عبر كثير من المثقفين العرب عن وقع المفاجأة أمام الانتفاضات العربية التي لم يتوقعوا حدوثها، من حيث سرعة انجازها وتوقيتها بالرغم أن تاريخ الثورات يؤكد بالملموس أنها لا تخضع دائما للحتمية الآلية. والدليل على ذلك أن مؤسس التفكير الجدلي كارل ماركس كان يتوقع أن تحدث الثورة الشيوعية الأولى في بلد مثل انجلترا. لامتلاكها لطبقة بورجوازية متنورة، وتنظيم عمالي قوي، لكن مكر التاريخ شاء أن يخيب توقعه، حيث حدثت هذه الثورة في بلد فلاحي هو روسيا القيصرية التي كانت آنذاك تفتقر لهذه الشروط الموضوعية. إن عامل المصادفة الذي توحي به هذه الثورات هو نتاج تضاريس تاريخية من الإحباط والفساد وعلاقات التسلط والهزائم الفجائعية. التي بقيت في حالة كمون إلى أن توافر لها فتيل الاشتعال، تشبه بركان فيزوف الذي لا يعرف الايطاليون متى يستيقظ. قد يكون سببه مجرد حادث عارض كما حدث مع واقعة البوعزيزي، أو قد يكون سلوكا مترددا في الاستجابة الآنية كما يحدث اليوم في سوريا، أو استبدادا طال أمده لعقود مقترنا بحرمان الشعب من أبسط الشروط الدنيا لبناء الدولة الحديثة كما يحدث في ليبيا أو تجييشا للصراع القبلي والمقايضة بالخطر الإرهابي، ضمانا لعدم المتابعة والمحاكمة العادلة كما يطالب بذلك حاكم اليمن السعيد. تمثل ثورة 25 يناير في ميدان التحرير، منعطفا متميزا في مسار الحراك العربي، بالرغم من عدم اقتناعنا بوجود مفاضلة معيارية بين الثورات، لقد كان لثورة تونس شرف السبق التمهيدي، الذي صارت على منواله باقي الانتفاضات العربية اللاحقة، من حيث أسلوب العمل والنتائج التي تمخضت عنها وأدت إلى رحيل حاكم تونس القوي. لكن التجربة المصرية في التغيير والثورة، تمثل المختبر التاريخي لما سيؤول إليه مستقبل الشعوب العربية في الألفية الثالثة، نظرا لوضعها الجيو سياسي ورصيدها الريادي في النهضة والتقدم، ولوجود نخبة ثقافية عريضة لها تجربة غنية في ديمقراطية التعدد الحزبي، تعود إلى أكثر من قرن من الزمن وتمرين في ممارسة الإصلاحات الدستورية، انطلق منذ العقدين الأولين من القرن الماضي. سر القوة في الثورات العربية الجديدة، أنها لم تقم بتوكيل خارجي، ولهذا السبب تعذر على نظام مبارك وبقية الأنظمة العسكرية أن يتهموها بخدمة أجندة أجنبية، لقد اشتركت الثورات العربية في توظيفها لقاموس حضاري يتسلح بالدعوة المسالمة إلى التغيير والديمقراطية والوعي المدني التواق إلى الحرية والكرامة. إنها ثورة تفتقر إلى قيادة رائدة أو طبقة طليعية على شاكلة الثورات التقليدية، لأن شباب الفايسبوك لا يؤمرون بتوجيه عمودي بل يعتمدون في حراكهم على التشعب الأفقي المتفاعل مع بقية المتحاورين كأنداد. كما أنها ليست بشرقية أو غربية يكاد نورها يضيء جميع البلدان العربية، تؤرخ لجيل جديد من الثورات الإنسانية وتفند كل التحليلات المكررة لعلماء الاقتصاد السياسي وأدبيات الثوريين التقليديين، القائلين بعدم حرق المراحل، وضرورة التدرج المعتمد على تراكم التجربة ونضج الظرف التاريخي. لقد انطلقت هذه الثورة بأصوات شبابية، لكنها تحولت إلى ثورة شعبية، لأن جيل الشباب يتقاطع مع مختلف الطبقات وينصهر داخل كل الفئات الاجتماعية. هناك أسئلة عديدة تطرحها الثورة العربية الجديدة، قد يتطلب منا كمثقفين أن ننتظر زمنا طويلا لاستيعابها وإدراكها، لكن أهم ما في هذه الحوارات مع المثقفين المغاربة أن نقترب قدر الإمكان من جذوتها وسخونتها، في محاولة لفهم ما جرى ويجري حاليا. { تعدد حاليا توصيف هذا الحراك الجماهيري، هل يتعلق الأمر بحركة إصلاحية أم بثورة شعبية أم أنها مجرد ثورة عابرة؟ لا شك في أن ربيع 2011، ينطبق عليه توصيف ربيع الثورات العربية، فما حدث في تونس ومصر، هو بالفعل ثورة شعبية، انتشر لهيبها ليشمل، وبنفس الشعارات والمطالب، باقي دول الخريطة العربية، من المنامة.. إلى طرابلس، ما وضع العالم أمام مشهد ثوري، عز نظيره، قلب كل الحسابات الإستراتيجية لأقطابه.. وأربك ألأنظمة العربية الفاسدة... والفاقدة للشرعية الشعبية.. هي ثورة شعبية في تونس، ضد نمط حكم ديكتاتوري فاسد، وهي في مصر ثورة ضد منظومة سياسية قمعية استبدادية، حكمت بقانون الطوارئ، وضد حزب حاكم.. باع كل شيء لإرضاء الإستراتيجية الأمريكية الإسرائيلية في المنطقة: باع الغاز المصري بأبخس الأثمان لإسرائيل، وباع القطاع العام، وباع المقاومة الفلسطينية لأعدائها.. رضي خانعا بلعب دور الحارس الأمين للحدود الإسرائيلية، مغلقا كل منافذ الحياة على أهل غزة المحاصرة.. شعب مصر بتاريخه الوطني والقومي المجيد، وصبره المعهود... ثار أخيرا، على هذا الاستهتار بالمصالح الوطنية والقومية والشعبية... فكان شبابه فتيل الثورة.. وكانت كل الأجيال المصرية أمواجها العاتية... ولكنها ثورة شعبية لم تكتمل.. إنها مستمرة إلى أن تتحقق أهدافها في دولة وطنية ديمقراطية، ومجتمع يحقق لكافة أبنائه الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية..فليست هناك ثورة تبلغ، بين ليلة وضحاها..كل أهدافها. { بدأت ثورة تونس بقصيدة إرادة الحياة لأبي القاسم الشابي، إلى أي مدى يمكن القول إن الشعر مازال يمثل ديوان العرب؟ ثورة تونس بدأت بالنار، التي أشعلها المواطن الحر البوعزيزي في جسده، الذي قدمه فداء لتونس حرة وديمقراطية، بعد أن نفد صبر الشعب، وطاقة تحمله لنظام استبدادي فاسد.. تلك النار التي أحرقت جسد البوعزيزي، هي نفسها التي أوقدت ثورة الشعب التونسي وأججت في كل أجياله إرادة الحياة... ولم تكن قصيدة أبي القاسم ألشابي، الخالدة.. سوى تعبير عن صلابة هذه الإرادة.. التي تناطح ا لقدر.. الشعرألاصيل، المعبرعن التطلعات الطبيعية للاسان، للحرية والكرامة والعدل.. لايموت.. انه يتحين لحظات قدومه من بعيد، ليعانق حالات امااجتماعية أووجدانية عاطفية، أوحالة ثورية معينة..الشعر رفيق حياة ودرب.. هكذا كان وما زال.. وفي تاريخ نضال الشعوب، كان الشعر دائما حاضرا في أتون معاركها وحروبها وثوراتها... والأمثلة عديدة، من نجيب ريس السوري الذي أنشد «يا ظلام السجن خيم.. إنا نهوى الظلام: فليس بعد الفجر غير نور يتسامى»، وذلك في غمرة نضال الشعب السوري ضد الانتداب الفرنسي. إلى البياتي وأحمد مطر في العراق ومحمود درويش وسامح القاسم في فلسطين، وعلال الفاسي والمجاطي وبنيس، وعبد الله راجع، وعبد اللطيف اللعبي في المغرب واللائحة طويلة، وطنيا وعربيا وعالميا... إن التحام الشعر بالثورة ظاهرة تاريخية ثقافية وسياسية.. تؤكد حقيقة كونهما وجهين لعملة واحدة: الحرية.. لذلك، كان طبيعيا أن تكون لقصيدة الشابي هذه المنزلة.. العاكسة للمضمون العميق للثورات الجارية: إرادة الحياة الحرة والكريمة. { قبل ثورة الياسمين في تونس، كان يتم الحديث عن قمة عربية للثقافة، كيف تنظر إلى مستقبل الثقافة العربية بعد هذا الحراك الديمقراطي، الذي يعم جميع الأقطار العربية؟ لا أتوقع الشيء الكثير من مثل هذه القمة، لو عقدت قبل الثورات العربية ،ولا حتى أثناءها، لأن التجربة علمتنا، ومنذ عقود على إنشاء الجامعة العربية، أن قمما من هذا النوع ظلت عقيمة..لا تتجاوز حدود الخطب المنبرية العصماء، والتوصيات الفضفاضة التي لا يلتزم بها أحد على مستوى التنفيذ... مستقبل الثقافة العربية، لا ينفصل عن حاضرها وعن ماضيها، فنفس إشكاليات النهضة الحضارية، مازالت تطرح نفسها على جدول أعمال الثقافة العربية، رغم كل التقدم الحاصل على مستويات متعددة، ومتفاوتة من بلد إلى بلد، وهو التفاوت الذي لابد من استحضاره اليوم { لماذا نجحت الثورتان التونسية والمصرية في إزاحة رؤوس أكثر الأنظمة العربية استبدادا؟ وتعثرت لحد الآن في اليمن وليبيا وفشلت في البحرين؟ بالتأكيد هناك عوامل أخرى، ولكن للعامل الثقافي هنا قوة تفسيرية، أساسية في فهم اختلاف مسارات الثورات العربية،وعسر مخاضاتها ، وفي استشراف الأفاق الممكنة، لبلوغ أهدافها.. الحراك الديمقراطي والثوري الجاري، يطرح أسئلة كبرى على الثقافة العربية، و بخاصة، على «المفكرين الاستراتيجيين»، ترتبط بطبيعة ومكونات المشروع الديمقراطي الحداثي والنهضوي العربي، وعلاقته بقضايا الهوية ،والإصلاح الديني، وترسيخ أسس الثقافة الديمقراطية في المجتمع، والتمثل المعرفي وا لعملي للقيم الكونية لعصرنا.. وبكلمة إنجاز قطيعة مع كل رواسب البنية الثقافية التقليدانية ،التي تتغذى منها النزعات والقوى المحافظة والظلامية في مجتمعاتنا، التي تزخر بالتنوع الطائفي والعرقي والديني والمذهبي، الذي يهدد باستمرار هذه المجتمعات بالتفتت والصراعات الداخلية المدمرة، في غياب التدبير الديمقراطي العقلاني لذاك التنوع لمكونات النسيج المجتمعي..لقد أنتج المثقفون العرب الكثير حول هذه الموضوعات والإشكاليات... ليبقى السؤال هو: كيف يتم تجسيرالفجوة بين المثقف والمنتوج الثقافي، وبين دينامكية المجتمع.. بين الفكرة والممارسة التي وحدها تشكل جسر العبور نحو تحققها الفعلي ... { حدثت هذه الثورات في زمن تقلص فيه المد الثوري بمرجعياته الكبرى المؤطرة له كيف تقرؤون هذه المفارقة؟ يحيل هذا السؤال ضمنيا على مقولة «نهاية الإيديولوجيات» التي شكلت مرجعيات للثورات التي عرفها التاريخ.. وهي مقولة «إيديولوجية» بامتياز، بالمعنى السيء للإيديولوجية، كتصور فعل.. لتحريف الواقع وتزييفه... فليست هناك ثورة في التاريخ بدون إيديولوجيا قائدة، معبئة، موحدة .. والثورات العربية المستمرة لاتخرج عن هذه القاعدة... ففي ساحاتها تتلاقى،وتتقاطع مرجعيات إيديولوجية متعددة ومتباينة ،من اشتراكية ديمقراطية ،ونيوليبيرالية ، وإسلامية بمختلف أطيافها ،وقومية يسارية المنحى ،إضافة إلى مرجعية الحداثة بمختلف تبنيانها ،خاصة ،التبني الذي يختزلها في الدعوة إلى العلمانية ... في ميدان التحرير بمصر،كل هذه المرجعيات الكبرى حاضرة إلى الآن ،ولها تأثير على مسار الثورة ومستقبلها .. وإذا كانت الثورتان ،التونسية والمصرية قد نجحتا في قطع نصف الطريق ، فإن التحدي الذي يواجههما بعد إسقاط رأسي النظام ، هو: كيف الوصول إلى تحقيق القطيعة مع نمط الدولة المستبدة على قاعدة اتفاق سياسي بين مختلف مكونات «المشهد الثوري»، على تعدد واختلاف مرجعياتها ؟ ولاشك في أن مدخل إعادة بناء الدولة على أسس ديمقراطية ،يفرض صياغة أرضية « للمشترك الوطني» يشكل قاعدة لتوافق سياسي حول استحقاقات المرحلة السياسية الراهنة، للحفاظ على مكتسبات الثورة، من جهة، وإرساء قواعد الانتقال الديمقراطي ،من جهة ثانية .. { تتسم هذه الثورات بالتلقائية «والعفوية» وهذا يؤكد غياب المثقفين. كيف تفسر هذا الغياب في التأطير وتشكيل الوعي في هذه الفترة الحرجة من تاريخ المجتمعات العربية ؟ هناك شقان في السؤال: الأول، يتعلق بمسألة العفوية ،كسمة من سمات الثورات العربية الجديدة.. فلابد هنا من الإشارة إلى أن الثورات، كل الثورات، لا تخلو من جانب عفوي، فليست هذه أول مرة تشتعل ثورات بشكل عفوي وفجائي.. فالثورة..هي تعبير عن بلوغ الاحتناق الاجتماعي والتذمر الشعبي أقصى درجاتهما، بحيث يصبح الانفجار في أية لحظة - وبفعل أي حادث طارئ وعابر- ممكنا (كصفع الشرطية للشهيد البوعزيزي) . إن الثورتين الفرنسية والبلشفية اتسمتا في كثير من جوانبهما بالعفوية، و شهدتا أطوارا دامية، لم يكن الحزب القائد متحكما في تفاصيل مساراتها.. وحدها الانقلابات خالية من أي مظهر من مظاهر العفوية. أما الشق الثاني، فأظن أنه من غير المنصف، تفسير هذه العفوية التي وسمت الثورات العربية بغياب المثقفين، ذلك أن نمطا جديدا من المثقفين الشباب هو الصانع الرئيسي لهذه الثورات، وأن معظم المثقفين المصريين والتونسيين، من كتاب وفنانين ومبدعين ومخرجين.. الخ ،كانوا في قلب ميادين الثورة. إن المثقف -بالمعنى الكلاسيكي - ليست مهمته ضبط الشارع، ووضع إشارات المرور للثورة كي لا تسقط في العفوية.. بل مهمته استشراف أفقها، وتعزيز مبادئها وقيمها البديلة، والتحذير من الأوهام التي تصاحب كل ثورة وتهددها بمخاطر كبرى ,قد تؤدي بها إلى الارتداد عن نفسها،وكذلك، المساهمة المعرفية والعملية في توجيه سيرورة التغيير، لحمايتها من كل النزعات اللاعقلانية أو الماضوية أو العدمية .. { دأب الكثير من الأطروحات النيوكولونيالية على ترويج الفكرة القائلة بأن الشعوب العربية لها القابلية للاستبداد والعبودية، كيف تنظر إلى مثل هذه المواقف ذات الحمولة الاستشراقية ؟ عيدا عن الأطروحات الاستشراقية، النيوكولونيالية ، ذات الطابع الإيديولوجي المتهافت والمضلل علميا، تشكل العبودية ظاهرة تاريخية لم تنج منها أية حضارة أو ثقافة، منذ الإغريق إلى عصرنا، من عبودية نظام الرق إلى عبودية العمل المأجور في العهد الرأسمالي.... والشرط العبودي في الوضع البشري مازال مستمرا، (ليس عند العرب والشرق عموما)، وذلك في شكل رواسب ثقافية تقليدية ،وبنيات سيكولوجية ، يشكل الخوف والطاعة والولاء والاستعداد لخدمة الأقوى ،عناصرها الجوهرية التي لا يمكن تفكيكها الابترسيخ أسس الثقافة الديمقراطية ومبادئها، و قيم المواطنة.. التي تقطع مع ثقافة وسيكولوجية الرعية... وهذه إحدى المهمات الكبرى للفعل الثقافي.. كما تمت الإشارة إليه سابقا.. في انتظار أن تنضج الملامح الموضوعية لهذا الحراك العربي، يجد الملاحظ نفسه بين رؤيتين متناقضتين حيث تتحمس الأولى لما يحدث الآن، معتبرة إياه بارقة أمل حقيقي للقطع التام مع زمن القهر والخوف والإهانة الممنهجة التي طالما عانت منها الشعوب العربية، نجد بالمقابل أصحاب الرؤية الثانية انطلاقا من تبنيهم لنظرية المؤامرة، يختزلون الأمر في مقولة دسائس الغرب ومقالبه الموجهة ضد أمن واستقرار الغرب والمسلمين قاطبة، كيف تنظر من جهتك إلى الرؤيتين؟ * الرؤية الأولى هي السائدة، بقوة وتلقائية داخل الأوساط السياسية والثقافية، وعلى مستوى شعبي واسع، في الدول العربية وخارجها، وهي الرؤية التي دافعت عنها في أكثر من مقالة ومناسبة.. إن ما يجري من حراك سياسي واجتماعي في هذا الربيع العربي، الذي عز نظيره، هو مخاض سيطول أمده.. وسيلد بدون شك مواطنا عربيا جديدا ونمط دولة جديد، وسيسهل الاندماج العربي في قيم العصر الكونية.. وسيصبح من باب الاستحالة قيام أو انبعاث أنظمة حكم على شاكلة أنظمة بنعلي ومبارك والقذافي وصالح وغيرهم.. أما عن قصة المؤامرة.. فأعتقد أن فيها قفزا «بهلوانيا» على الحقائق كما هي ماثلة صارخة أمام الأعين والأبصار التي لا غشاوة عليها.. هل يمكن أن نصدق أن أمريكا وإسرائيل متآمرتان على مبارك وهو»كنزهما الاستراتيجي في المنطقة» بتعبير ناتانياهو؟..لقد انطلقت المؤامرات فعلا، بعد نجاح الثورات الشعبية في تونس ومصر في إسقاط رأسي الفساد والاستسلام والخنوع بنعلي ومبارك.. حيث يحاول الغرب وأمريكا إيجاد قدم لهما في المخاض الجاري.. وترجيح سيناريو على آخر.. يقلص من خسائرهما الإستراتيجية بالمنطقة، خاصة ما يتعلق بأمن إسرائيل والعلاقة مع إيران. وقد نجحت مؤامرات الغرب وأمريكا وحلفائهما في المنطقة، في إجهاض ثورة الشعب البحريني.. وتعمل الآن جاهدة على اختراق الحراك في سوريا واليمن.. ولكنها مؤامرات محكوم عليها بالفشل ،لفقدان كل من ورائها، لأية شرعية سياسية، ولتصميم الشعوب الثائرة على بلوغ أهدافها في الحرية الكرامة والسيادة الفعلية ... عند الحديث عن العدوى الديمقراطية التي تجتاح العالم العربي، يتم الحديث عن الاستثناء المغربي ما هي معالم هذا الاستثناء إن وجدت؟ * أفضل كثيرا عدم استعمال وصف «استثناء» عندما يتعلق الأمر بالحديث عن المغرب، لأنه يضمر، خطابا فرحا بذاته، وتنتج عنه أخرى لاتختلف كثيرا عن خطابات «العام زين» .. هناك مشترك عربي متمثل في معضلات الفقر والبطالة والإقصاء الاجتماعي واللاعدالة الاجتماعية ..الخ، وهي العوامل الحقيقية التي تكمن وراء كل هذا الحراك النوعي .. وللمغرب نفس المعضلات التي تقف وراء كل الحركات الاحتجاجية، التي لم تتوقف طيلة سنوات، وازدادت تصاعدا، لتتوج بميلاد حركة 20 فبرايرفي هذه اللحظة العربية التاريخية والانعطافية.. كل ذلك جرى ويجري ضمن مسار مغربي له سماته الخاصة، المستمدة من الثوابت المؤسسة للدولة المغربية، والمحافظة لها على استمرارية مؤسساتها، من جهة، ومنذ دخول البلاد منذ منتصف التسعينيات في مسلسل إصلاحي وتصالحي، أطر المشهد السياسي الوطني.. ورغم بطئه وتردداته وتراجعاته أحيانا، فقد راكم هذا المسلسل الإصلاحي التوافقي مكتسبات نوعية كالمصالحة مع ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. ومع المرأة من خلال إقرار مدونة جديدة ونوعية للأسرة، ومع الامازيغية، كمكون من مكونات الهوية الوطنية.. الخ ويمكن القول، اليوم، بأن الاصلاح الدستوري، الذي ظل مطلب القوى السياسية الديمقراطية، المناضلة لسنوات من أجل الاستجابة له،يشكل تتوجا لهذا المسار الإصلاحي، وتفاعلا ايجابيا مع الحراك السياسي والاجتماعي العربي، ومع حركة 20 فبراير، التي وضعت مطلب دستور جديد، في صدارة مطالب تظاهراتها المنتظمة.. وبإقرار هذا الدستور الجديد..يكون المغرب وسط فوران الثورات العربية ودمائها ، قد قدم نموذجا للحل الديمقراطي الممكن، والمتجاوب مع التطلعات الشعبية إلى إرساء أسس الدولة الوطنية الديمقراطية.. هل تعتقد أن الإصلاحات الدستورية التي تنهجها بلادنا ستؤهل المغرب، إلى الانتقال إلى الديمقراطية التي طال أمدها؟ * بالتأكيد، فالمغرب منذ خطاب الملك في 9 مارس، واستفتاء فاتح يوليوز، دخل مرحلة سياسية جديدة، ستحكمها مقتضيات وضوابط الدستور الجديد سواء فيما يتعلق بالعلاقة المتوازنة بين السلطات، أو ما يتعلق بالحقوق الاجتماعية والسياسية والثقافية.. إلى غير ذلك.. إن الجوهري الآن بعد إقرار هذا الدستور، الذي سال مداد غزير حول جدته وأفقه ، هو توفير الشروط الملائمة لتنزيله على أرض الواقع ،دون الانحراف عن روحه ونصه ومقتضياته، وفي مقدمة هذه الشروط إقرار إصلاحات سياسية جذرية لكل القوانين المؤطرة للمؤسسات المنتخبة وهي العملية الجارية الآن ، وإجراء انتخابات حرة نزيهة، تؤهل مؤسسة البرلمان لتكون في تركيبتها الجديدة في مستوى الاضطلاع بالمهمات والصلاحيات الموكولة إليها في هذا الدستور، وفي مستوى إفراز حكومة قادرة على بناء شخصيتها المختلفة عن ما عهده المغاربة ، طيلة نصف قرن من حكومات «الموظفين» ألمسلوبي الإرادة والقرار، وذلك لتتمكن من القيام بالوظائف الجديدة الموكولة إليها في الدستور الجديد .. المهم، هو أننا اليوم، نسير في اتجاه أفق واضح، صوت عليه الشعب، هو أفق الملكية البرلمانية.. مما يطرح على عاتق القوى السياسية الوطنية والديمقراطية، التي ناضلت من أجل دستور ديمقراطي.. أن تجمع قواها لبلوغ هذا الأفق بوتيرة أسرع، وحمايته من «تأويلات» وتحرشات خصوم الديمقراطية ولوبيات الفساد .. من مضمرات الفكر السياسي النظر إلى الحركة الإصلاحية باعتبارها نتاجا لتحول في سيرورة الوعي المعرفي، بينما نجد أن النخب المغربية تحاول الالتحاق بهذه التحولات، هل تعتبر ذلك نتيجة لوجود أزمة تستدعي ضرورة التسريع بثورة ثقافية؟ * نعم، هناك اليوم أزمة نخب بشكل عام، بالمفهوم الغرامشي للنخب، باعتبارها طرفا عضويا في عملية التحول والتغيير، تؤطر، وتقود بالفكر والممارسة هذه العملية...لا شك في أن الأفق الذي تحدثت عنه أعلاه... سيظل بلوغه رهينا بتجديد النخب، وخاصة السياسية والحزبية والمدنية بشكل عام وبتجاوز الحقل الثقافي ونخبه لكثير من الاعطاب التي تشل تفاعله المطلوب والفاعل مع الحركية المجتمعية التي نعيش فصولها.. يقول بعض الباحثين، إن ظهور الإسلام السياسي في العالم العربي هو نتاج للجمود السياسي، وأن هذه الثورة الديمقراطية هي بمثابة صمام أمان ضد الإسلام الراديكالي؟ * أظن أن ظهور الإسلام السياسي في العالمين العربي والإسلامي، مرتبط وثيق الارتباط بعاملين رئيسين: التحديث المشوه الذي عرفته المجتمعات العربية، وما نتج عنه من مفارقات اجتماعية وسياسية وثقافية، حيث يتعايش داخلها الفقر المدقع بالغنى الفاحش، ومدن القصدير إلى جانب السكن الفاخر، وآخر صيحات الموضة الفكرية إلى جانب ثقافة عذاب القبور وفتاوى معاشرة النساء... إضافة إلى الاستبداد السياسي لحكام جعلوا الإسلام في خدمة الغرب وأمريكا ومصالحهما الإستراتيجية.. أما العامل الثاني فهو السياسة الدولية غير العادلة تجاه قضايا العرب المسلمين، من احتلال وتواطؤ مع الصهيونية العالمية، وربط تعسفي للإرهاب بالهوية الإسلامية، هذا من جانب، أما بخصوص علاقة الإسلام السياسي بالثورات العربية، فلا بد من ملاحظة أن الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، هي مكون رئيسي من مكوناتها،تتطلع إلى لعب دور مركزي في المرحلة القادمة، سواء في تونس مع حركة النهضة، أو في مصر مع الإخوان المسلمين الذين أسسوا حزبا لهم هو حزب العدالة والحرية... ويبقى الحل الديمقراطي هو صمام الأمان الحقيقي، ضد التطرف الإسلاموي، وعليه فإن اتفاقا سياسيا بين مكونات الثورات العربية خاصة في تونس ومصر، من شباب وطني علماني التوجه في معظمه، وقوى وطنية، من أحزاب وطنية وقومية ويسارية، واتجاهات إسلامية، من إخوان مسلمين وسلفيين.. هو ضرورة قصوى، لحماية الثورة من سرقة أهدافها.. ومن التحركات التآمرية المقلقة، لثورة مضادة تتهيأ في الظلام. ...فالثورة، في الأخير، لا يوصلها إلى خاتمتها المنشودة، غير الحل الديمقراطي التوافقي والتعاقدي.. وإلا تخطف مكتسباتها ..أو تأكل أبناءها... إن القاسم المشترك بين الثورات العربية يتمثل في مبادرة الشباب إلى إشعالها، هل ترى أن المحللين السياسيين والمثقفين عموما قد استهانوا بدور الشباب الذين ألصقت بهم نعوت العزوف السياسي والابتعاد عن الشأن العام؟ * أن يكون الشباب طليعة هذه الثورات وفتيلها، فذلك ليس بالشيء الجديد.. فثابت كل الثورات والحركات الإصلاحية، في التاريخ هو: طلائعية الشباب.. ولنا في تاريخنا الوطني ما يؤكد ذلك، من المقاومة المسلحة، إلى الحركة الوطنية، التي كتب أحد روادها وزعمائها الكبار المرحوم علال الفاسي قصيدة، يقول مطلعها: «أبعد مرورخمس عشرة ألهو وألعب..» فكانت بمثابة إعلان عن الانخراط المبكر لجيل بكامله في الكفاح الوطني.. كذلك الأمر كان بالنسبة لشباب الستينيات والسبعينيات.. ومازال، إلى اليوم، مع شبيبة الجيل الحالي، المتصدرة لهذا الحراك العربي والمغربي. وما يستدعي ملاحظته، في هذا السياق، هو أن الاختلاف بين الأجيال الشبابية، يكمن فقط في أدوات النضال الوطني منه أو الديمقراطي: بالأمس كانت الجريدة والمنشور اليدوي يقومان بدور «الفايسبوك» اليوم.. والخلية التنظيمية كانت النواة الرئيسية لإطلاق أية حركة،واليوم أصبحت الوقفات والتجمعات والتنسيقيات والشبكات و الأشكال الجديدة، المناسبة للتواصل الفعال والمعبئ... إلخ.. أثير هذه المسألة لكي أقول أيضا: ليس الفايسبوك من أطلق هذا الحراك.. بل إلحاحية مطالب الحراك في الحرية والكرامة والعدالة.. والتي وجدت في الفايسبوك، أداة العصر التواصلية بامتياز، أنجع وسيلة مساعدة على التعبئة الشعبية، مع ملاحظة أن الحراك في سوريا انطلق وتصاعد في ظل حظر كلي للانترنت. لقد أدى الشباب غاليا، ثمن السياسات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية اللاشعبية، فوجد نفسه عرضة للبطالة والتهميش والإجهاض المبكر لكل طموحاته في الارتقاء الاجتماعي والمهني والشخصي.. مما يفسر ويبرر أشكالا متعددة من تعبيره عن مشاعر اليأس وحالة الإحباط التي يعاني منها، من عزوف عن الشأن العام، وهجرة سرية، وتطرف ديني.. الخ. عودة الشباب اليوم ليأخذ مشعل التغيير، لن يغير من واقع حاله غدا،إنها البداية لعمل طويل، من أجل استئصال كل عوامل اليأس والإحباط والتدهور الاجتماعي لأوضاع أغلبية الشباب.. يقتضي الكثير من الصبر والواقعية والتدرج العقلاني في تحقيق الطموحات المشروعة المعبر عنها، في هذا الحراك الجاري.. ومما لاشك فيه، أن القوى السياسية والفعاليات الثقافية والجمعوية، لها، مسؤولية كبرى في مرافقة شباب عصر الثورات العربية، تأطيرا وتنويرا و نضالا في الميدان.. حتى تحقيق مطالب العدالة وإسقاط الفساد، وترسيخ أسس الديمقراطية السياسية والاجتماعية...