لم يكن الحديث عن تقنين الفتوى بالمغرب يشغل بال المسئولين عن الإصلاح الديني قبل سنة 2000؛ إذ كان علماء المغرب في "رابطتهم" قبل تغيير هيكلتها إلى"الرابطة المحمدية لعلماء المغرب" يفتون في كل المجالات، سواء في الاقتصاد، أو السياسة، أو المجتمع، ويصدرون بلاغاتهم متضمنة لرؤيتهم في مختلف القضايا: من تنديد بالتنصير، إلى نداءات لدعم فلسطين، وغيرها من قضايا الأمة. "" الشأن نفسه كان بالنسبة للعلماء من خارج مؤسسة "رابطة علماء المغرب"؛ إذ كانوا يصدرون آراءهم الشرعية بكل حرية تضمن لهم توجيه الأحداث السياسية والاجتماعية بما يرونه متوافقا مع الشرع الإسلامي. غير أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 بأمريكا و16 مايو 2003 بالدارالبيضاء، أرخت بظلالها على مجال الفتوى؛ مما استدعى البحث عن آلية لتقنين الإفتاء أو "تأميمه" رسميا في إطار الإصلاح الديني بالمغرب، فبدأ الحديث عن"الهيئة العلمية للإفتاء"، التابعة للمجلس العلمي الأعلى، التي تختص في القضايا العامة للدولة. وزاد من قبول هذا الاختيار الرسمي ظهور بعض الفتاوى "النشاز" عن البيئة المغربية "تحل أموال الآخرين" وتحسبها "مغانم وفيئا"، كما أفتت بحل الدماء لأنها "دماء الكافرين" أو "مساندي الطاغوت" (زكرياء الميلودي). وبين السعي الرسمي للتقنين، وصيانة الفتوى من "المتطفلين"، وتوظيف الفتاوى الفردية لأهداف ذاتية، دخل موضوع الفتوى دائرة التفاعل السياسي بمفهومه العام، فكانت بلاغات وفتاوى المجلس العلمي هي المعتمدة في قضايا الشأن العام، وبات الإفتاء خارجها، ولو جاء بناء على أسس شرعية مقبولة، جرأة على الدين، وتطاولا على المؤسسات الرسمية بالبلاد، ونيلا من علمائها. تحصين الفتوى رسميا منذ تأسيس رابطة علماء المغرب في بداية الستينيات من القرن الماضي (1961)، كانت بلاغات الرابطة وبياناتها، والممهورة بقلم أمنائها العامين: الشيخ عبد الله كنون، والشيخ أحمد بن شقرون، والشيخ المكي الناصري -رحمهم الله جميعا- متابعة وحاضرة في كل الأحداث المحلية والدولية. وتعد إطلالة عامة على المؤلف الخاص بمؤتمراتها العشر -الذي أعده أمينها العام "أحمد بن شقرون" رحمه الله- كافية للوقوف على مدى الاستقلالية والحرية التي كان يتمتع بها العالم المغربي في إبداء رأيه في مختلف القضايا من التنصير إلى التزام الإعلام، ومن التطبيع إلى قضايا التعريب والفرانكفونية. غير أن اندلاع الحرب على ما يسمى ب"الإرهاب" بعد تدمير برجي التجارة بأمريكا، وتفجيرات الدارالبيضاء في مايو 2003، سيدفع بإصلاح الشأن الديني بالمغرب إلى قائمة الأولويات لدى الجهات الرسمية. هذه الحاجة أكدها الخطاب الذي ألقاه العاهل المغربي بعد شهر فقط من تفجيرات الدارالبيضاء بقوله: "وتفعيلا لتوجيهاتنا السامية بشأن تحديد مرجعية للفتوى، التي هي منوطة بإمارة المؤمنين، أحدثنا هيئة علمية داخل المجلس العلمي لاقتراح الفتاوى على جلالتنا فيما يتعلق بالنوازل التي تتطلب الحكم الشرعي المناسب لها؛ قطعا لدابر الفتنة والبلبلة في الشئون الدينية، وجعل الفتوى آلية للاجتهاد الديني، الذي تميز به المغرب على مر العصور في اعتماده على أصول المذهب المالكي، ولاسيما قاعدة المصالح المرسلة، وقيامه على المزاوجة الخلاقة بين الأنظار الفقهية، والخبرة الميدانية". وحدد خطاب العاهل المغربي في يوليو 2005 هدف هذا التقنين بقوله: "وبذلك نقوم بتحصين الفتوى، التي هي أحد مقومات الشأن الديني، بجعلها عملا مؤسسيا، واجتهادا جماعيا، لا مجال فيه لأدعياء المعرفة بالدين، ولتطاول السفهاء والمشعوذين، ولا للمزاعم الافترائية الفردية". تطويق فتاوى "المتطرفين" بعد إعادة هيكلة وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالمغرب نهاية 2002، والمجالس العلمية في أبريل 2004 ظل بند "الفتوى والإرشاد والوعظ" ملازما لأشغال المجلس العلمي الأعلى؛ حيث طالب علماء "المؤسسات الرسمية" بتعميم "خط أخضر" للإجابة عن استفتاءات المواطنين من لدن علماء يعينهم كل مجلس علمي محلي، واستثمار الإعلام الرسمي لإنتاج برامج ترد على "الأنشطة الهدامة، وتوجيه برامج خاصة إلى معتقلي التيارات الدينية المنحرفة بغرض تصحيح تصوراتهم وفهمهم للدين"، بدلا عن تجربة برنامج "ركن المفتي"، التي اقتصرت إجابات المشاركين فيه على قضايا جزئية تمس الحياة الدينية البسيطة للمواطنين، دون تجاوزها لمناقشة القضايا الحساسة والمستجدة مع رياح العولمة. وتنفيذا لتوجيه العاهل المغربي عين المجلس العلمي الأعلى على المستوى المركزي أعضاء في"الهيئة العلمية للإفتاء"، حدد هدفها في إصدار "الفتاوى بناء على تقارير اللجان العلمية المختصة المصادق عليها في شكل قرارات منفصلة، تصاغ بعبارات واضحة وميسرة ومختصرة، وتتضمن بصفة خاصة الإشارة إلى موضوع الفتوى وحيثياتها، وسندها الشرعي، ومنطوقها، ويوقعها أعضاء الهيئة العلمية (15 عضوا)". ولتيسير عمل الهيئة العلمية للإفتاء، أحدث الظهير الرسمي الخاص بها "ثلاث شعب للبحث والدراسة: شعبة البحث في الفقه المالكي، وشعبة البحث في الفقه المقارن، وشعبة الاجتهاد الفقهي المعاصر"، مع إمكانية إضافة شعب أخرى عند الضرورة. وعلى المستوى المحلي، طالبت توصيات دورات المجلس العلمي الأعلى بإحداث "لجان محلية دائمة، يمكن أن تنفتح على علماء ذوي كفاءة وخبرة من خارج المؤسسة الرسمية؛ لتلبية احتياجات المواطنين في معرفة أحكام الشريعة، كما يلزم إشراك المرأة العالمة في تدبير شئون الإفتاء المحلي". وبالإضافة إلى بعض الفتاوى، التي أصدرتها الهيئة الرسمية منذ إنشائها، دأب المجلس العلمي الأعلى على إصدار بلاغات موازية، تبين موقفه العلمي والشرعي من بعض القضايا المحلية والدولية مثل: بلاغ اختطاف مغربيين في العراق، وموضوع الرسوم الماسة بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم، والرد على تصريح بابا الفاتيكان. هذا، في حين خفت دور علماء "رابطة علماء المغرب" بانصرافهم إلى الإنتاج الفكري الأكاديمي، وتنظيم الندوات الفكرية، البعيدة عن كل موضوع يربطها بأمور الفتوى. اختلاط السياسة بالفتوى من خلال استقراء مجموع الفتاوى الصادرة عن الهيئة العلمية المكلفة بالإفتاء، التي تمثل الجهة الرسمية في المغرب، يمكن تصنيف الفتاوى إلى أربع مجموعات: - فتاوى تستجيب للإكراهات الحكومية: قرعة الحج- فتوى المقابر- فتوى نكت مجلة "نيشان"- فتوى جهاز قياس الكحول لدى السائقين... إلخ. - فتاوى ذات طابع اجتماعي: تكفير أهل القبلة- نبش قبر الولي الصالح سيد السايح- دخول المرأة الحائض المسجد بقصد التعليم والتعلم- اتخاذ آية قرآنية شعارا لمؤسسة تجارية- وضع المصحف في الفنادق... إلخ. - فتاوى ذات طابع سياسي: فتوى الاقتراض الربوي من أجل السكن- إمامة المرأة... إلخ. - بلاغات في صيغة فتاوى: بلاغ حول ندوة الإرهاب- زواج ابنة التسع سنوات... إلخ. وصلة بموضوع المقال يمكن الاقتصار على الصنف الثالث والرابع لعلاقتهما بالتفسير السياسي المصاحب لإصدارها. - فتوى الاقتراض الربوي من أجل السكن: وجاء بلاغها شديد اللهجة على ما قدمه الشيخ يوسف القرضاوي لمن استفتاه في الموضوع، بأن أجاز الاقتراض للضرورة في المغرب لعدم وجود مصارف إسلامية؛ قياسا على حال المسلمين بالمهجر الذين أجيز لهم الاقتراض من البنك التقليدي من أجل السكن في بعض الحالات المعسرة. غير أن المجلس العلمي الأعلى المغربي قصر رده على صاحب الفتوى دون أن يعالج موضوعها، وانقسم أعضاء المجلس العلمي الأعلى بين رأي يقر اجتهاد الشيخ القرضاوي واستحضار الضرورة، وآخر يؤجل البت فيها إلى حين وجود بديل للبنوك الموجودة. ولتفادي الحسم، اكتفى المجلس العلمي بإصدار بلاغ تنديدي بأن الفتوى لم تصدر إلا عن "غافل، أو ممن يسر حسوا في ارتغاء"، وهو ما جعل الدكتور أحمد الريسوني يرد على البلاغ "الناري" بأنه "بلاغ ليس فيه رائحة العلماء، وإنما فيه روائح أخرى". - فتوى إمامة المرأة: من الأعراف الجارية في المغرب دستوريا أن "الملك" يعود لأكبر ولد ذكر من أسرة الملك، بناء على إمامة الذكور في الصلاة، لذا جاء الإفتاء بحرمة إمامة المرأة (26 مايو 2006) متناسبا مع هذا العرف الدستوري. وبعد تقديم المجلس العلمي الأعلى لبعض أقوال المالكية في الموضوع، خلص إلى القول: "وقد اتجه المذهب المالكي في المشهور والراجح الذي به العمل إلى عدم جواز إمامة المرأة، كما يستفاد من أقوال أئمة المذهب قديما وحديثا.. وما ذهب إليه المالكية بالقول بعدم جواز إمامة المرأة يتأسس على اعتمادهم عمل أهل المدينة أصلا لتقوية أخبار الآحاد". بلاغات الدين والسياسة وتفاديا لربط كثير من المواقف الشرعية الصادرة عن المجلس العلمي الأعلى بأنها "فتوى"، لجأ المجلس إلى إصدار عدد من البلاغات والبيانات، وهي التي توضحها نماذج المجموعة الرابعة من التصنيف سالف الذكر. وقد أوضح وزير الأوقاف طابع هذه البلاغات "السياسي"، في تدخله خلال الدورة الثالثة للمجلس العلمي الأعلى في النقطة العاشرة من كلمته الافتتاحية: "عندما تقع مسألة سياسية أو واقعة لها علاقة بالدين، فأمير المؤمنين هو الذي يتصل بالمجلس، وهو الذي ينسق بين ما تقوله الحكومة من جانب السياسة أو من جانب الموقف، وبين ما تقوله المؤسسة الدينية، وفي الغالب فإن الأمر أمر دقائق وساعات، ولا يمكن أن يبقى شهورا للمداولة؛ لأن الشهور تأتي بما يقلب العالم في عصرنا هذا" (كتاب حصيلة دورات المجلس العلمي الأعلى، ص:41( وفيما يتعلق بموقفه في ندوة "الحكم الشرعي حول الإرهاب" (19 مايو 2007)، قدم المجلس مجموعة من الدراسات العلمية العميقة في القضايا ذات الصلة بدعاوى الإرهاب، مثل الجهاد، والحاكمية، والجاهلية.. إلا أنه خلص في برقيته الختامية إلى أن حكم الإرهابيين هو حد "الحرابة في الإسلام". وقالت البرقية: "إذا كان الإسلام يحرم الحرابة والبغي، ويعاقب المحاربين والبغاة بأقصى العقوبات وأشدها، فكيف يقر الإرهاب وهو أشد خطرا من الحرابة؟! إن الإرهاب هو تفكيك للبنية الأمنية من أساسها، وتقويض للمجتمع وللدولة ولمؤسساتها، فهو داخل بالأحرى في مضمون قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. [المائدة:33]. وعوض أن يقدم المجلس العلمي فتوى تبين جواز أو حرمة زواج ابنة التسع سنوات، اعتمد المجلس بند مدونة الأسرة، الذي حدد سن الزواج عند تمام ال18سنة؛ حيث أشار إلى أن فتوى إباحة زواج البنت الصغيرة ذات التسعة أعوام استدل بها المغراوي بتقديراته الخاصة، و"لكنه أراد أن ينتصر لرأيه بذكر زواج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة عائشة رضي الله عنها وهي بنت تسع سنوات"، منددا ب"استعمال الدين في مثل هذه الآراء الشاذة المنكرة". وقال بلاغ المجلس: إن "النظام المعمول به في المملكة المغربية فيما يتعلق بالسن الشرعية بالزواج حاليا يستند إلى قانون صادقت عليه الأمة بجميع مكوناتها، وشارك العلماء في صياغته، ولا يصدر التشويش عليه (أي مدونة الأسرة) إلا من فتان ضال مضل، ومن ثم لا يلتفت إليه، ولا ينتبه إلى رأيه". الفتوى الرسمية وأفقها السياسي تأسيسا على ما سبق، يظهر أن المغرب، وخلال سنوات معدودة من تقنين الإفتاء، وجعله تحت وصاية السياسة العامة للبلاد، يكون قد وفق في شيء وأخفق في أشياء.. فهو ب"ترسيم" (إصدار مرسوم ملكي) الهيئة يكون قد أسس لفضيلة الاجتهاد الجماعي، وما يضمنه من تبادل الرأي لدى أهل الاختصاص، وتفادي انزلاقات الفتوى الفردية، التي يعتبرها القائمون على الشأن الديني بالمغرب "مجرد رأي شخصي يلزم قائله، وليس فتوى". إلا أنه أخفق في أشياء لها علاقة بقرب الفتوى من السياسة أو إبعادها عنها، نعرضها في الآتي: - أدى الارتباط "الحرفي" للمجلس العلمي بالسياسة العامة للبلاد إلى حرمانه من التفاعل مع مجريات الأحداث؛ فهو إذ أصدر موقفه فيما يتعلق بقضية "زواج ابنة التسع سنوات"، لزم الصمت في شأن إغلاق أكثر من 60 من دور القرآن ما دام القرار قد اتخذته جهات أمنية. - وعلى المستوى الدولي، فأحداث غزة والمجزرة التي صاحبتها دفعت أغلب العلماء والهيئات الشرعية إلى إصدار بلاغ وفتوى، وإن كانت تساير الموقف الرسمي الخارجي للبلد الصادرة عنه، إلا أن المجلس العلمي انشغل بترتيبات داخلية تهم توسيع المجالس العلمية، وإنشاء مجلس علمي للجالية، ولم يصدر عنه موقف الاستنكار أو التأييد. - دفع ارتهان المجلس العلمي لتوجهات الحكومة سياسيا إلى ما يشبه "المصادقة الشرعية" على قراراتها، وإن كانت محتاجة لتمحيص شرعي، خاصة في الرد على فتوى الشيخ محمد المغراوي، وفتوى الشيخ يوسف القرضاوي؛ إذ تناولت البلاغات الأشخاص دون النظر إلى مضمون القضية وصوابية الرأي الشرعي. - يلاحظ ضعف وبطء في تفاعل المجلس وهيئته الإفتائية مع القضايا الحساسة بالمغرب مثل الربا، والخمور، والشذوذ، وغيرها من القضايا المستجدة، فيما يلاحظ سرعة في الرد على أشخاص أصدروا مواقف لا تساير التوجه الرسمي للبلد. - حصرت هيئة الإفتاء اجتهادها في المذهب المالكي، وهي خاصية مقبولة، إلا أن الهدف منه هو محاولة محاصرة كل اجتهاد من مذاهب أخرى، إلا إذا دعت الحاجة السياسية لذلك، مثل الالتجاء إلى التخلي عن الولي بالاتكاء على رأي الأحناف، دون أن يصاحب ذلك تفعيل لاجتهادات المالكية، خاصة في الخمر وغيرها. - إن ارتباط علماء "المؤسسات الرسمية" بالمغرب، وتهيبهم من إصدار بعض المواقف الجريئة يزكي آراء ومواقف الفقهاء "غير الرسميين"، خاصة أن الحرية والاستقلالية شرطان ضروريان لأي عالم مجتهد.