة، بل هي حقوق تنتزع بالمرونة والمناورة والمغامرة.إن النهضة والتنمية اليوم هي رهان الشعوب والأمم الأكثر قدرة على المناورة ( التنمية = مناورة).
هذه بعض ملامح الإطار المعرفي الذي تتحرك في ضوئه جل المقاربات التي يتضمنها هذا الكتاب، إنه عبارة عن أسئلة متعددة هي اليوم محل بلوى الفكر الإسلامي المعاصر. نحاول من خلال ذلك المساهمة في رفع إيقاع الفكر الإسلامي المعاصر لاكتساب شجاعة أكبر في نقد الذات ومراجعتها. كتبت قبل أكثر من عقد من الزمان، عن أن الفكر الإسلامي يجب أن يتحلى بالشجاعة في نقد الذات ونقد الآخر. ولازلت أرى أن أغلب الأطاريح الإسلامية تسعى إلى تجنب السؤال ، وتفجر عنترياتها في كل شيء إلا في نقدها الذاتي أو مراجعاتها. على أن جل المراجعات وما يبدو نقدا ذاتيا حتى الآن ، ما هو إلا إعادة انتشار لجوهر الأزمة، طالما أن التجديد لم يكن جذريا بالقدر الذي يتجه بالسؤال إلى صلب الإطار المعرفي للمفاهيم. وهكذا نظفر بحالة من الكر والفر، التي تستند إلى ذات الأطر والمعايير وهو ما يعني أن التجديد في هذه الحالة ليس سوى خدعة ومخاتلة يمارسها الفكر الفلاني لحماية نفسه ،درءا للإنقراض و طلبا للاستمرارية والبقاء.
فالتجديد الجذري ينهض على أرضية نقدية صلبة، تستهدف النمط المعرفي والبداهات المغشوشة الطارئة على الفكر طروا خادعا. إن أطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري تؤمن بالاستيعاب والتجاوز. غير أن لا تجاوز من دون نقد،كما لا نقد بدون علم. ومقتضى هذا المعيار، أن الدعوة إلى التجاوز يتعين أن تسبقها دعوة إلى الاستيعاب. فما لم يستوعب الفكر الإسلامي بشتى مراحل عطائه وفنونه وعلومه وصناعاته، وما لم نستوعب الفكر الحديث الذي نحن جزء منه شئنا أم أبينا، فلن يكون ثمة أي جدوى للحديث عن التجاوز.
إن الوتيرة النقدية المطلوبة، تتحدد بالظروف التي تحكم حركة الفكر، وبالشروط الموضوعية التي ينطلق منها الفكر. ومقتضى هذا المعيار، أن على وتيرة النقد، أن تكون من النفاذ والعمق والدينامية، ما يفوق الوضع المعاش. وهذا ما يعني أن مقتضى ما تتطلبه الوتيرة النقدية، هو التحرك في اتجاه إحداث ثورة نقدية. ولا يخفى ذلك الشرط الرئيس في العمل النقدي؛ أي تحرر الذات الناقدة قدر الوسع، حيث لا نقد من دون تحرر من الوصاية. القدر الكافي من التحرر لرؤية الأشياء كما هي، وبالتالي الشجاعة للتعبير عنها كما هي. ولا يخفى أن شرف العلم هو بموضوعه أو أدلته المعتمدة أو مقاصده. والنقد يتجه إلى هذا الثالوث الإبستيمولوجي؛ أي مرجعية الفكر وأدواته ومقاصده. وتقوم العملية النقدية المسندة لأطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري على توسيع اشتغال قاعدة تحرير محل النزاع، فلا وجود لمفهوم غدا من بديهيات الفكر الإسلامي المعاصر حتى نخضعه للبحث والنظر والتحليل، فلا وجود لمفهوم أو فكرة خارج سلطة تحرير محل النزاع. فالمفاهيم مكتسبة غير معطاة. وهي بالتالي متطورة غير ثابتة. وعليها أن تسند وتستند إلى التطور والتجدد. ولا قيمة للمفهوم إذا لم يكن منتجا. فأطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري، تؤمن باقتصاد العلم وباقتصاد المفهوم وباقتصاد القيمة. فالمفهوم يتغير ويتطور بإعادة إنتاجه وفق شروط ومعايير جديدة. بمعنى آخر، إن المفاهيم لا تموت، بل تنشأ وتتطور، إنها على غرار قاعدة "لافوازية" الفيزيائية: لا شيء يضيع ولا شيء يربح ، بل الكل يتحول. وهذا ما يجعلنا نقف على ذاكرة المفهوم في أقدر الآراء والنظريات.
بعد ذلك ندرك أننا استطعنا تحقيق القطيعة النظرية مع النمط المعرفي الذي جعل بعض الأعمال في الفكر الإسلامي المعاصر تتحول إلى "روائع" لا تكاد تفارق هذا الخطاب، وفي طليعتها " الفكر الإسلامي وصلته بالاستعمار " للبهي ،أو " جاهلية القرن العشرين" لمحمد قطب .. كما قطعنا نظريا مع صيغة السؤال الأرسلاني: "لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم" والذي ارتد إلى مشروع سؤال في كتاب للشيخ القرضاوي ، تحت عنوان :"أين الخلل" . إننا ندرك أن سبب هذا الانسداد هو عدم الالتفات إلى شقاوة النمط المعرفي الذي خيم على الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر؛ ونحن من خلال أطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري
ننشد التحول بهذا الفكر إلى فضاء آخر، ومعانقة نمط معرفي جديد، وحده مفتاح الخروج من هذا المنغلق ووحده المثقاب لخرم هذا الانسداد التعيس!
[email protected] mailto:[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.