يعتبر الدكتور عماد الدين خليل من أبرز الأدباء والنقاد الإسلاميين، ولد في الموصل بالعراق عام 1939م، حصل على الدكتوراه في التاريخ عام 1968 بكلية الآداب عين شمس بالقاهرة، وعمل في مختلف الجامعات العراقية، كما أشرف على مكتبتي الجامعة المركزي والمتحف الحضاري، وترأس شعبة الدراسات في المديرية العامة لآثار المنطقة الشمالية في العراق سابقا، أصدر عدة مؤلفات تجاوزت الستين كتابا في كافة مجالات المعرفة، في السيرة وتاريخ الإسلام والأدب الإسلامي، والعديد من الأعمال الإبداعية والأدبية، نذكر من بينها: مع القرآن في عالمه الرحيب العلم في مواجهة المادية مؤشرات إسلامية في زمن السرعة حول إعادة تشكيل العقل المسلم دراسة في السيرة المأسورون (مسرحية) في النقد الإسلامي المعاصر فوضى العالم في المسرح الغربي المعاصر جداول الحب واليقين (شعر) الإعصار والمئذنة (رواية) الفن والعقيدة. التقيناه أثناء زيارته للمغرب أخيرا، وحول الملف العراقي وقضايا الأدب الإسلامي والنقد والإبداع ووضع وآفاق الأدب الإسلامي، كان لثقافة وإبداع الحوار التالي معه: ليس ثمة انكسار دائم لا شك أنكم كأديب ومفكر عراقي قد تأثرت كثيرا بما حدث ويحدث في العراق، كيف ترون هذه المحنة العربية والإسلامية؟ العراقيون متشبثون بوحدة أرضهم وبلادهم، وستكون الكارثة كبيرة لو مضت الخطة إلى آخر أمدها في تفكيك العراق، الذي عاش موحدا لمئات السنين وكان نقطة ارتكاز في العالم الإسلامي كله، في اتجاه المشرق والمغرب معا، وتصورنا للمستقبل ولا يعلم الغيب إلا الله أن هناك محاولات على درجات متفاوتة ما بين فيدرالية معقولة تمسك بالعراق موحدا، وما بين نوع من التفكيك الذي يخشى أن يتحقق، ولا ندري لحد الآن ما الذي يدور داخل العقل الأمريكي بخصوص هذه المسألة. على المستوى الآخر، ولحسن الحظ، فإن العراقيين استطاعوا أن يتجاوزوا كل محاولات إثارة فتنة طائفية أو عرقية إثنية، وقدروا حتى الآن على أن يمسكوا العصا من أوسطها، وأن يحافظوا على وحدتهم الاجتماعية من أي محاولة للاختراق أو الاستفزاز مما قد يقود إلى ويلات لا يعلمها إلا الله، أما على مستوى الاحتلال الأمريكي أو الانكليزي فقد ينسحب، ليس من العراق، وإنما من المدن ليتمركز في معسكرات بعيدة من أجل إدامة هيمنته على مقدرات البلاد وخاصة النفط. هذه هي الخطوط العريضة التي يعرفها تقريبا كل عراقي، مثقفهم وغير مثقفهم. أضيفت المحنة العراقية إلى المحنة الفلسطينية، أنت كمؤرخ كيف ترى المستقبل وتراكم هذه المحن في الأمة الإسلامية وكيفية الخروج منها؟ كما هو الحال في عالم الطبيعة وفي التاريخ البشري على السواء، كلما ادلهمت الظلمات وزادت الخطوب وكثرت المصائب والانكسارات، كلما بشرنا بانبلاج الفجر إن شاء الله، بموقف قد يعيد الميزان إلى مكانه الطبيعي، ويمكن لهذه الأمة في الأرض ويتيح لها أن تخرج أكثر قدرة على صياغة تاريخها. دائما الانهزامات تعلم، وكما لو استعرنا مصطلحات توينبي فإنها تحديات إذا تمت الاستجابة لها بالشكل المطلوب فإنها تنقلنا إلى وضع أحسن بكثير مما كنا عليه في القرن الماضي، وهذه ثوابت قرآنية تعلمنا كيف أنه ليس ثمة انكسار للمسلم في هذا العالم إذا أحسن التعامل مع قوانين الحركة التاريخية وأخذ بالأسباب، والتعلم من تراكم الخبرات، وقد حدث هذا للأمة الإسلامية واستطاعت أن تنهض مرة ومرتين وثلاثا. التوازن الغائب في الأدب الإسلامي أنتم تعدون أحد النقاد البارزين في ساحة الأدب الإسلامي، وواكبتم هذه التجربة، كيف ترون وضعية هذا الأدب اليوم تنظيرا وإبداعا؟ الأدب الإسلامي قدم الكثير، ولكنه في معطياته الإبداعية والتنظيرية والنقدية والدراسية يحتاج إلى إعادة النظر في ملفه من أجل تحقيق قدر من التوازن المطلوب، فهناك طغيان وتفجر وعطاء زاخر في بعض السياقات، وهناك نضوب أو غياب في سياقات أخرى، يعني على سبيل المثال النقد التطبيقي محدود إلى حد كبير، للأسف الشديد لا يكاد يواكب النشاط الإبداعي، فنحن في حاجة إلى تحفيز نقادنا على أن يواصلوا بالجهد الممكن وفي الحدود القصوى متابعة ما يقدم من أعمال إبداعية من أجل التغطية النقدية وإعطاء المبدع الفرصة لكي يتلقى التوجيهات من الناقد، فنحن بحاجة إلى تحقيق التوازن بين النقد والإبداع، وحتى الدراسة الأدبية تكاد تكون أقل بكثير من النقد، حتى في ساحة الإبداع والأجناس الأدبية كما تسمى في المصطلحات النقدية هناك غياب للتوازن، هناك انفجار للأداء الشعري، ربما وإلى حد ما في القصة القصيرة، وأمام هذا السيل لا نكاد نعثر إلا على أعمال روائية ومسرحية قليلة وقليلة جدا، لعل وعسى إن شاء الله نتجاوز هذا الخلل، وتبذل مجلتاالمشكاة والأدب الإسلامي جهودا فائقة لتحقيق التوازن، وتوزيع صفحاتهما بشكل عادل على طبقات الجهد الأدبي كافة. لكن كيف تفسر هذا الحضور الطاغي للشعر مقارنة بالأجناس الأدبية الأخرى، هل لكوننا أمة شاعرة بالدرجة الأولى؟ نعم لأننا أمة شاعرة، ثانيا لأن تراثنا الأدبي في أساسه وعموده الفقري تراث شعري إلى حد كبير، فنحن أبناء أولئك، وهذا أمر طبيعي، وثالثا لأن بعض الأجناس الأدبية ليست من صنع أيدينا، بل هي مستعارة من الغرب، من الآخر، وهي جديدة علينا لم نتعرف عليها إلا قبل مائة سنة أو خمسين سنة أو أقل من هذا، فنحن بحاجة إلى فترة زمنية لكي تتمكن أيدينا من هذه الأجناس، هذا هو السبب الأساسي في نظري. ولكن المشكل أن الكثيرين من الذين يحملون الهم الإسلامي يرون في مسألة الأدب والفن مسألة ترفيه، مسألة قد لا تحمل أي قيمة، يجب أن توضع جانبا لحساب الأمور الفكرية والدراسية وغيرها من الأمورالجادة، هم ينسون أن الأدب خطاب على أكبر قدر من الشفافية والقدرة على التواصل مع الطرف الآخر، فنحن فرطنا في أداة ذات فعالية عالية جدا. البعض يقول بأن حالة الأدب الإسلامي اليوم تشبه تقريبا حالة أدب الحداثة أو الحداثة الثانية المتطرفة، أي كثرة التنظير والتبشير وقلة الإبداع، ما رأيك؟ لا، ليس صحيحا هذا الحكم، بل يمكن أن نلحظ العكس في الأدب الإسلامي، إذ هناك كثرة الإبداع مقابل قلة التنظير، فالتنظيرات قليلة إذا ما قستها على عدد دواوين الشعر والقصة القصيرة والمقالة الأدبية، وأنا أرى أننا على العكس مما تقول بحاجة إلى المزيد من التنظيرات، ولكن على شرط أن نضع في حسباننا تحقيق التوازن المطلوب ونحن ننظر، نحن نحتاج إلى منهج للدراسة الأدبية وللنقد، المنهج غائب في بنيتنا النقدية الراهنة، فهنالك جوانب قد تحتاج إلى كثير من الجهد، ولكن يبقى أن التنظير والدراسة ضروريتان ضرورة بالغة لكي تلاحق هذا الكم الهائل من بعض جواب الإبداع والأجناس الأدبية. علينا ملء الفراغ الذي تخلفه الحداثة! بعد عقود من ظهور الأدب الإسلامي، ما زال هذا الأدب ربما على الهامش، بماذا تفسرون الحصار المضروب عليه من قبل بعض الجهات الرسمية في العالم العربي، والدوائر الثقافية المختلفة، خاصة التي تنسب نفسها إلى الحداثة؟ هذا صراع أبدي بين المعنيين بالأدب الإسلامي والعلمانيين، ويندرج كثير من الحداثيين في سياقهم، هو صراع أبدي كما كان صراعا بين محمد صلى الله عليه وسلم وأبي جهل، يعني صراع بين الرؤية الإسلامية والرؤية الوضعية الملتصقة بالأرض، التي لا تريد أن تمد يدها أو تتفهم على الأقل البعد الإنساني للخطاب الإسلامي، يوم أن تدرك الجهات الأخرى أن الخطاب الإسلامي هو واحد من أكثر المعطيات شفافية وإنسانية، وفضاء مفتوح، قد تقلل من هذه الكراهية ومن هذا الرفض لهذا الخطاب الذي يخدم الإنسان قبل أن يخدم المسلم نفسه. الملاحظ الآن أن الحداثة الأدبية والفنية وصلت إلى طريق مسدود، يتبين هذا من تراجع قراء هذه الموجة وعزلة أصحابها يوما بعد آخر، لغياب أية قضية يحملونها أو يبشرون بها، لكن الأدب الإسلامي ما زال قاصرا عن أن يشغل هذه المساحة، هل المشكلة فيه أم في القارئ أم في صعوبة التواصل بين الطرفين؟ هذه هي المشكلة، قضية الحداثة هي حلقة من سلسلة طويلة من المعطيات الوضعية في الغرب وفي الشرق، الذي يلاحق حتى الآن ما ينتج في الغرب، الغربيون أنفسهم ينتقدون على أنفسهم، وينكثون غزلهم بين الحين والحين، وترى بعضهم يضرب بعضا ويلاحق بعضهم بعضا، ويحل بعضهم محل البعض الآخر، على المستوى السياسي والفكري والأدبي والثقافي والحضاري، لا تكاد تجد حالة واحدة، أن تستمر الوجودية إلى ما لا نهاية، أو تستمر الشيوعية إلى ما لا نهاية، أو النازية، فهي تنطفئ في نهاية الأمر، ونحن نرى أن البنيوية جاء بعدها ما بعد البنيوية والتفكيكية، ولا ندري إلى أين يتجهون، لأنهم لا يعتمدون على ثوابت، كما نعتمد نحن، الفارق بيننا وبينهم أننا نرتكز في كل معطياتنا بما فيها الأدبية على ثوابت تحترم المتغيرات، ولكننا نضع أقدامنا على قواعد صلبة، آتية من عمقنا الإسلامي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يقوم على الموازين العادلة في التعامل مع الأشياء والظواهر، أما هم فيعتمدون على رؤى هذا الشخص أو ذاك، هذا الفيلسوف أو ذاك، هذا المفكر أو ذاك، وهؤلاء تنطوي معطياتهم على القصور والنسبية والزمنية، وتنطوي أيضا على قدر كبير من الأهواء والظنون وتضخيم الذات على حساب الحقيقة، وكما يقول القرآن الكريم: إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان، إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى، وكما تقول علينا حقا أن ننتهز هذا الفراغ الذي تخلفه انكسارات معطياتهم، ليس على مستوى الأدب فحسب بل كذلك على مستوى الثقافة أيضا، لنملأه بالقدر المطلوب، ولذلك نحفز الأدباء الإسلاميين على أن يكونوا بالثقل وبالأداء العالي المطلوب من أجل أن يملؤوا الفراغ الموجود، وفي رأيي أن الفراغ لن يملأ واحترام الآخر لنا ولأدبنا لن يتحقق إلا إذا أعطينا أهمية بالغة للجوانب الفنية من أدبنا، الجوانب الشكلية أو الفنية أو الجمالية، لأن الكثيرين يتصورون أن الأدب الإسلامي هو بمضامينه، والحال أن الأدب لن يكون أدبا إلا بأن ينطوي على قدر كبير ملتحم بالمضمون من القيم الفنية. نحو منهج نقدي إسلامي كثر الحديث في السنوات الأخيرة عن وضع نظرية نقدية عربية إسلامية، وأنتم كتبتم منذ زمن بعيد في هذا الاتجاه، ما هي ممكنات نجاح مثل هذا المشروع وسط هذا الزخم الكبير من النظريات النقدية المستعارة؟ التنظيرات وضعت والحمد لله، هناك نحو سبع أو ثمانية كتب وضعت ربما، تعالج نظرية الأدب الإسلامي، تلم بأطراف االجهد الأدبي وتعطي رؤية إسلامية أصيلة لهذا الجهد، هذا موجود، وهو يساهم في وضع نظرية نقدية إسلامية، وإنما القضية في المنهج الذي يعتمد آليات متفق عليها للتعامل مع الظاهرة الأدبية الممتدة في الزمان والمكان، والتعامل أيضا مع النص الأدبي ومحاولة اختراقه بأكبر قدر من الضبط. دور الأديب المسلم مع التحديات الكبيرة المطروحة على الأمة العربية والإسلامية اليوم، ما هو برأيكم الدور المطلوب القيام به من قبل المثقف والأديب والشاعر؟ هو دور مؤكد ومحتوم من أجل أن يوصل رؤية هذه الأمة وخطابها إلى كل الأطراف الأخرى في هذا العالم لكي يحفز ضمائهم وينظر بعين أكثر موضوعية وجدية إلى قضايانا التي مال بها الميزان لصالح الطرف الآخر، واغتيلت حتى أعمق بعد فيها، لم تتعرض أمة لاغتيال حقها المشروع وحتى رؤيتها للحياة وحريتها في مفاصلها كافة، كما تعرضت له هذه الأمة عبر الثلاثين أو الأربعين سنة الأخيرة، الأديب في هذه الأمة صوت يحمل قدرة فائقة على إعادة الميزان إلى وضعه الطبيعي، وإحقاق الحق وتقديم رؤية هذه الأمة للطرف الآخر، لعله يفتح ممرا إلى العقل والوجدان الغربيين، هذه مسألة، والمسألة الأخرى أن الإعلاميات المعاصرة والمعلومات الحديثة انفجرت انفجارا كبيرا وتتطلب جهدا أدبيا إبداعيا فائقا لكي يغزو الشاشة، الشاشة الآن في حاجة إلى المزيد من الأعمال المسرحية والتمثيلية والسينمائية والتلفزيونية والحواريات التي توضع بأيدي الأدباء الإسلاميين، وتكون جاهزة بحيث تتحول إلى الشاشة، يجب أن لا نترك الشاشة للآخرين، يجب أن نغطي شيئا من الوقت التلفزيوني، وهذا لن يتحقق إلا على أيدي الأدباء. أنت تكتب في جميع الأجناس الأدبية، في الرواية والشعر والمسرح والقصة والنقد الأدبي، لكن أين تميل نفسك بشكل أكبر؟ أنا في الحقيقة وقد أكون مخطئا في هذا رغبتي وعشقي أن أقدم شيئا في جميع الأجناس على الإطلاق، حتى أنني في السنوات الأخيرة انصرفت لتقديم شيء في سياقات جديدة قليلة وشحيحة في المكتبة الإسلامية وهي أدب الرحلات، فقدمت كتابا في أدب الرحلات طبع في اليمن، وقريبا تظهر طبعة في المغرب، وأدب الحوار/ الريبورتاج الذي قدمت فيه كتابا بعنوان حوار في هموم إسلامية أصدرته في لندن عند دار الحكمة، وهو فن شحيح في أدبنا... فكل الأجناس هي فرصة لإيصال الصوت إلى الطرف الآخر، وأنا آمل إن شاء الله أن أتفرغ قريبا بإذن الله لكتابة سيرتي الذاتية، ولكن ليس كعمل تسجيلي كما فعل البعض، وإنما برؤية انطباعية تعكس كيف انطبعت الحياة في وجداني وعقلي. حاوره:إدريس الكنبوري