● كيف تقرؤون التحولات التي أفرزها الربيع العربي، وما هي مستوياتها؟ ❍ لقد تعددت مسارات الربيع العربي حسب طبيعة النظام السياسي القائم، وموقف الجيش من الثورة، فقد ساعد الإصرار السلمي الانتفاضي ودور الجيش وتآكل قاعدة النظام مع قدر من الاندماج الاجتماعي والتماسك الأهلي ووحدة النسيج المجتمعي على إنجاح ثورتي تونس ومصر، لكن الأبعاد نفسها معكوسةٌ، لعبت دوراً سلبياًّ في تعقد ودموية التغيير في سوريا، وفي تحقيق تغييرٍ توافقيٍّ بين القوى والنظام في اليمن، وتدخلٍ خارجيٍّ في ليبيا لإسقاط النظام، وقمع الانتفاضة بالبحرين، إذ أدى انحياز الجيش للنظام، وانبعاث المرض الطائفي والانقسام المذهبي والقبلي والمجتمعي ومحاولة إفراغ الانتفاضة من عمقها السلمي والمدني، إلى تغييرٍ في مصير الثورة ومساراتها، وأبرز مشاهدَ ثوريةٍ مغايرةٍ ومتفاوتةٍ ومتعددة، كما يعتبر ذلك أحد أسباب التمايزات بين دولة الربيع العربي بخصوص الانتقال وإشكالاته وتحديات بناء الدولة من جديد، وأيضا طبيعة القوى الفاعلة فيه. بالطبع وصلت المجتمعات العربية حالة من الانسداد فجّرتها الثورة التونسية ووسّعت أفقها التحرري الثورة المصرية. وهكذا تخلق من رحم الثورة العربية لحظة فارقة في مسار الحياة السياسية العربية، تُتَوِج لانبعاث دورة حضارية جديدة للأمة العربية الإسلامية بوصفها فاعلا جوهريا في حركة التغيير الثوري لتكون مقدمة لتحولات ثقافية وفكرية وسياسية في تاريخ المجتمعات العربية، يقودها التيار الأساسي في الأمة والقوى الاجتماعية الجديدة. نحن أمام تحولات حضارية حادة أكبر من وصفها ثورة أو ثورات، ولا يمكن إدراكها من خلال أدوات التفكير الغربية أو إسقاط تجارب ثورات تاريخية عليها أو استعمال النماذج التفسيرية الغربية في تفكيكها وتحليل أبعادها المركبة، فقد أصبحت المقولات التي أنتجها الفكر السياسي والفسلفي الغربي متجاوزة، خصوصا اشتراط قيادة مركزية كاريزمية ملهمة وطليعة ثورية وتنظيم سري وشعارات مركزية جاهزة يتبناها التنظيم والمثقفون والقاعدة الجماهيرية لقيام الثورات، مما يبرز الحاجة الملحة إلى مراجعة وتجديد فكري ومنهجي في أدبيات علم الاجتماع والسياسة، ورؤيتها المعرفية والمنهجية. وقد حاولت في كتابي حول»فلسفة الثورات العربية» تجاوز مأزق العلوم الاجتماعية المعاصرة ونحت نموذج مركب في قراءة الظاهرة الثورية العربية ووضعها ضمن إطار منهجي ومعرفي كلي يسعى لتفكيك بعض دلالاتها وأبعادها ورموزها ضمن الإطار «الحضاري العربي الإسلامي»، أسميته بنموذج»التغيير الثوري الانتفاضي المقاوم» الذي يقدم منظورا تركيبيا للتحولات السياسية والانتفاضات الثورية ولطبيعة الحركات الاحتجاجية الجديدة التي ثارت على الاستبداد والفساد وطالبت بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وقامت بالتركيب الخلاق بين منطق الهوية والسيادة والمواطنة، وتجاوز التقابل الوهمي بين الثورة والانتفاضة في الخبرة الحضارية العربية مستندا إلى ثنائية الاتصال والانفصال، فالحراك الثوري ينفصل عبر خيار الثورة عن الظلم والاستبداد والقهر والطغيان ونماذج التنمية التسلطية ليتصل بالهوية والذاكرة والمرجعية والديمقراطية والقيم الحضارية والتنمية المستقلة المركبة، مقاوما وممانعا أشكال التجزئة والتبعية والاستلاب والتغريب. إنه انفصال كلي عن نموذج الدولة ضد الأمة واتصال ثوري وحضاري بنموذج الأمة الفاعلة والقادرة والقوية، الأمة التي استعادت حاكميتها على نفسها فهي مناط الشرعية ومصدر السلطات، في تطلع نهضوي عميق لبناء علاقة جديدة بين الماضي والحاضر والمستقبل وتأسيس علاقة مختلفة أساسها عقد اجتماعي وسياسي جديد بين الدولة والمجتمع. ومن ثم فالنموذج المقترح لا يطرح قطيعة كلية مع نظام القيم والمرجعية والهوية وذاكرة الأمة وحضارتها المتألقة وروحها المتجددة، بل هو موصولٌ بالأبعاد الحضارية والقيمية والاجتماعية والإيجابية للمجال العربي التداولي الإسلامي. إذا فهو نموذجٌ تحكمه ثنائية الاتصال/الانفصال؛ أي اتصالٌ بالهوية والذاكرة والقيم النبيلة، وانفصالٌ عن قيم الاستبداد والظلم؛ فجوهر النموذج هو الإنسان الثائر في إيمانه بعالم أفضل وقدرته على التسامي على أنانيته ومصالحه الضيقة وطائفيته والتعالي على قيم الانحطاط والتخلف وعن الواقع الاستبدادي. أما التبخيس الخفي لما أنجزته وراكمته هذه التحولات على مستوى تفجيرها للمفاهيم والنظريات السائدة وأيضا في تغييرها لمنطق السياسة وفلسفة الحكم ونسق الثقافة السائدة، فهو عبارة عن تقديم خدمة مجانية لمنطق الاستبداد الناعم والدولة العميقة الساعية إلى تشويه أناقة الشعوب وتحرر الجمهور والسعي من جديد للوصاية عليه، وهو تأكيد أيضا لمقولة مغرضة تلمح بأن الاستبداد العربي ومنطقه ونسقيته المتغولة كان أرحم بالشعوب من حالة الفوضى أو من تعقد مراحل الانتقال الديمقراطي أو حتى من صعوبة التوافق على أسس بناء دولة ديمقراطية حقيقية. ● قمتم في كتابكم «فلسفة الثورات العربية» بتحليل اللحظة الثورية، لكن بعد مرور قرابة سنتين على بداية هذه الثورات، برأيكم، هل حصلت تغيرات عميقة في كل النواحي خلال هذه المرحلة الانتقالية؟ ❍ علينا أن نميز في المشهد الثوري العربي، بين ثلاث لحظات، الأولى هي اللحظة الثورية التي فجرت القيم الإيجابية والنبيلة في الإنسان العربي، المندهش من قدراته وطاقاته ورومانسيته ورقيه الأخلاقي والحضاري، مكسرا بذلك حاجز الخوف وسيكولوجية القهر، برزت في أجوائها ذاتية مستقلة متمردة ومتحررة من القيود التنظيمية والحسابات السياسية في شكل قوة شبابية وحركة شبابية اجتماعية ما فوق حزبية. لكن ينبغي الانتباه إلى أن اللحظة الثانية وهي اللحظة الانتقالية تشهد منطقا مختلفا تتوارى فيه القيم الحضارية الإيجابية إلى حالة من الانقسام والاستقطاب والصراع السياسي والانتخابي الضيق، بل تنبعث العقلية الطائفية والمذهبية ويرتدي الجميع عباءته الإيديولوجية محاولا امتلاك السلطة وادعاء الشرعية الثورية وإقصاء الآخر، فنصل إلى حالة من الصراع على الدولة، بدل التفكير الجماعي في بناء توافقات تاريخية وتفاهمات كبرى لضمان انتقال ديمقراطي سلس وعميق قائم على محاربة فكرة المؤامرة والاحتكام إلى صناديق الاقتراع. طبعا في هذه المرحلة الثانية وفي اللحظة السياسية «الدولتية» (المرحلة الثالثة)، يكون هناك تفاعل مباشر وغير مباشر للفاعل التنظيمي والفاعل الخارجي مع الفاعل الثوري وباقي الفاعلين، من أجل مزيد من التحكم في المشهد الثوري خصوصا ونحن أمام جماعات ثورية لم تحكم مباشرة، لكن رغم كل محاولات تشويه اللحظة الانتقالية، فأنا أعتبر أنها مرحلة طبيعية تمر منها كل التحولات التاريخية ذات البعد الحضاري، فهي لحظة تمرين ديمقراطي وتأسيس لفضاءات الحرية وتعلم عربي ذاتي (جمهورا ونخبا وأحزابا وقوى وحركات) لآليات ومنهجيات القطع مع النسق الاستبدادي وثقافته وقيمه ومحاولة بناء مجال عام عربي منفتح ومتعدد. أما إحدى أهم ضمانات إنجاح المرحلة الانتقالية سياسيا ومجتمعيا وحضاريا فيتجلى في إطلاق ثورة ثقافية ودينية وفكرية وقيمية جذرية ذات عمق حضاري كفاحي، تكون رافعة لتنزيل مشاريع نهوض حضاري جديدة متطورة وملائمة للعصر، تجعلها مركبا للسيادة والاستقلال واستعادة المبادرة؛ فضلا عن ارتكازها على إعادة تشكيل حضاري جديد لعالم الأفكار والأشياء والأشخاص والأحداث وإعمال ثقافة النقد الثوري والمراجعة الذاتية لتصحيح مسار الثورة والإصلاحات ومقاصدها الكبرى. فصناعة السياسة تعني في آخر المطاف، صناعة الثقافة على حد تعبير مالك بن نبي. فالحاجة ملحة بعد طهرانية اللحظة الثورية، وتخلق الرأي العام وخروجه من سلبيته وخوفه مغادراً فضاءه الخاص لاستعادة الفضاء العام دفعاً للظلم، وتحقيقاً لقيم العدل والحرية والكرامة، وترسيخاً للمعاني الحضارية المشحونة بالقيم التراحمية والتضامنية الإيجابية، إلى تجديد وإصلاح النظام الفكري والمعرفي والقيمي للمجتمع بكل مؤسساته وتياراته وفاعليه. ● كيف تقرؤون مستقبل الثورات؟ هل تتوقعون حدوث تحولات على مستوى النخبة والإنسان العربي؟ ❍ لقد ساد الاعتقاد عند الباحثين في العلوم السياسية بأن السياسة»علم» بإمكانه اكتشاف قوانين حتمية صلبة قادرة على التنبؤ بالظواهر استنادا إلى دراسات تجريبية ودراسات حالة تنطبق على حالات متعددة، لكن ما حدث في المنطقة العربية تسبب في صدمة نظرية، فلم يكن أحد قادرا على التنبؤ بما حدث، رغم وجود نظريات «أثر الانتشار» و»نماذج الدومينو» ومقولات «الفوضى» و»أثر الفراشة»، ومن ثم فعلى العلوم الاجتماعية والسياسية، مؤسسات ومراكز أبحاث وباحثين، التحلي بقدر من التواضع العلمي والمنهجي وبالنسبية في تحليل الظاهرة العربية الجديدة فما بالك بتقديم استشراف عن مستقبلها وطبيعة تطوراتها، لكن يمكن القول أن مستقبل الحالة الثورية وما بعدها يتحدد بحجم التفاعل والصراع والتدافع بين مختلف استراتجيات الفاعلين المتدخلين في الحالة الانتقالية والوضع السياسي ولحظة إعادة بناء الدولة، كما أنه مرتبط بأنماط التفاعل المركبة بين المجتمع والدولة، وبمدى نجاح مسار الإصلاح السياسي والدستوري الممزوج بالعدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة والسلطة والانفصال عن فلسفة النموذج التنموي الحاكم ما قبل الربيع العربي، بالإضافة إلى وعي حجم التحديات الداخلية والخارجية الكبرى التي تهدد الثورة والمجتمع والدولة معا؛ وعلى ضوء هذه التفاعلات، يمكن وضع ثلاثة سيناريوهات تبقى نسبية للمرحلة الانتقالية، كالآتي: - السيناريو الأول هو تحقيق انتقال ديمقراطي حقيقي يرسي قواعد نظام سياسي مفتوح وديمقراطية تداولية وعدالة اجتماعية وقضاء مستقل ونزيه، يقطع مع النسق الاستبدادي السابق سياسيا وثقافيا وقيما واقتصاديا، بشكل يحول دون عودة احتكار السلطة والثروة. - السيناريو الثاني هو الانتقال نحو إنجاز ديمقراطية هشة قابلة للانفجار، بدون قواعد واضحة ومؤسسات متجذرة، من خلال الالفتاف على المطالب السياسية والاجتماعية والحقوقية ومحاولة التكيف مع الرجة الثورية إلى حين مرورها والعودة للمنطق التسلطي في قوالب جديدة رخوة وناعمة وذكية لكنها متغولة على المجتمع ومتحكمة في مفاصله. - السيناريو الثالث يتمثل في حدوث فوضى تنتعش فيها القوى المضادة للثورة، فتعبر عن حصول انتكاسة ديمقراطية يتم فيها إعادة إنتاج الاستبداد بطرق التفافية جديدة.