إن الحديث عن الفتوى هو في الحقيقة حديث عن أبرز موجه لحركة المجتمع الإسلامي الذي يسعى أفراده إلى أن تكون تصرفاتهم منسجمة مع هدي الشريعة ولذلك صح للباحثين في مجال التاريخ الاجتماعي للمجتمعات الإسلامية أن يعتمدوا كتب الفتاوى والنوازل الحافلة بنوع من الفقه الحي ومصادر موثقة لتعرف العادات والممارسات الاجتماعية التي كانت تطرح على المفتين لكشف موقف الشريعة منها. إن الإفتاء يعني بالنسبة للإنسان المسلم مشروعية الفعل وإمكانية للإقدام عليه،ولذلك كانت النتائج القيمة تترتب على الفتاوى الصحيحة،كما أن نتائج أخرى وخيمة كانت تترتب على الفتاوى الخاطئة التي يصدرها غير المؤهلين علميا. واعتبارا لخطوة الفتوى وما تمثله من مشروعية الفعل فقد كان منطقيا أن تضبط ضبطا لا يحجر على المفتي المقتدر،وإنما يصون مجالها من أن يخترقه من ليس أهلا له فيسيء به إلى المجتمع. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بإرشاده وإشارته هو الساعي الأول إلى ضبط الفتوى وتعيين المؤهلين لممارستها ممارسة كلية أو جزئية وفق ما لهم من علم بموضوعاتها. فقال عليه السلام: أقضاكم علي،وأفرضكم زيد وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ،وأقرؤكم أبي . وبهذا التمييز النبوي يكون عليه السلام قد حدد جهة الإختصاص التي بإمكانها أن تمارس الإفتاء والقضاء بعد انتهاء مرحلة حياته صلى الله عليه وسلم .وعلى كثرة الصحابة وقدرتهم البيانية على التعامل مع النص الشرعي فإن فئة محدودة منهم هي التي اختصت بالإفتاء على العهد النبوي وهم لا يتجاوزون اثني عشر صحابيا (الفكر السامي للحجوي 1711 ). وبعد الفترة النبوية توسعت دائرة المفتين لكن الذين أثرت عنهم فتاوى لا يتجاوزون مائة ونيفا وثلاثين شخصا (إعلام الموقعين لابن القيم 211)منهم المتوسعون في الفتوى ومنهم المقلون منها،ومع رسوخ الصحابة في العلم وقدرتهم على الإجتهاد فقد كونوا مجموعات استفتائية كانت أشبه ما تكون بمجموعات البحث الأكادمي المعاصر، فكان عمر وعبد الله وزيد بن ثابت يكونون مجموعة واحدة فيستفتي بعضهم من بعض ، وكان علي وأبو موسى الأشعري وأبي بن كعب يكونون مجموعة أخرى فيستفتي بعضهم من بعض (إعلام الموقعين 241) وفيما سوى هذا فقد كان المفتون من الصحابة يراجع بعضهم بعضا، فكان عمر دائم الإستفتاء لعلي،وكان يتعوذ من معضلة لا أبا حسن لها. وكان علماء الصحابة يرجعون إلى عائشة يستفتونها في الفرائض (إعلام الموقعين 261) وكان معاوية كثيرا ما يسأل عليا في قضايا فقهية عديدة فكان يجيبه عنها رغم ما كان بينهما (التراتيب الإدارية عبد الحي الكتاني 3662) وخلال فترة الصحابة تأسست مؤسسة الفتوى الجماعية فكان الخلفاء إذا عرضت لهم قضايا كبيرة تداولوا أمرها وخرجوا من ذلك بموقف اتفاقي، وقد تكرر هذا في نوازل منها: دفن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتوريث الجدة،وإلحاق المجوس بأهل الكتاب في أخذ الجزية. ذكرالرواة عن ميمون بن مهران أن أبا بكر كان إذا وردت عليه النازلة نظر في كتاب الله فإن وجد فيه نصا يقضي به وإلا فإن علم شيئا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به،فإن أعياه خرج فسأل المسلمين وقال: هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء. فإن أعياه جمع رؤوس الناس وخيارهم واستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به وكان عمر يفعل ذلك (تاريخ الخلفاء للسيوطي ص: 44ومقدمة كتاب القضاء للغزي ص:95) ومن خلال هذا النص يتبين أن تأسيس الفتوى الجماعية قد تم على يد أبي بكر الصديق وامتد العمل بها في زمن عمر وقد تكرر في تاريخ المسلمين الحضاري أن يجتمع العلماء في مجالس عديدة يصدرون فيها فتاوى جماعية ثم يوقعون عليها،وقد أورد جمال الدين القاسمي في كتابه عن الفتوى في الإسلام نموذجا من الفتوى الجماعية حررت في القرن السابع ووقع عليها مفتون متعددون (الفتوى في الإسلام لجمال الدين القاسمي 137 ) وعناية بالفتوى ومنعا لما يمكن أن ينجر عن تعاطيها ممن لا يتوفر على شروطها العلمية والأخلاقية من نتائج سلبية فقد سلكت الشريعة مسالك عديدة لمنع غير المؤهلين من التطاول عليها ومن ذلك ورود نصوص عديدة محذرة من اقتحام مجال الإفتاء لغير المؤهل. فقال سفيان بن عيينة :أجرأ الناس على الفتيا أقلهم علما .(أدب المفتي والمستفتي لابن الصلاح ص:87) وقال ابن المنكدر: العالم بين الله وخلقه فلينظر كيف يدخل بينهم (المجموع شرح المهذب للنووي401) وقال مالك : من أجاب فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة والنار وكيف خلاصه. (الفتوى في الإسلام لجمال الدين القاسمي 44) وقد ساق ابن الصلاح وابن القيم رأي مالك في الإفتاء وفيه يقول: ماأفتيت حتى شهد لي سبعون من أهل المدينة أني أهل لذلك، ولا ينبغي لرجل أن يرى نفسه أهلا حتى يسأل من هم أعلم فيه، وما أفتيت حتى سألت ربيعة ويحيى بن سعيد فأمراني بذلك ولو نهياني لانتهيت، وإذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تصعب عليهم المسائل ولا يجيب أحد منهم عن المسألة حتى يأخذ رأي صاحبه مع ما رزقوا من السداد والتوفيق والطهارة، فكيف بنا نحن الذين غطت الذنوب والخطايا قلوبنا .(أدب المفتي والمستفتي لابن الصلاح ص:08-إعلام الموقعين 1784) ومن تحفظات العلماء على تعاطي الفتوى أن اعتبروا من أفتى عن جهل فألحق بفتواه ضررا بالمستفتي ضامنا لما أتلفه وقد استدل ابن القيم على وجوب الضمان بحديث من تطبب ولم يعرف منه طب فهو ضامن (إعلام الموقعين 1854) ونظم الشيخ بهرام المالكي جملة المسائل التي لا يعذر فيها بالجهل فذكر منها إفتاء الجاهل وإلحاقه ضررا (مسائل لا يعذر فيها بالجهل شرح منظومة بهرام ص:64)إن هذه الإشتراطات ليست إلا شيئا يسيرا مما سمح به المجال ،وإلا فإن مبحث الفتوى والاستفتاء يضل موضوعا متميزا من البحث الأصولي والفقهي، وقد كان الحرص من ضبطه نابعا عن رغبة في تجنيب الناس الاستناد إلى فتاوى خاطئة يمكن أن تخلف آثارا سيئة على المجتمع الإسلامي . وبناء على هذا فقد حرصت الأمة الإسلامية على إيلاء خطة الإفتاء ما هي جديرة به من الضبط والعناية، فكان المحتسب يمر بالمسجد ويسأل من يتعاطى الإفتاء والتدريس عن مشيختهم وما لهم من إجازات العلماء فإن وجد منهم من لم يتأهل منعه أو سمح له بالوعظ وبالحديث في الرقائق والأخبار على أن يلقي كلامه واقفا حتى يستبين الناس أنه ليس أهلا للفتوى . وقد أصبح منصب المفتي منصبا معروفا على مستوى الأقطار الإسلامية ،وحينما افتتح محمد الفاتح القسطنطينية وجعلها مركز الدولة لقب مفتي العاصمة بشيخ الإسلام ،منحه اختصاصات واسعة ،وجعل باقي المفتين بالمناطق تابعين له، وقد ظل منصب شيخ الإسلام قائما إلى أن ألغي سنة .1922 وقد أسست كثير من البلاد الإسلامية وعلى مستوى مؤتمر الدول الإسلامية مجمعات فقهية ودور للإفتاء أصبحت تمارس الإفتاء الجماعي، وكل هذه صيغ من ضبط الإفتاء. وقد بحث العلماء موقف المؤهلين للفتوى من الفتاوى التي تصدرها جهات معتمدة،وقد خلص بعض الفقهاء إلى القول بالتزام بالفتوى مع إمكان بيان الموقف المخالف إذا تبين للمخالف قوة حجته (الفتيا ومناهج الإفتاء.د.محمد سلمان الأشقر ص :651( ومهما يكن المر فإن ضبط الإفتاء العام وتحديد جهة تمارسه في ما له طبيعة عمومية يرتب على القائم به واجب الجد في البحث عن الحق والإخلاص في ذلك والنصح في تقديم الفتوى التي تحفظ الحكم الشرعي وتبحث عن الحل الشرعي للمعضلات التي يواجهها المجتمع.