لم يكن النجاح اللافت الذي حققته لائحة الإصلاح والتغيير، المدعومة من قبل حركة المقاومة الإسلامية حماس، في الجولة الرابعة والأخيرة من الانتخابات البلدية والمحلية في فلسطينالمحتلة، بالهين الوقع على قادة الكيان الصهيوني الذين سارعوا إلى دق ناقوس الخطر إثر المخاوف والتوجسات التي بدأت تراودهم بشأن ما ستؤول إليه نتائج الانتخابات التشريعية القادمة؛ حتى أن وزير العدوان الصهيوني شاؤول موفاز لم يتردد في التصريح بأن فوز حماس، إذا ما تحقق، سيعيد المنطقة بزعمه 50 سنة إلى الوراء؛ بمعنى أن الكيان الغاصب سيجد نفسه أمام تحدي معاودة استجماع كل أسباب البقاء، التي ظن واهما بأنه قد أمنها ونجح في إعادة تدبيج الذاكرة التاريخية للمنطقة بما يفيد القبول بأباطيله والتسليم بأغرب أساطيره. فأخشى ما يخشاه الصهاينة الغاصبون هو أن يواجهوا مجددا بسؤال شرعية الوجود من لدن حركة جماهرية قوية ومتماسكة، نجحت في أن تعيد للشعب الفلسطيني المستضعف ثقته بخيار المقاومة سبيلا وحيدا لاسترداد ما سلبوه من حقوق بدل اللهاث وراء سراب مفاوضات التسوية الخائبة، ومن تم أحيت في القضية بعديها العربي والإسلامي. شبح الخوف من وصول حماس إلى مواقع السلطة لم يقض مضاجع الصهاينة فقط، وإنما أزعج أيضا حلفاءهم وأولياء نعمتهم الأمريكان الذين لم يستطيعوا مداراة امتعاضهم الشديد من الفوز الكاسح الذي حققته حماس في الانتخابات المذكورة على بعد أربعين يوما من الموعد المقرر سلفا لإجراء الاقتراع التشريعي الذي بدؤوا يتحسسون محصلته استنادا إلى المؤشرات التي استخلصوها من نتائج الجولات الأربع لاستحقاق المجالس البلدية والمحلية، وحتى على مستوى التمثيليات الطلابية والتي شهدت جميعها أداء متميزا للوائح المقربة من حماس. ولعل هذا ما استفز أعضاء مجلس النواب الأمريكي، وأفقدهم صوابهم إلى الحد جعلهم يخرجون عن التقاليد الديمقراطية، التي ما فتؤوا يتبجحون بها، ليطلقوا تهديدهم بمنع المساعدات عن السلطة الفلسطينية إذا ما سمحت لحماس بالمشاركة في الانتخابات التشريعية المنتظر إجراؤها في الخامس والعشرين من شهر يناير القادم. صدمة الصهاينة وحلفائهم الأمريكان لم تأت من فراغ، وإنما هي محصلة تبخر كل الأوهام التي علقوها على إطالة أمد التهدئة الهشة التي أتمت شهرها التاسع بالتمام والكمال من دون أن يفي العدو الصهيوني بمعظم التزاماته، بل على العكس من ذلك فقد تمادى في في خرق التهدئة من جانب واحد مستأنفا سياسة الاغتيالات التي تستهدف كوادر المقاومة، كما عاوده الحنين إلى جرائم مداهمة البيوت وشن حملات الاعتقال... كما لجأ العدو الصهيوني إلى استفزاز حركة حماس بغية حملها على شق الإجماع الوطني بشأن الاتفاق الحاصل حول موضوع التهدئة، وذلك من خلال اغتيال بعض كوادرها العسكريين أو اعتقال بعض قيادييها البارزين كما حصل مع الشيخ حسن يوسف والشيخ محمد غزال...أساليب ماكرة وحيل خبيثة لم تنطل على مجاهدي حماس ولا أفلحت في ثنيهم عن المضي قدما في اتجاه وحدة الشعب الفلسطيني بفصائله المقاومة، ولا جعلتهم ينكصون عن مبدئهم الثابت القاضي بتحريم الدم الفلسطيني... غير أن ما أفزع الصهاينة أكثر، ومعهم الأمريكان، هو أن الاكتساح الانتخابي الذي وقعت عليه حماس هذه المرة كان ميدانه مدن كبرى ظلت حتى وقت قريب تشكل قلاعا حصينة لحزب السلطة؛ كما أن الأمر يتعلق بمدن الضفة الغربية التي خطط شارون وحكومته لتطويقها بالمستوطنات الصهيونية، إضافة إلى خنقها بالجدار العنصري العازل، بغية جعل الانسحاب الشامل منها يندرج في دائرة الاستحالة؛ وبالتالي فنتيجة الانتخابات أدخلت الرعب في قلوب قادة الصهاينة الذين أيقنوا بأن جذوة الانتفاضة والمقاومة لن تنطفئ في تلك الربوع، فجنين التي سبق وأن استباحها الصهاينة وعاثوا فيها فسادا هي نفسها التي صوتت بكثافة لصالح حماس، مؤكدة مرة أخرى استعصاءها على جميع محاولات الإخضاع والإذلال ، والشيء ذاته ينطبق على نابلس والبيرة الصامدتين. وحتى رام الله التي لم تمنح حما سوى ثلاثة مقاعد، فإن الأغلبية في مجلسها البلدي آلت إلى اللوائح الداعمة لخيار المقاومة. وفي حقيقة الأمر، ليس فوز حماس الذي أقض مضاجع الصهاينة وأزعج حلفاءهم الأمريكان، وإنما توجه الشعب الفلسطيني الذي يميل بأغلبيته الساحقة لتبني خيار المقاومة؛ كما أن نجاح حماس الحقيقي هو ما نلمسه على أرض الواقع من استعادة قضية الأمة المركزية لهويتها الإسلامية، وهيمنة الأدبيات الجهادية التي تأبى على معتنقيها التفريط في أي حق من حقوقهم الثابتة أو المساومة عل أي شبر من أرض الرباط المقدس.