كان المطلوب من الأستاذ محمد الساسي في جزئه الثاني من مقالته التي انتقد فيها فتاوى التجديد ووصفها بالتخلف والمناهضة لقيم العلم والحداثة ودولة القانون وحقوق الإنسان أن يتحلى بالنزاهة والشجاعة الكافية ليقر بأخطائه التي ارتكبها في الجزء الأول من مقالته خاصة وقد أثبتنا بالدلائل والشواهد والاعتبارات في مقالنا المنشور بالتجديد بعده عن النزاهة العملية وتعسفه في الاستدلال فضلا عن الانتقاء المخل. لكن يبدو أنه لم يبصر من مقالنا إلا ما أوردناه من كون الدكتور مولاي عمر بنحماد قد رد على فتوى البستاوي لأنها لم تنظر إلى جميع جوانب الموضوع ولم تندد بفعل الاحتجاز الذي تعرضت له الفتاة، والغريب أن الأستاذ الساسي بدل أن يعترف بخطئه في بناء حكم على فتوى تم الاستدراك عليها، اعتبر هذا التصحيح، وكل تصحيح وقع أو يتوقع على فتوى منشورة، يندرج ضمن حكم النادر الذي لا يغير القاعدة، وطبعا القاعدة عنده هي أحكامه التي صدر بها مقاله والتي ينتصب على رأسها أن الجريدة تسمح باسم الشرع بتجاوز القانون بل لم يقف عند هذه الحدود، وإنما ذهب به الاستنتاج البعيد إلى قراءة هذه الفتاوى على أنها هدم مباشر لأسس المدونة القانونية، حيث انتقل من لغة المعرفة مباشرة إلى لغة السياسية موجها الخطاب إلى أحد الأطراف السياسية وإذا كان لطرف ما اعتراض على فصول مدونة الأسرة فليقدم مقترحات قوانين بتعديلها في البرلمان وهو ما يفهم منه حسب لغة الساسي السياسية طبعا وليست المعرفية أن التجديد تنوب عن حزب سياسي في التعبير عن موقف لم يستطع أن يعبر عنه بشأن المدونة وفصولها !! نعود إلى الموضوع، لكن هذه المرة نقدم له بمقدمات منهجية حتى يكون محكوما بالمقتضى العلمي بعيدا عن السياسة التي يبدو أن الساسي لم يستطع أن يتخلص من اعتباراتها، إن لم نقل إنه يبني أحكامه في التعرض غير العلمي لفتاوى التجديد بوحي منها. 1- من الضروري أن نضع الأستاذ الساسي ومن خلاله القراء أمام حقيقة الفتوى وماهيتها ومرتبة ما تتضمنه من آراء فقهية من الدين، حتى نقيم التمايز بين مفهوم الفتوى كما استقرت في كتب الأصوليين والفقهاء، وبين الفتوى كما تداولتها بعض المعالجات العلمانية والإعلامية، فالفتوى بالتقدير الأصولي، وهو الحاكم والمعتمد عند التجديد، أنها لا تعدو رأيا فقهيا يوجه إلى الشخص المستفتي بالنظر إلى نازلته وحاله وشخصه وزمنه، وهي غير ملزمة له فضل عن غيره، لأن من حق المستفتي أن يلتمس فتوى أخرى إن تبين له أن غيرها أوفى منها إحكاما للمناط، ولعل المسعى الذي سارت عليه التجديد في التعقيب على بعض الفتاوى بإيراد آراء فقهية أخرى يسير في هذا المتجه، إذ كم من عالم مجتهد اضطربت لديه مسالك النظر إلى الواقع فحكم الاعتبارات الشرعية دون تحقيق للمناط فوقع بذلك في أخطاء، فكان لا بد من تصحيحها ليس من جهة الاستدلال الشرعي وإنما من جهة تحقيق المناط، أي النظر في الحيثيات الواقعية التي يتنزل عليها الدليل الشرعي المستند عليه في الفتوى. وبناء على هذا الاعتبار المنهجي، فما تنشره التجديد في هذه الفتاوى إنما يعبر عن آراء المفتين ولا يلزم التجديد ولا الحركة القائمة عليها فضلا عن أن يدعي مدع أن الأمر يتعلق بحزب سياسي وينسج من الخيالات ما يساعده على سحب أحكامه السياسية على أطراف سياسية يتوجه إليها بالخطاب. 2-لا تعنينا التحديدات التي تتمثلها بعض النخب العلمانية وكذا بعض المعالجات الإعلامية عن مفهوم الفتوى بحيث تذهب بها إلى حد اعتبارها نظاما فكريا مغلقا ينتظم فيه المجموع ضدا على أحكام العقل، بحيث يصير عبر الزمن آلية من آليات اغتيال الديمقراطية. فهذا التحديد لا يعنينا في شيء، وإنما يلزم من تعلق به ممن يريد أن يحرف المعاني أولا ويضعها في غير سياقها الأصلي لينتهي إلى إثبات مسبقاته الإيديولوجية والسياسية. ولذلك، فالفتوى، بالتحديد المعتمد في التجديد، إنما هي تعبير عن رأي فقهي في حادثة من الحوادث، ولأن هذا الرأي الفقهي لا يكتسب طابع القداسة، ولا يتمتع بامتياز التعميم، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الجريدة وخطها الفكري، فإن التجديد تفتح دائما حق التعقيب والتصحيح والاستدراك عليه، ولا تجد أي حرج في ذلك، لأن الذي يؤطر موقفها بهذا الخصوص أن مراجعة الآراء الفقهية وكشف أخطائها سواء في المقدمات أو في كيفية الاستدلال أو في تحقيق المناط هو أمر جزء من رؤيتها في ركن قال الفقيه. وقد فعلت التجديد ذلك أكثر من مرة، وليس ما قاله الأستاذ الساسي صحيحا حين ادعى لهذه التصحيحات حكم الندرة بدليل أنه لم يطلع على تصحيح الدكتور مولاي عمر بن حماد لفتوى البستاوي، وبنى تحليله على الفتوى المستدرك عليها، وأحكام العقل تقر أن مدعي الاستقراء التام يسقط ادعاؤه بمجرد خروج أحد الحيثيات عن مقتضى استقرائه، فما بالك إذا تعلق الأمر بسقوط حيثية ثقيلة بنى على عكسها الساسي ما انتهى به إلى إثبات أحد الأحكام، ولو تأمل الساسي ندرة عيناته بالقياس إلى ما الفتاوى المستدرك عليها لعلم ألا قيمة لأحكامه من الناحية العلمية. ولنا عودة إلى الموضوع بتفصيل في الجزء الثاني من هذا المقال.