لم يدر بخلد الإرهابي شارون أنه سيجلب الويلات على كيانه الغاصب وسيفتح عليه أبواب الجحيم عندما أقدم، في الثامن والعشرين من شهر سبتمبر عام ,2000 على تدنيس المسجد الأقصى المبارك في مشهد استفزازي لمليار وربع مليون مسلم، وفي منعة من مئات الجنود الصهاينة الذين وضعتهم رهن إشارته حكومة إيهود باراك بتواطؤ مكشوف؛ حيث لم يخطر ببال هذا الوحش المتعطش لسفك الدماء البريئة أن فعلته النكراء ستفجر غضب ملايين المسلمين في مختلف ربوع العالم، بل وستكون سبب اندلاع الانتفاضة في نسختها الثانية. الانتفاضة التي أوهم هذا الصهيوني المتعجرف نفسه، وشذاذ الآفاق من بني قومه، أنه سيقضي عليها في ظرف مائة يوم ليس إلا. وهاهي اليوم تدخل عامها السادس وقد اشتد عودها وقويت شكيمتها حتى باتت عصية على الوأد بعد أن أثمرت أولى نجاحاتها في درب الانعتاق والتحرير بدحرها للعدو الصهيوني من قطاع غزة. بداية سقوط المشروع الصهيوني من كان يظن بأن الجنرال شارون سيأتي عليه يوم يضطر فيه للانسحاب من أرض كانت تعد بحسب الأدبيات الصهيونية جزء لا يتجزأ مما يسمى إسرائيل ؟ من كان يتوقع بأن الأب الروحي للمشروع الاستيطاني والذي كان يرفض التخلي عن أي مستوطنة تحت أي ذريعة سيقدم راغما على تفكيكها ومن ثم إزالتها؟ لقد سئل مرة: هل ستكون مستعدا، في إطار اتفاق عدم اعتداء، لأن تخلي مستوطنات؟ فلم يتردد في الإجابة بقوله: لا، ولا بأي شكل من الأشكال.. لا، ولا بأي ثمن (1). شارون الذي سبق وأن اعتبر المستوطنات في قطاع غزة ذات أهمية صهيونية (2) ووجودها يشكل دعامة أساسا للأمن الاستراتيجي الإسرائيلي؛ حيث كان يرى في كفار داروم مستوطنة أقيمت سنة ,1946 وهي التي صمدت وأعاقت تقدم الجيش المصري طوال عدة أيام حرجة سنة ,1948 مع أن مساحة موقعها بكامله كانت 100في100 متر. إذا، من أجل ماذا يجب إخلاؤها؟ (3). أكثر من ذلك فقد حرص على التأكيد بأن لنتساريم أهمية استراتيجية. فهي بنيت كجزء من المفهوم الداعي إلى إيجاد منطقة عازلة بين خان يونس وغزة، وإلى تمكيننا من الوصول من الخط الأخضر إلى شاطئ البحر. ونتساريم ستمكننا والكلام دائما لشارون في المستقبل من التأكد من عدم إفراغ أسلحة ثقيلة في ميناء غزة؛ إذ ليس مصادفة أن ميناء غزة يقع بالقرب منها. ولذلك، فإن لنتساريم أهمية كبيرة. إنها حيوية(4). شارون الذي أعيد انتخابه رئيسا لوزراء الكيان الصهيوني في فبراير 2003على قاعدة الرفض القاطع لإخلاء مستوطنات قطاع غزة، وتصعيد حملات العدوان على الشعب الفلسطيني، تحت مسمى ضرب البنى التحتية للإرهاب، وباستعمال شتى الأساليب القذرة بما في ذلك اعتماد سياسة العقاب الجماعي القائمة على هدم البيوت واقتلاع الأشجار وتجريف الحقول... وحتى تسميم رؤوس المواشي بهدف النيل من صمود هذا الشعب المرابط، ناهيك عن تأجيج حرب الاغتيالات التي ظلت تتربص بالعناصر القيادية على اختلاف تلاوينها الفكرية والسياسية...؛ كل هذا السعار الصهيوني لم يفلح في إخماد جذوة الانتفاضة المباركة. بل على العكس من ذلك تماما، فقد أسهم في تأجيجها وتصليب موقفها، وبالتالي تحويلها من مجرد ردة فعل محكومة بظروف زمانية ومكانية محددة إلى حالة شعبية عارمة لا تزيد مع مرور الوقت إلا تجذرا ورسوخا. بل لقد كان لصمود انتفاضة الأقصى البطولي في وجه شراسة الهجمات الصهيونية التي لا تكاد تبقى ولا تذر، واستعصاءها على مؤامرات الوأد والإجهاض التي لم ييأس الأعداء في حبكها بمعية عملائهم في الداخل وبتواطؤ مع من أشربوا في قلوبهم ثقافة الخنوع والخضوع واستأنست نفوسهم بمشاعر الهزيمة والاستسلام. بيد أن أهم إنجازات الانتفاضة الثانية، وهي تكمل عامها الخامس، هو نجاحها في إعادة طرح سؤال الوجود بالنسبة للكيان الصهيوني والذي بدأت الإجابة عنه تؤرق قادة ومفكري الكيان الغاصب، حتى قبل الاندحار من قطاع غزة الذي لم يزد هذه المخاوف والتوجسات إلا ازديادا، خاصة من جهة اعتباره بداية السقوط الفعلي للمشروع الصهيوني القائم على حلم إنشاء دولة إسرائيل الكبرى الذي ظل يراود اليهود المتدينين والعلمانيين على حد سواء، قبل أن تحوله الانتفاضة إلى مجرد سراب. وهنا لابد من التذكير بنجاح الانتفاضة في أن تصيب الاقتصاد الصهيوني في مقتل، حيث شهد في السنوات الأخيرة أضعف معدلات النمو ناهيك عن العجز المزمن في الميزان التجاري واستمرار تفاقم معضلة التضخم، مع ما تلى ذلك من تنامي مخاطر الاستثمار في ضوء هذه الوضعية الاقتصادية الغير مستقرة، والتي أسهمت في هروب رؤوس الأموال وشجعت بدورها تنامي الهجرة المضادة. وخير شاهد على ما نقول هو قطاع السياحة الصهيوني الذي أصيب بحالة شلل تكاد تكون تامة. إعادة الاعتبار لخيار المقاومة لقد جاءت انتفاضة الأقصى لتعيد الاعتبار لخيار المقاومة بعد سنوات أسلو العجاف والتي عكست بالفعل الخيبة الكبرى التي منيت بها المراهنات على المسار التفاوضي مع كيان غاصب لم يعرف عنه إلا نقض العهود والإخلال بالالتزامات التي اعتا د أن يقطعها على نفسه. وهكذا رأينا كيف استطاعت المقاومة الفلسطينية أن توجه ضربات موجعة للكيان الصهيوني على قاعدة استراتيجية قوامها تحقيق توازن الرعب، بحيث لا يبقى المستضعفون وحدهم من يؤدي فاتورة الاحتلال وإنما جاء الدور على الصهاينة لكي يألمون كما يألم الشعب الفلسطيني. وهذا ما نجحت المقاومة في تحقيقه إلى حد بعيد. كما أن التطور النوعي لأداء المقاومة والذي ترجمته دخول الصواريخ المحلية الصنع على خطر المواجهة، وعمليات الأنفاق التي زلزلت الأرض من تحت أقدام الجيش الذي زعم ذات يوم بأنه لا يقهر... إضافة إلى تفاقم الخسائر البشرية والمادية التي مني بها الصهاينة، كلها عوامل فرضت معادلة جديدة على أرض الميدان عجلت بالاندحار الصهيوني من قطاع غزة، وجعلت حلم قيام الدولة الفلسطينية المستقلة أقرب إلى التحقق من أي وقت مضى. الانتفاضة تعيد توحيد الشعب الفلسطيني لا يكاد يجادل أحد في كون انتفاضة الأقصى كان لها الدور الأبرز في إعادة اللحمة إلى الشعب الفلسطيني، بعد أن مزقته المواقف المتضاربة من سرداب أوسلو السيء الذكر. هذه الوحدة لم تنحصر في الإجماع على تبني خيار المقاومة، وإنما تعدت ذلك إلى توافق حول المنطلقات المؤطرة لهذا الخيار. وهذا ما تجلى عمليا في الأدبيات التي بدت مهيمنة على ساحة الفعل المقاوم، ونعني بذلك الأدبيات الإسلامية التي جعلتنا لا نكاد نفرق بين مجاهدي فصائل المقاومة الفلسطينية بمن فيهم فدائيو الجبهتين الشعبية والديمقراطية المعروفتين بخلفيتهما اليسارية. بروز الوجه الوحدوي للمقاومة عكسته أيضا العمليات المشتركة النوعية التي أفلحت في إرباك حسابات العدو الصهيوني التي ظلت تراهن على إحداث شروخ عميقة بين الفصائل المتنافسة في الساحة الفلسطينية وخاصة حماس وفتح. بل تطور مستوى التنسيق إلى حد تبادل الخبرات العسكرية كما كان الشأن في تعميم تجربة صناعة صواريخ محلية وتطوير قدراتها التدميرية. هذا على صعيد المقاومة المسلحة، أما على الصعيد السياسي، فقد نجحت الانتفاضة في توفير الأرضية المواتية لبلورة عمل وحدوي تجلى في لجان المتابعة الوطنية والإسلامية، وفي التوافق على مبدإ حرمة الدم الفلسطيني وتجريم الاقتتال الداخلي. غير أن أبرز تجليات هذا العمل الوحدوي قد تمثلت في الاتفاق التاريخي الذي احتضنته القاهرة منتصف شهر مارس الماضي الذي نص على ضرورة تفعيل وتطوير منظمة التحرير الفلسطينية وفق أسس يتم التراضي بشأنها مما يمكن من انضمام جميع القوى والفصائل إليها، وبخاصة حماس والجهاد الإسلامي، حتى تستأهل حقيقة صفة الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. تحصين سلاح المقاومة بالمشاركة السياسية: لم تكن الموافقة على الانضمام إلى منظمة التحرير الفلسطينية التحول الاستراتيجي الوحيد في مسار حركة المقاومة الإسلامية حماس، وإنما أيضا انخراطها في المشاركة السياسية، من دون حاجة إلى الاستظلال بسقف أوسلو المنهار أصلا. وقد كان للنجاح الباهر الذي حققته حماس في الجولات الأولى للانتخابات البلدية الأثر البالغ في إعادة ترسيم الخريطة السياسية الفلسطينية وفق المعطيات الجديدة التي منحت تقدما لافتا لحماس على حساب حركة الفتح التي تمثل، بشكل أو بآخر، حزب السلطة. والأكثر من ذلك أن القوائم الإسلامية نجحت في اكتساح المناطق الأكثر تضررا من الاحتياجات الصهيونية خلاف ما كان يتوقعه البعض من أهالي هذه المناطق سيقومون بتصويت عقابي لحماس. هذا الالتفاف الشعبي حول خيار المقاومة جعل العديد من القوى الإقليمية والدولية تغير موقفها من حماس، وتقر بضرورة التفاوض معها باعتبارها رقما مؤثرا في ساحة الفعل الفعل السياسي الفلسطيني. وهو التحول الذي لمسناه في موقف الاتحاد الأوروبي. الذي سبق وأدرج الحركة على قائمة المنظمات الإرهابية، حيث لم يتردد في الإعلان وجد اتصالات بينه وبين الحركة. وحتى الأمريكان حاولوا بدورهم القيام باتصالات وإن بطرق ملتوية حفظا لماء الوجه. بل إن أصواتا كثيرة قد بدأت تتعالى داخل الكيان الصهيوني مطالبة بضرورة التفاوض مع حماس، وهذا ما يفسر الوساطات الأوروبية السرية التي تمت مؤخرا بهدف إقناع حماس بقبول الدخول في مفاوضات مباشرة مع الصهاينة دون أن تككل بنجاح، الأمر الذي أكده مؤخرا الأستاذ إسماعيل هنية. كما أن قرار حماس خوض غمار الانتخابات التشريعية قد أربك حسابات الصهاينة وزاد من مخاوفهم علما بأن المؤشرات تعطي الحركة إمكانية الفوز في الاستحقاق القادم وبنسبة كبيرة. وبالتالي فإن أي محاولة لإقصاء حماس من المشاركة سيفقد المجلس التشريعي القادم مشروعية التمثيل الحقيقي للشعب الفلسطيني. لقد فطنت حماس إلى مطب كثيرا ما سقطت فيه حركات المقاومة حين أهملت النضال على الواجهة السياسية فتحولت بذلك إلى جسر يعبر عليه الوصوليون والانتهازيون. كما أن قرار المشاركة هذا مكن سلاح المقاومة من اكتساب حصانة أكبر ومنعة أقوى في وجه المتربصين به والداعين إلى نزعة بدعوى انتهاء الحاجة إليه. خاصة وأن حمايته ستكتسب عمقا شعبيا وتأخذ بعدا ديمقراطيا يصعب تجاوزهما. عندما يخص شارون الفلسطينيين بالتقدير والاحترام. لا يمكن إلا النظر بعين التقدير لاستعداد الفلسطينيين للمواجهة، إنك ترى عندهم استعدادا للمواجهة، هذا لا يعني أنني أحب ذلك، لكن لا يمكنني إلا أن أنظر إلى ذلك باحترام (5) هذا ما أقر به شارون مرغما بد عقود من الاختبار الميداني لعزيمة الشعب الفلسطيني التي لم تزدها المحن والمعاناة إلا رسوخا وثباتا.فشارون يعرف، أكثر من غيره أنه فعل كل ما بوسعه لإطفاء جذوة الانتفاضة دون جدوى.لقد استباح دماء الشعب الفلسطيني وأطلق يد قواته لاقتراف أبشع أنواع الجرائم في حق المواطنين العزل، ورأينا جنوده، وقطعان المستوطنين يعيثون في الأرض فسادا ويتنافسون في سفك الدم الفلسطيني؛ ومع ذلك لم يبلغ مراده بوأد الانتفاضة. وعقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر ,2005 عمدت الإدارة الأمريكية إلى نهج سياسة تجفيف منابع دعم الشعب الفلسطيني متذرعة بمحاربة المؤسسات الداعمة للإرهاب، دون أن يفت ذلك في عضض الشعب الصامد.وبعد احتلال العراق، اشتد الخناق وزاد التضييق على المرابطين في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، وتعددت الطعنات الغادرة وتخلى المناصرون بداعي مراعاة التحولات الدولية، بيد أن واقعية المقاومة الباسلة وقراءتها السليمة للأوضاع والتطورات جعلتها تقف شامخة في وجه كل العواصف العاتية حتى جاء النصر من عند الله وحده، ومن دون مفاوضات ولا تعهدات أو التزامات إلا ما كان من موثق مع مالك الملك بالسير على درب النصر أو الشهادة في سبيل الله. (1صحيفة هآريتس الصهيونية، بتاريخ: 11/4/2001(2) و(3) و(4) و(5) نفس المصدر.