ما يٌفهم من تفاجؤ الحكام العرب مما يجري اليوم هو أن هؤلاء يجهلون شعوبهم، والمأساة هي أنهم قضوا عقودا يسوسون شعوبا يجهلونها، فأحد الفوارق الكبيرة بين الأنظمة الديمقراطية والأنظمة المستبدة يتجلى في كون الأولى تدرس الإنسان الذي تحكمه، لتكيف أساليب حكمها ومؤسساتها ونظم قوانينها وخطاباتها مع وضعه البشري، المتعدد والمتحول، بينما الثانية لا تدرس الإنسان الذي تحكمه، لأنها «مطمئنة» إلى أنه كائن بالمجاز، لا تتعدى آدميته حدود خوفه وتملقه ونفاقه، بينما الحقيقة التي أثبتتها تحولات العالم العربي مؤخرا هي أن جوهر الإنسان «هناك» هو جوهر الإنسان «هنا»، وأن عذر الحاكم العربي أقبح من جهله بشعبه، وهذا هو السر الأكبر في تسارع الأحداث من حوله... فالقذافي، الذي يجزم بكون جميع الليبيين يحبونه، لا يعرف شعبه، ومبارك، الذي كان يؤمن، إلى حدود الأسبوع الثاني من ثورة ميدان التحرير، أن الشباب «يتسلون»، هو حاكم لا يعرف شعبه أيضا، وبنعلي، الذي علّق على إحراق البوعزيزي نفسَه ب«فليمُتْ»، هو حاكم لا يعرف شعبه أيضا، وقس على ذلك... فإذا كان جهل الحاكم العربي لشعبه مدخلا لفهم ما يقع من تحولات متسارعة، فإن هذا الجهل بالإنسان لا يشكل استثناء، إذ هو نتاج مناخ ثقافي عام يحتقر العلم والمعرفة ويحتقر الإنسان في المحصلة، لأن الأنظمة التي تهتم بدراسة الإنسان هي نفسها الأنظمة التي تحتفي به، بينما الأنظمة التي تحتقر هذا الإنسان لا تدرسه، بل تقمعه من أن يُعبّر ويعيش تعدد وضعه البشري كإنسان. من هنا، كانت الدراسات المتعلقة بالإنسان، والتي تعرف بالعلوم الإنسانية، تتويجا لعصر حديث يولي أولوية للعقلنة على السحر وللعلم على الأسطورة وللشعب على الحاكم، فعندما هبّت رياح الأنوار على العقول وانهارت معها كل مقدسات السياسة والكنيسة والماضي، بدأت معها أيضا تباشير الإنسان... فما هي الشروط التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية والمؤسساتية التي أدت إلى ظهور العلوم الإنسانية؟ وما هي مختلف الإشكالات التي رافقت ظهورها، والتي أسست لتميزها الإبستمولوجي؟ ومن جهة أخرى، ماذا يعرف العرب عن العرب، والمغاربة عن المشارقة والعكس أيضا؟ بل وماذا يعرف المغاربة عن أنفسهم؟ أليس من العيب اليوم ألا نجد في بلدنا معهدا أو مؤسسة قائمة الذات متخصصة في العلوم الإنسانية؟ وإلا فعن أي إنسان تتكلم الدولة والأحزاب والنقابات وهي تجهل هذا الإنسان؟!...
تعيش المجتمعات العربية الآن تحولات كبرى وجارفة، أسقطت الكثير من البداهات والمسلمات، وعلى رأسها ذلك «الاستثناء العربي»، الذي طالما أثار استغراب وسخرية الكثير من السياسيين والمثقفين في الغرب، والذي يحيل على انعدام الحركية والجمود القاتل وعلى القَبُول القدَريّ بحتمية الاستبداد. لقد باغتت هذه التحولات، في مداها وأبعادها، أولئك الذين اعتبروا هذا «الاستثناء العربي» بمثابة تحصيل حاصل أو معيار أساس لقراءة وتحليل المجتمعات والدول العربية، على المستوى الجيو سياسي، والفكري -النظري والتاريخي. إن التحولات الاجتماعية، عموما، ومنها تلك التي تطال المجتمعات العربية، ليست مجرد أحداث ووقائع مقصودة في ذاتها ومفصولة عن سياقها، بل تُترجم، نوعا ما، عقدة تناقضات (Conjoncture) معقدة ومتعددة وتكشف، بقوة، أن التحول الاجتماعي هو من المجتمعات عصبُها الأساس والمحرك الذي يؤكد ديناميتها وحيويتها، بل إنه الضامن لاستمرارها وبقائها. ضروريات الحركية التاريخية من نافل القول إن الجهود والمراوحة في المكان عنصران «قاتلان» يشيران إلى أن حياة الشعوب والجماعات البشرية معرضة لخطر البقاء خارج الحركية التاريخية، بما في ذلك التاريخ الدمُ الذي يجري في عروقها ويمنحها الحياة، وكل خروج عنه وبقاء بعيدا عنه يشير إلى الموت والانتحار. صحيح أن التحولات التي تطال المجتمعات العربية الآن تمس الجانب السياسي أساسا، لاعتبارات متعددة، منها إلحاحية هذا الجانب ودوره الحاسم في استمرار جمودها وأعطابها، وكونه أيضا الجانب الضروري مجابهته أولا، لكن هناك جوانب أخرى لهذه التحولات، تكون ثقافية واقتصادية وحضارية، غالبا ما لا تنشغل بها الانتفاضات والثورات السياسية وتؤجلها إلى حين استكمال مهمة التغيير السياسي في تجاوز واقع الحرمان والقهر والتهميش وانعدام المواطنة واللا مساواة. لا تنحصر التحولات الاجتماعية، إذن، في المستوى السياسي وحده، لكنه المستوى الغالب عربيا الآن. وقد أتى بعد موجتين اثنتين مستا السطح دون أن تنفذا إلى العمق، وهما موجة النظام الاستعماري أولا، الذي آل في نهاية المطاف إلى زوال، خصوصا في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، والدولة الوطنية أو الدولة الأمة (L'état -nation)، كما تجسدت بعدما سمي الاستقلالات الوطنية والثورات التي كانت، في الحقيقة، مجرد انقلابات عسكرية، والتي حملت الكثير من العناوين والشعارات (قومية، عروبية، اشتراكية... إلخ.)، لكنها لم تنتج غير الدولة الأمنية القهرية التي سادت بقوة المخابرات والأجهزة الأمنية، وظل معها كل نزوع إلى التحرر الفعلي والديمقراطية والمواطنة مؤجلا إلى حين. بلغت هذه التحولات الآن الموجة الثالثة التي لم يعد يلعب فيه الزعماء الضرورة من انقلابيين وثوريين قوميين مجالا ولا دورا، لأنهم صاروا مجرد دليل على الجمود، وهي الموجة التي أصبحت الآن تهم المواطنين، أولا وأخيرا، وتعنيهم. أصبحت المسألة، إذن، مرتبطة بما يسمى «الشارع العربي»، وهو تعبير يشير إلى أن التحول هو من صنع حشود وحَّدها الإحساس بالظلم والمعاناة والدعوة إلى انتزاع الحق في الكرامة والإنسانية والمساواة، وهي الحشود التي تصنع التغيير والتحول، ولكنها لا تفكره بالضرورة، لاعتبارات متعددة، ترتبط بغياب أولئك المنظرين من الثوريين المحترفين الذين أنتجوا نظرية التحول مثل لينين وتروتسكي وغيفارا وغيرهم، كما كان الأمر في القرن الماضي، وبالغياب الفادح للمثقفين في مجال الفعل السياسي، كتابة وتحليلا ونقدا، عدا معلقي الفضائيات، الذين يكتفون، في الأغلب الأعم، بإنتاج شعارات أفكار حماسية يغيب عنها التحليل النظري الهادئ والعقلاني، وأيضا وغياب قيادات في هذه الحركات الاحتجاجية، تحوز ما يكفي من الخبرة السياسية العملية والفكرية، لتوجيهها وطرح الأسئلة الحقيقية حول مساراتها وأهدافها. قديما، قال المنظرون من الثوريين الاحترافيين، ليست هناك حركة ثورية بدون نظرية ثورية، لكن ما نشهده الآن هو نوع من التحولات الفعلية التي لا نظرية تقودها عدا الشعارات العملية المرتبطة بأحوال الناس المعيشية اليومية. إن السؤال الذي ينبغي طرحه هنا، بعيدا عن الانشغالات النظرية للمثقفين الثوريين، كما كانت في القرن الماضي، وفي علاقة وطيدة مع الأدوار التي يجب أن يلعبها المثقفون في مجتمعات تعيش التأخر التاريخي، سياسيا وثقافيا واجتماعيا... إلخ. هو: ما الدور الذي يمكن أن تلعبه العلوم الإنسانية في فهم هذه التحولات وتحليلها وإضاءتها؟ وهل نحن بالفعل محتاجون إليها وإلى الأدوار الهامة التي يمكن أن تقوم بها في مواكبة التحولات التي تشهدها هذه الموجة الثالثة من التحولات الاجتماعية والسياسية؟ ثورية العلوم الإنسانية إن العلوم الإنسانية، ومن ضمنها علم الاجتماع، التي اعتبرها فوكو في «الكلمات والأشياء (1966)، حديثة الولادة، أي القرن السابع عشر تحديدا، هي علوم تحررية وثورية بطبيعتها، لأنها تتصدى لدراسة وتحليل الظواهر الإنسانية التي تظل كامنة أو تنفجر لتصير بمثابة تحولات كبرى تهزّ أسس المجتمعات وتقودها إلى التغيير. لقد ظلت هذه العلوم الإنسانية، من حيث هي علوم تحررية، مثار شك في المجتمعات العربية، بل إن الكثير من علماء الاجتماع الذين اشتغلوا على بنيات المجتمع في الميدان تعرضوا للكثير من التضييق والقمع والسجن أحيانا، لأن الأنظمة السياسية التسلطية كثيرا ما تعتبر أن أبحاثهم ذات أجندة سياسية خفية، بل تعتبرهم مناضلين يساريين أكثر من كونهم مجرد علماء أكاديميين وباحثين في مجال العلوم الإنسانية، حتى إن الشُّعَب الجامعية الخاصة بهذه العلوم كثيرا ما تعيش حالة حصار ومعاناة بقصد القضاء عليها ومحوها. لقد عشنا في المغرب ذلك مع «معهد السوسيولوجيا»، الذي أسسه المرحوم المفكر وعالم الاجتماع عبد الكبير الخطيبي مع باحثين آخرين سنة 1968، أي في خضم «سنوات الرصاص» وصراع النظام السياسي مع المعارضة، والذي تم إغلاقه سنتين بعد فتحه، بدعوى أنه وكر من أوكار اليسار، وأنه يروّج للماركسية والنظريات الثورية. رغم ذلك، فقد استطاع الباحثون الاستمرار في القيام بدراساتهم التي نشرتها مجلة «BESM»، دون إغفال الدور الكبير الذي لعبه عالم الاجتماع بول باسكون في الدراسة والتحليل ونشر مناهج العلوم الإنسانية أكاديميا، عبر «معهد الزراعة والبيطرة»، سنوات عديدة قبل وفاته. لقد قاد الضغط الممارَس على العلوم الإنسانية في العالم العربي إلى تهميشها وإلغائها، لكن الحاجة إليها تظل قائمة وملحة لفهم هذه التحولات التي تتم أمام أعيننا وتحليل العوامل الخارجية الكامنة خلفها. (الأسباب التقنية والاقتصادية والديموغرافية وبروز قيم جديدة) والأسباب الداخلية، مثل الصراعات السياسية والاجتماعية وتعميق المطالبات بالمساواة والعدالة الاجتماعية والحق في الثورة الوطنية... إلخ). يرى دوركهايم، في هذا السياق، أن النمو الديموغرافي يؤدي إلى خلخلة البنيات الاجتماعية القارة ويخلق علاقات اجتماعية جديدة بين أفراد مستقلين ومتكاملين. أما ماكس فيبر فيجد التحول الاجتماعي في عامل بروز قيم جديدة (ربط ظهور الرأسمالية ونجاحها بولادة البروتستانتية)، بينما يشدد ماركس على دور الصراعات الاجتماعية والطبقية في تفسير التحولات الاجتماعية، مثل المرور من الفيودالية إلى الرأسمالية، أو لفهم رهانات العلاقات الاجتماعية داخل مجتمع ما، أما ديتوكفيل فيشير إلى النزوع إلى المساواة، الموجود في كل مجتمع ديمقراطي، والذي يلعب دورا أساسا في القيام بالتحولات المتنوعة والإيجابية، مثل البحث عن شروط عيش أحسن، وقيم الفردانية والاستقلالية والخوف من فقدان الحرية... إلخ. فهل يمكن النظر إلى التحولات الاجتماعية باعتبارها رديفة للتقدم الاجتماعي؟ يرى أغلب الدارسين، مثل دوتوكفيل، أنها قد تكون مصدرا للكثير من المعاناة، لأنها تؤدي -بالضرورة- إلى غياب الانتماءات الاجتماعية القديمة وبروز هويات أخرى تمنحها قيمة أكبر من السابقة، وهو ما يقود إلى نوع من التلاقح الاجتماعي أو الثثاقف (acculturation) داخل المجتمع الواحد. إن غياب جماعات وفئات وانتماءات اجتماعية وسياسية معينة يصير متعذرا تحمُّله، وقد يقود إلى مآس اجتماعية تعيد المجتمعات سنوات إلى الوراء، كما يحدث مثلا مع العودة إلى القبلية والطائفية. الضرورة المعرفية للعلوم الإنسانية إن العلوم الإنسانية، إذن، ليست ترفا فكريا ولكنها ضرورة معرفية لفهم الواقع وأنماط وآليات اشتغاله وديناميته ومنهج تطوره. وأمام تحولات كالتي يشهدها العالم العربي حاليا، تصير الحاجة إليها أكثر من مهمة. إن علم الاجتماع، مثلا، يرتبط ارتباطا وثيقا برهان الصراعات ويطرح، دائما، كمعرفة عقلانية للواقع، بعيدة عن الدوائر اللاعقلانية للأفكار الميتافيزيقية. لقد ظلت الأنظمة السياسية، المجسَّدة في الدولة الأمنية البوليسية في العالم العربي، وعلى مدى عقود، تعمل بكل الوسائل على تحييد الصراع وإلغائه كلية من المجال السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، مطبقة -بطريقة فاشية- هيمنتها على كل دوائر الفعل التي تخص الأفراد. لقد تحكم هذا الهم الأمني، المتمثل في إلغاء كل عوامل الصراع وتحييدها، في الغاية التي رامت هذه الأنظمة تحقيقها والحفاظ عليها، أي استقرارها واستمراريتها، عبر إلغاء المساواة والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان والمواطنة ونهب الثروات الوطنية وتأبيد حالة الفراغ السياسي، معتقدة -عبثا- أنها الأصلح لضمان وجودها كأنظمة. إن دور العلوم الإنسانية، ومن ضمنها علم الاجتماع، سيكون ضروريا لفهم وتحليل هذه النظرة السلبية للصراع كعنصر مدمر، بينما يعتبر عصب الحياة السياسية والمبدأ الذي يقوم عليه كل نظام ديمقراطي حقيقي، وذلك عبر الإجابة عن الأسئلة التالية: لماذا تأخر العرب عقدين من الزمن بعد انهيار جدار برلين (1989)، ليعيشوا الآن هذه التحولات الاجتماعية الوليدة التي يمكن اعتبارها ربيعا للديمقراطية؟ لماذا لم تطلهم موجات المطالبة بالديمقراطية التي عاشتها الشعوب أوربا الشرقية آنذاك؟ لماذا يخاف العربي، أفرادا وجماعات، من مسألة الصراع ويعتبرها شيئا سلبيا تدميريا؟ ولماذا تمجّد العقلية العربية الخضوع والخنوع و»تشرعنهما» وتنحو منحى النظرة الماضوية التي تقول «ليس في الإمكان أحسن مما كان»؟ لماذا يتم اعتبار الجمود السياسي والثقافي النموذجَ الأمثل للعيش؟ ولماذا يتم تمجيد اللا مبالاة باعتبارها الاختيارَ الوجودي الأوحد؟... إنها مجرد أسئلة، من ضمن أخرى، قد يكون مطروحا على الباحث في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية طرحها، في محاولة للإجابة عنها بطريقة عقلانية، تسهم في عقلنة المجالين الاجتماعي والسياسي. لقد سبق أن وظف آخرون أو استعادوا، تحديدا، نظرية العصبية عند ابن خلدون لفهم تشكُّل الدولة العربية ونمط اشتغالها، كما أن النظريات الأنثروبولوجية الكولونيالية أنتجت النظرية الانقسامية (le segmentarisme) كآلية هذه المجتمعات، على اعتبار أن هناك العديد من الترتيبات الاجتماعية والولاءات والانتماءات التي تتحكم في سلوك الجماعة التي ينتمي إليها الفرد وفي العقلية الجماعية وفي ردود أفعالها. لكن المعطى الجديد الذي برز مع هذه التحولات الاجتماعية الوليدة في الكثير من المجتمعات العربية هو أنها ارتبطت الآن بشرائح اجتماعية همشتها الأنظمة السياسية المسكونة ببارانويا الاستقرار الأمني والسياسي بأي ثمن، أي شرائح الشباب، التي أصبحت مطالبها أكثر ارتباطا بالعقلنة والدمقرطة السياسيتين، أي بمطالب مواطنة في الدولة العادلة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، دولة المؤسسات، لا دولة «الأولغارشيا»، المهيمنة والشرسة. إن العلوم الإنسانية والاجتماعية قد تسعفنا، دون شك، في فهم هذه التحولات وفقدان الأنظمة الأمنية لسحرها القهري وبروز فعَلة اجتماعيين جدد في الساحة، بدل الولاءات والتراتبات الاجتماعية والسياسية القديمة والمتوارثة ومحاولة إضفاء طابع أخلاقي جديد على الفعل السياسي، يتجاوز قيم الفساد والرشوة والنهب. إنها الحاجة إلى مقاربة هذا السلوك الاجتماعي والسياسي الذي ينحو منحى العقلنة ما أمكن، رغم الإرث الثقيل واللا عقلاني الذي ساد وهيمن لمدة زمنية طويلة. إنه اشتغال نظري توضيعي (Objectivant) وتاريخي، عبره تضفي العلوم الإنسانية طابع النسبية على الكثير من القيم الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تعتبر مطلقة، وتُبيّن أن ما سمي «الاسثناء العربي» هو مجرد مقولة لتبرير العجز والخضوع واستمرار نفس التراتبيات، يروج لها أولئك الذين يكون الوضع الاعتباري للمجتمعات العربية في صالحهم. لربما كان مطروحا أيضا على العلوم الإنسانية والاجتماعية التفكير انطلاقا من هذه التحولات الاجتماعية التي تخترق الواقع السياسي الراكد بعنف وإلحاح ومجازفة، في مسألة الحكامة السياسية (la gouvernance)، التي تتجاوز بعمق مسألة السيادة الوطنية، كما طرحتها الأنظمة، باعتبارها عائقا أمام كل تطور ديمقراطي حقيقي. إن الأزمة السياسية التي يعيشها مجتمع ما تعتبر، بالنسبة إلى الدارسين، مجرد واجهة لتلاشي الروابط الاجتماعية في مجموعها. إن انهيار السياسة وانحطاطها مرتبط بالأزمة الاقتصادية والبطالة والإقصاء والتهميش والهشاشة الاجتماعية والعنف الاجتماعي، وهو ما يعني أن الداء الذي يصيب السياسة ينجم عن الداء الذي يصيب المجتمع، لأن كل مجتمع يعيش السياسة التي يستحقها ويكون جديرا بها. مسألة أخرى أثارتها هذه التحولات العارمة وترتبط بمسألة الشرعية السياسية المتنازَع حولها، نظرا إلى بروز بؤر منافسة وأشكال اجتماعية جديدة تمتاح شرعيتها من مصادر أخرى غير ما هو سائد وتعيد هندسة الفضاء الاجتماعي، وفق هندسة جديدة وغير مسبوقة. مسألة أخرى أيضا بإمكان العلوم الاجتماعية والإنسانية طرحها، وهي طرح قضايا للنقاش كانت من قبلُ حكرا على النخبة السياسية التي حولتها إلى «أصل تجاري» خاص بها، من الضروري التفكير في الدور الممكن الذي يمكن أن تلعبه العلوم الإنسانية والاجتماعية في مواكبة الاحتجاجات والتحولات المجتمعية الكبرى وإنتاج نظريتها وطبيعتها، وهو ما يقود هذه العلوم بالضرورة إلى الوفاء لروحها التحررية.