لقد أبانت ثورات الربيع العربي عن مقدرات الأمة في تغيير واقعها وعدم القبول بوضعية الذل والمهانة التي طبعت الفضاء العمومي العربي الراكد لردح من الزمن، حتى ظنت بعض النخب التي كانت تفتقد لقوة الاستبصار بالواقع أن الأمة لم يعد معول عليها في عملية التغيير، إلا أن رياح الربيع العربي أسقطت هذه المسلمة وأثبتت مركزية وفاعلية المجتمعات والشعوب في مغالبة أنظمة الفساد والاستبداد، وكان منها – أي النخب – أن نعتت هذه الثورات بالفجائية، لتحيل في العمق عن عقم الأوهام النظرية والمعرفية التي كانت تؤطر وعي النخب بطبيعة الواقع، وعقم أدوات تحليلهم وافتقادهم للفهم الدقيق الذي يمنحهم القدرة على التنبؤ بأفاق هذه المجتمعات وبنياتها الاجتماعية والثقافية والسياسية. كما نعتها البعض بأنها ثورات شبابية في نوع من الاختزال لطبيعة النسق المجتمعي العام. ولعل أكبر دليل على ذلك هو حدوث هذه الرجات الثورية التي هزت أركان الأنظمة الاستبدادية والمقولات التقليدية والأنماط النظرية البالية التي كانت تؤطر فهمنا لواقع مجتمعاتنا العربية والإسلامية، لهي أكبر دليل على أن التاريخ قد تشكل خارج الوعي الإنساني وأن الظاهرة الإنسانية هي أكبر تعقيدا وتركيبا من اختزالها في بعد واحد، وأن الشعوب العربية والإسلامية لها من المقدرات على التجاوز والانتفاضة ما ظل قابعا تحت الرماد حتى ما إذا نضجت شروطه التاريخية هبت كالبركان. لكن عند هذا المستوى وجب أن نقف مليا حول طبيعة التغييرات التي أحدثها الربيع العربي، حتى نعرف ما موقعنا اليوم على خريطة النهوض الحضاري؟ لقد استطاعت الثورات العربية أن تطيح عددا من الأنظمة الاستبدادية العتيدة، كما جعلت بقاء أنظمة استبدادية أخرى يدخل ضمن خانة المستحيل، كما قامت بتغيير قواعد اللعب في عدد من الدول إما طواعية أو بالإكراه، لكن من الواضح أن التغيير السياسي وحده غير كافي إن لم يكن مدعوما بثورات على مستوى أنساق الثقافة والقيم الاجتماعية للشعوب العربية والإسلامية. فمن المعلوم أن الاستبداد كظاهرة سياسية أن له جذورا ثقافية وقيمية، فهناك دوما بنيات ثقافية تنتج الاستبداد ليس فقط على مستوى علاقات السلطة والحكم، وإنما في كل النظم الاجتماعية (في الأسرة، في الشارع، في المدرسة، في وسائل الإعلام، ....)، ولعل كبرى الثورات التي عرفها التاريخ الإنساني لم تنطلق خارج هذه الخطاطة الثقافية، بمعنى تحولات قيم الناس وبنياتهم الثقافية والمرجعية، وتمثلاتهم ومثلهم هو الذي يحفظ أمد الثورة وامتدادها اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا. وفي كل الأحوال نتفهم طبيعة الارتباك الحاصل في مجال تدبير معاش الناس ومسألة النهوض باقتصاديات الدول التي عرفت اليوم حالة ثورية، على اعتبار أن هذا تحصيل حاصل، والثورة لن تؤتي أكلها في هذا الجانب إلا إذا حققت نوعا من التوازن الذي قد يحتاج عقدين من الزمن على الأقل، لكن من غير المقبول أن نخرج من الاستبداد إلى حالات من الاقتتال الداخلي، وإفراز استبداد أكبر من سابقه، وشيوع غيرية التضاد والنفي في جسد الأمة الواحدة، وهذا يؤشر في العمق على الارتباك الحتمي الذي تعرفه كل ثورة ليس لها في جدول أعمالها برنامج ثقافي ينقل شعارات الديمقراطية والحرية والعدالة من مستوى الخطاب إلى المستوى الاستراتيجي. على اعتبار أن الثورة هي حالة تطابق مجمل الثورات على مستوى الثقافة والقيم على أرض الواقع فتتخلق كواقع متعين في شكل نظم سياسية ديمقراطية ضامنة للحقوق والحريات، وعلى شكل نظم اجتماعية ضامنة للتعددية والحياة المشتركة، ونظم ثقافية وجمالية ضامنة للتنوع والتكامل والانفتاح. إذن فالثورة ليست حدثا متمثلا في إسقاط نظام سياسي معين، وإنما هي في العمق سيرورة من التخلق والتحقق والتشكل والقطائع مع بنيات رمزية وقيمية وثقافية، هي ترجمة لنقاش نابض بهموم النهضة، وفكر ناهض مسكون بهموم التحرر والانعتاق، ولعل الثورة الفرنسية لم تكن لتسجل في صفحات التاريخ لولا عصر النهضة والأنوار، حيث سبقها نقاش حول الحرية والمساواة والديمقراطية فجاءت الثورة الفرنسية لمطابقة الأفكار مع الواقع حتى تصير مؤسسات ونظما تحفظ التراكم في منحى تقدمي، وليس بعد التنوير إلا التثوير. تأسيسا على ما سبق يمكن أن نؤشر اليوم على أن الانعطافة الديمقراطية التي أحدثتها ثورات الربيع العربي، والتي وجب أن تُواكَبَ بانعطافة ثقافية وفكرية ضامنة لمساقات الدمقرطة مستقبلا في مختلف البنيات والمؤسسات الاجتماعية، وفي هذا السياق نشير إلى الدور الاستراتيجي للنخب ونخص بالذكر المثقفين في رسم إحداثيات تموقع الأمة ومدى تقدمها التي بلا شك تصنع اليوم تجربتها "فالمشي هو الذي يصنع الطريق لا العكس". إن التحدي الثقافي والفكري ملازم لسيرورة الدمقرطة وللتحدي السياسي في مسار التحول العام الذي تعرفها مجتمعات المنطقة، والمثقف لابد أن يخرج من دائرة السكون إلى دائرة الحركة والفعل ومواكبة التحولات الجارية على ضوء المتغيرات الجديدة في ساحة التحليل العلمي لواقع المجتمع العربي والإسلامي، ويمكن أن نضيف إلى دور المثقف دور المفكرين الاستراتيجيين والعلماء العاملين ودور المؤسسات العلمية في التوجيه ودق ناقوس انتباه الأمة وضبط تموقعها في خارطة النهوض الحضاري. وكما أشرنا سابقا، أنه في لحظات الانحطاط التاريخي للأمة، قد برزت عدد من التيارات التي تدًّعي احتكار "الخلاص الحضاري"، كما احتكرت سؤال الهوية وسؤال الحرية والتقدم، لكن الأمة ظلت غائبة أو مغيبة في كل هذا، حتى عادت من باب الرجة الثورية العربية، وتحققت كفاعلية حاضرة في مجال التأثير السياسي والاجتماعي العام، وأصبحت تؤثر بقوة في الفضاء العمومي العربي والإسلامي، وهذه هي الإشارة العميقة التي على نخبنا المتصلبة التقاطها، لأن الرهان اليوم هو أن تستعيد الأمة للأسئلة الكبرى التي سلبت منها وهي سؤال الحرية والهوية والسيادة. فالأمة هي مناط السلطة والسيادة، وهي الجدير الأول بسؤال الحرية وقضايا المواطنة، وهي الضامن للهوية وأساس النهضة والتقدم. ومن هنا يمكن أن نقول بأن معركة سيادة الأمة هي مفتوحة على ثلاث جبهات رئيسية: • جبهة الديمقراطية والكرامة والحرية: ضد أنظمة الفساد والاستبداد. • جبهة السيادة: ضد كافة أشكال التبعية والاستلاب. جبهة المواطنة: ضد مطابقة الانتماءات السياسية بالانتماءات الدينية والطائفية، بمعنى ضد تشظي المجتمع المدني والكيان السياسي. وفي الختام، تجدر الإشارة إلى أن السيرورة التي علينا أن نندرج ضمنها ونعبئ لأجلها كامل قدراتنا معرفيا ومنهجيا وسياسيا هي سيرورة الانتقال الحضاري والنهضوي الشامل، والتي تشكل الخلفية الأساسية والعميقة لجميع السيرورات الأخرى (سيرورة التنمية وسيرورة الدمقرطة) فإذا كانت سيرورة الانتقال الديمقراطي تراهن على ترتيب علاقات السلطة، فإن سيرورة الانتقال الحضاري والنهضوي تراهن على الإنسان باعتباره مدخلا للتغيير الاجتماعي العميق والمتجذر. *طالب باحث في علم الاجتماع السياسي