يثار اليوم جدل واسع حول مفهوم الفتوى والجهة المخول لها الاختصاص في إصدارها ناهيك عن علاقتها بالحكم الشرعي وحدود الإلزام فيها وإمكانية قبولها أو طرحها. ولأن الموضوع يحمل طابعا أصوليا، ولأنه كثر الخلط في دلالة مفهوم الفتوى، لاسيما غير المختصين، فقد كان لالتجديد حوار مع الدكتور مولاي عمر بن حماد، أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة المحمدية، يقف من خلاله على مفهوم الفتوى وعلاقتها بالحكم الشرعي، وسمات الفتوى الاجتهادية ومدى إلزاميتها، كما يثير الحوار أسئلة إشكالية من قبيل شكل التعاطي مع فتاوى المجامع الفقهية والفرق بين الفتاوى ذات العلاقة بالمستجدات العامة وبين الفتاوى ذات السمة الفردية، ويتضمن أيضا المبادئ والضوابط التي تحكم عملية الإفتاء. يسود خلط كبير اليوم بين مفهوم الفتوى والحكم الشرعي، في نظركم ما هي سمات الفتوى؟ وما الفرق بينها وبين الحكم الشرعي؟ لا بأس من التذكير بأن الخلط ليس جديدا، بل هو موجود ما وجد الجهل وموجود ما وجد التحامل. ولعل الاحتمال الثاني هو الأقوى في واقعنا، فالذين يعارضون الفتوى يعارضون أيضا الحكم الشرعي. ولذلك فقضيتهم ليست مع الفتوى، أو من أصدر الفتوى او من نشر الفتوى، إنما قضيتهم الأساسية مع المرجعية الإسلامية التي تحكم الفتوى ولذلك، فاغلب المناقشات لا تتجه إلى المناقشة العلمية الشرعية، بل تتجه إلى المقابلة بين الفتوى وبين حقوق الانسان مثلا او بينها وبين القوانين الجاري بها العمل، وفي أحسن الأحوال بينها وبين العقل، وفي مثل هذه الحالات يكون السعي إلى الإقناع بالفرق بين الحكم الشرعي والفتوى نفخ في رماد وصيحة في واد. إذا كانت الفتوى هي رأي اجتهادي غير ملزم حسب تحديد الأصوليين، فهل هي خاصة بالنازلة أم يمكن تعديتها إلى غيرها من النوازل؟ وهل يجوز للمستفتي أن يعرض عن فتوى معينة ويطلب غيرها إذا لم يطمئن إليها؟ نعم الفتوى في حقيقتها رأي اجتهادي غير ملزم، ولكن الحكم يظل ملزما، بمعنى من لم يقتنع بفتوى معينة، فلا بد له من فتوى أخرى يطمئن إليها، أو يرى قوة دليلها أو غير ذلك من مداخل الترجيح، أما هل هي خاصة بالنازلة أم يمكن تعديتها إلى غيرها من النوازل فلا يخلو الأمر إما أن يتعلق بنازلة مطابقة، وفي هذه الحالة لا شك في إمكانية الاستفادة من الفتوى، وإما ان تكون النازلة مخالفة وبعيدة عن الأولى، وهنا ينبغي البحث عن فتوى جديدة لها، وإما ان تكون قريبة فقد تحتاج إلى بعض التعديل او التكييف حتى تصير صالحة للنازلة الجديدة. أما حق المستفتي في البحث عن فتوى اخرى إذا لم يطمئن لفتوى ما فهو حق مضمون؛ لأن الشرع إنما ألزمنا بأن نسأل من هو أعلم منا ولم يعين لنا شخصا بعينه، إذ يبقى من حق الفرد ان يستمر في البحث إلى أن يطمئن، وقد يحصل له ذلك من الوهلة الأولى، وقد يتأكد له صحة الفتوى الأولى إذا رآها تكررت في ما يشبه الاجماع، وقد يجد فتوى أقوى دليلا من الأولى، هذا ما لم يكن الباعث هو البحث عن الرخصة او البحث عن التشديد، وإن كان البحث عن الترخيص هو الشائع، ولعل مثال حديث الذي قتل تسعة وتسعين نفسا يصلح في مثل هذه النازلة، فقد سأل الأول عن التوبة فشدد عليه لأنه أجاب بمقام العابد، ثم سأل الثاني فأجابه جوابه العالم وكان سببا في نجاته ودخوله الجنة... تحاول بعض الجهات أن تجعل الفتوى، بمختلف الموضوعات التي تتناولها جماعية أو فردية، من صلاحية مؤسسة الإفتاء، وانه ليس من حق الفقهاء والعلماء الإفتاء حتى في القضايا الفردية، في نظركم ما هي حدود تدخل العلماء في الفتوى؟ وما هي الموضوعات التي يعود أمر الإفتاء فيها إلى هيئة الإفتاء؟ مثل هذه الجهات لا تفقه من أمر الفتوى شيئا، إذ يستحيل ان تكون الفتوى بمختلف موضوعاتها من صلاحية مؤسسة الإفتاء، لأن الأسئلة لا تنقطع، ومؤسسة الفتوى في أي بلد كانت وفي أي عصر كانت لا يمكنها أن تجيب عن النوازل الفردية، فلا يمكن تصور كم فتوى تصدر في اليوم الواحد وكم من مشارك في الفتوى. وأذكر بالمناسبة ان وزارة الأوقاف كانت قد أحدثت ما سمي الخط الخضر، والذي لا نعلم لماذا توقف وهل سيعود، وكم نرجو عودته، أقول عبر هذا الخط الأخضر وفي المجلس العلمي المحلي لولاية الدارالبيضاء الكبرى حينها وردت عشرات بل مئات الأسئلة، وبالمقابل فقد شهدت بلادنا أحداثا، والفتاوى التي صدرت عنها محدودة ومعدودة، والعلة معلومة، وهي ان القضايا العامة هي التي تحتاج إلى اجتهاد جماعي أو النوازل الجديدة التي لم يتحرر فيها قول فقهي وتتداخل فيها الاختصاصات، ففي مثل هذه الحالة يكون الاجتهاد الجماعي هو الحل الأمثل. تحدث وزير الأوقاف في برنامج حوار عن الفتوى، وتصدى للأفهام التي تحجر على الفتوى وتجعلها من اختصاص هيئة الإفتاء، وميز في ذلك بين النوازل ذات الصفة العامة التي تتطلب رأي مؤسسة الإفتاء، وبين النوازل الأخرى التي يلجأ فيها الناس إلى من يطمئنون إليهم للإفتاء، وتحدث عن سمة الإلزام في الأولى وعدم الإلزام في الثانية، ماذا يمكن ان نفهم من ذلك؟ مضمون جواب وزير الأوقاف هو ما سبق ان عبرت عنه، وأزيد وأقول بأن هذه الجهات تريد افتعال الصراع بين هيئة الإفتاء والعلماء والدعاة من خارج الهيئة، مع العلم ان المجالس العلمية المحلية تستقبل عشرات الفتاوى يوميا في مقراتها وهو ما يتصدى له الأعضاء، وعبر قناة السادسة يبث برنامج يسألونك، وهو برنامج مباشر للإجابة عن الأسئلة، وكان قبله برنامج ركن المفتي، والذي توقف هو الآخر، وكم نتمنى أن يعود، وبعض الإحصائيات تجعله من أكثر البرامج مشاهدة. يتقاطع في مجال الفتوى مبدآن أساسيان: مبدأ الحرية في الاجتهاد الفقهي، ومبدأ درء الفوضى والتسيب، ما هي المعادلة التي يمكن أن تضبط هذين المبدأين على مستوى ممارسة عملية الإفتاء؟ قبل ذلك ينبغي ان يعلم ان ما يمكن تسميته بالفوضى والتسيب ليس خاصا بمجال الفتوى، وعليه فيجب رصد كل مجالات الفوضى والتسيب ومحاصرتها، وبخصوص السؤال فليس هناك من معادلة غير التأهيل الدائم للعاملين في الميدان، والتخريج المستمر للكفاءات التي تسد الفراغات، فالإجتهاد الفقهي مطلوب وواجب، ومتى كان من أهله كان خيرا وبركة، فإذا كان من غير أهله كان تسيبا وفوضى. يعرف المشهد الإعلامي تنافسية شديدة على مستوى الخدمات الدينية التي تقدمها بعض القنوات، لاسيما ما يخص الإفتاء، في نظركم: كيف يمكن أن نتعامل مع تحدي التنوع المذهبي وتحدي اختلاف السياق المجتمعي في ظل الكثافة التي تحضر بها الفتاوى في بعض القنوات، والندرة الشديدة في الحالة المغربية؟ للأسف الشديد لم تواكب بلادنا الثورة الإعلامية إلا في الاتجاه السلبي، وما تتحدث عنه من تنافسية شديدة على مستوى الخدمات الدينية تقابل عندنا بالعزوف والإعراض، وهنا أقول إن وجود قناة السادسة لا يعفي باقي القنوات، ثم إن ذات القناة ينبغي نقلها إلى العالمية عوض الإغراق في المحلية، كما نتمنى ان يفسح فيها المجال لكل علماء المغرب ودعاته ومفكريه لتكون قبلة لكل الراغبين في معرفة تصور إسلامي وسطي يستجيب لحاجات عصر في وفاء دائم لمرجعيته. إن المواطن الذي لا يجد الجواب القريب يبحث عنه في كل مكان، والعالم الذي قيل عنه إنه صار قرية صغيرة يوفر بالإمكانيات الإعلامية الهائلة الخدمة للإنسان أينما كان. والمتتبع لبعض القنوات وكذا بعض المواقع الالكترونية يجد حضورا مقدرا للأسئلة الآتية من المغرب، وقد تكون صعوبات في تصور النازلة من غير المغربي، وقد يكون الجواب مبنيا على تصور مفترض غير دقيق فيأتي الجواب تابعا لها، ولعله لو وجدت هذه الأسئلة الخدمة القريبة واليسيرة ما احتاجت إلى طلب الجواب من خارج المغرب. وأنا هنا أقترح ان تنخرط قنواتنا الأرضية والفضائية في خدمة الفتوى وان يعود الخط الأخضر لما يوفره من اتصال مباشر بين المفتي والمستفتي، وأن تكون للمجالس العلمية المحلية حصة للفتوى في كل الإذاعات الجهوية، وان تكون لهذه المجالس مواقع إلكترونية تستقبل فيها أسئلة المواطنين، وان ينخرط في الأمر إعلامنا المكتوب أيضا... تخرج العديد من المجامع الفقهية بآراء فقهية تخص العديد من الموضوعات التي تندرج ضمن المستجدات العامة، كيف يمكن التعامل مع هذه الفتاوى في ظل وجود هيئة للإفتاء تضطلع بدور الإفتاء في هذه الموضوعات؟ الآراء الفقهية التي تصدر عن المجامع الفقهية تشكل أحد المخارج لتسيب الفتوى وأحد المداخل الأساسية للترشيد، ونعتبر هيئة الفتوى عندنا شكلا من أشكال المجامع الفقهية والأصل هو التوافق بين الآراء الفقهية الرشيدة، لأن العلاقة بين هذه المؤسسات علاقة التكامل لا التناقض، والتعاون لا التنافر، وفي الغالب الأعم لا تجد اختلافا بين الخلاصات الفقهية التي تصل إليها، ولا أعلم حكما فقهيا صدر عن مجمع فقهي وعارضته هيئة الإفتاء المغربية، وقديما قالوا لو سكت من لا يعلم لقل الخلاف، فحين يترك الأمر للمؤسسات وللمؤهلين لن تجد بينهم إلا التنوع والإغناء. تتوجه إلى العلماء والفقهاء انتقادات من قبل البعض تؤاخذ عليهم بسبب التزامهم بالمنهج الأصولي معارضتهم لقيم الحداثة والتقدم، ويلجأ بعضهم إلى ممارسة الإفتاء بما يخالف النص الشرعي أو يبطل النص الحديثي، كيف تنظرون إلى هذا المسلك؟ وما هي مسؤولية العلماء لمواجهة مثل هذا التحدي؟ الانتقادات التي تستحق ان توصف انها انتقادات هي التي تتحلى بأمرين حاسمين هما العلم والأخلاق، وليس من العلم محاكمة قول مستمد من مرجعية إسلامية وفق علم منهجي اسمه علم أصول الفقه، ومعزز بالأدلة من القرآن والسنة، إلى مرجعية أخرى لا تنطلق من نفس المنطلقات، فقيم الحداثة والتقدم عندنا تصير قيم الرداءة والتخلف حين تتعارض مع نص صحيح صريح أو مع حكم فقهي معلوم من الدين بالضرورة أو مع مجمع عليه بين علماء الأمة ونحو ذلك؛ لسبب بسيط وهو اننا نقول بأن المرجعية الإسلامية عند المسلم هي الأعلى، ولا يتصور شيء آخر فوقها، وكل ما عداها تابع لها، ومن الآيات الكثيرة الدالة على هذا الأمر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(الحجرات : 1) ولن يستقر شيء في الأذهان إذا احتاجت المسلمات إلى دليل. يثور جدل واسع حول العديد من الفتاوى خارج المغرب، لاسيما في مصر والمشرق العربي؛ إلى الدرجة التي يتم فيها اتهام بعض الفقهاء بتعطيل النصوص أو مسايرة الحاكم ضدا على مقاصد الشريعة، أو ترويج آراء غريبة وشاذة، في نظركم ما هي الضوابط الشرعية التي ينبغي التزامها في التعامل مع هذه الفتاوى؟ ولماذا في نظركم لا تلقى هذه الفتاوى صدى في المغرب؟ الذين يتصدون للفتوى يصيبون ويخطئون، والفتاوى الشاذة حقيقة قائمة في المغرب وخارج المغرب قديما وحديثا، إنما هناك فتاوى تشكل حدثا إعلاميا فتثير ما يسمى نقاشا وجدلا بين من مع ومن ضد، وبعضها فعلا يكون بتقديرات قاصرة أو خضوعا لضغوط من هذه الجهة او تلك أو إرضاء لهوى، وكل ذلك إنما يقدره ويقرره العلماء؛ وإلا فبعض الفتاوى التي صدرت في التجديد عدها الأستاذ الساسي شاذة ليست كذلك؛ بل رأيه هو الشاذ، وقد تكون الفتوى شاذة غريبة لكن ذلك لا يعني أنها باطلة او غير صحيحة، بل ويأتي العصر أو المصر الذي تكون فيه تلك الفتوى عادية ومقبولة وللأمر تفصيل.. هناك من يطالب اليوم بالحجر على الفتوى بدعوى أنها، وإن كانت تعبر عن رأي اجتهادي، إلا أنها تنطق باسم الدين، وتمتلك بذلك صفة الإلزام، وبالمقابل هناك من يرى أن الإفتاء محكوم بمبدأ الحرية، وأن الرأي غير الصحيح في ظل الحرية يجد من يفنده أو يعقب عليه من العلماء. ما هو رأيكم؟ قديما قالوا في الأمر الذي يعلم من وراءه: تلك دندنة من أخزم، المطالبون بالحجر هم دعاة الحرية، الذين لا يرون للحرية إلا معنى واحد وهو حين تكون تمردا وانحرافا، أما حين تصيرا رأيا أصيلا أو حكما فقهيا أصيلا او فتوى قوية؛ حجة وتنزيلا؛ فيتضايقون، وهذا من اغرب تناقضات القوم، ويتأكد عندي يوميا ان الأولى ألا يشتغل المرء إلا بالحوار الجاد والعلمي، أما التحريض والانتقاء والافتراء فحقه الإعراض والإهمال.