سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الديمقراطية لا يمكن أن تكون نظاما للحكم من غير أن تكون نظاما للمجتمع على هامش استحقاقات 2009
التغيير الاجتماعي و الاقتصادي الشامل نحو الأفضل هو السبيل إلى خلق أسس الدولة الحديثة
تعيش الأمم و الشعوب فترات حاسمة من تاريخها تتفاعل فيها مع الأحداث و تتجاوب و بحدة مع قضايا ها الحيوية و الأساسية فتأخذ باهتمامها و تستغرق كل جهودها في النضال و المواجهة. و القضية الأساسية و التي كانت عبر التاريخ و لا تزال تشغل بال الجماهير الشعبية في الوطن العربي و تشغل بال الرأي العام المغربي و تستأثر باهتمام الأحزاب الوطنية و القوى الديمقراطية فيه و تفرض نفسها على قمة هواجس المفكرين و المثقفين و الحقوقيين، هي قضية الديمقراطية الحقة كقضية مصيرية و أساسية في تحقيق التنمية السياسية و الاقتصادية و الثقافية و إقرار حقوق الإنسان و حرياته الأساسية. و لا غرو في ذلك فإن المعاناة السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية للأمة العربية على صعيد العالم العربي، ليست إلا إفرازات لوضع شاذ يتسم بانعدام المشاركة الحقيقية لإرادة المواطن في صنع القرار و غياب حقوق الإنسان و انعدام المصداقية في تعامل الحكام مع المحكومين و السلطة عموما مع الجمهور في مختلف ميادين الحياة العامة للمجتمع. بل إن ما عرفه الوطن العربي من أحداث انهزامية واجتره من نكسات و لا يزال على مستوى الداخل و الخارج ليس إلا بسبب قصور أنظمة الحكم في الوطن العربي عن إدراك طبيعة التطور الإنساني المعاصر و الذي « يجسد ظاهرة المجتمع الجماهيري و تزايد وزن الرجل العادي في الحياة السياسية « . إن هزيمة يونيو لسنة 1967، وهزيمة يونيو لسنة 1982 بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان و استمرار العدوان الصهيوني لقوات الاحتلال على الأراضي العربية المحتلة، و الاعتداء الجائر على شعب فلسطين في فلسطين السليبة و أزمة الخليج منذ غشت 1990 ، و ما واكبها من صراع و فرقة و تدخل أجنبي في اتجاه السيطرة على القدرات العربية و الثروة العربية و الأماكن المقدسة و ما يبدوا و في جل أقطار الوطن العربي من مظاهر الاستلاب الفكري و الهيمنة الثقافية و التبعية في مجال المال و الاقتصاد و الفكر ، « و قدرا كبيرا من أسباب الهزائم التي أصابت الأمة العربية و قزمت أهدافها القومية و كل العقم المعنوي الذي يخيم على نفسية و إحساس المواطن العربي « ، إنما يعود و بالدرجة الأولى إلى غياب الديمقراطية و مأساة حقوق الإنسان العربي في هذا الجزء من العالم . إن الديمقراطية ليست أغنية و لا هي مجرد ترف فكري أو فيض ثقافي و لا هي واجهة للاستهلاك الخارجي، و لكنها نظام الحكم الذي يتوفر على الآليات التي تسمح لمن هو في الأقلية اليوم ليصبح في الأغلبية غدا، هي النظام الحر الذي يتيح تعدد الاتجاهات السياسية و الاجتماعية و بصفة تلقائية. الديمقراطية هي ضرورة اجتماعية و حيوية لنهضة الأمم و الشعوب و انقاذها من أزماتها و أوضاعها اليائسة بل إنها كما عبر عن ذلك أحد الكتاب المعاصرين بقوله: « هي سبيل إعادة صلة الرحم بين المواطن و مجتمعه و دولته و هي سبيل استعادة النظم لشرعيتها و مصداقيتها و هي سبيل استعادة الإنسان العربي لدوره في معركة النضال الوطني و القومي». إن الديمقراطية في بعدها السياسي هي المشاركة السياسية النظيفة و هي وحدها المشاركة التي تخلق في المواطن نوعا من التفاعل و التجاوب و تنمي فيه الشعور بأن الدولة و الشؤون العامة و القرارات المصيرية ترتبط بحياته ووجوده الذاتي تؤثر فيه و يتأثر بها . إن الاهتمام إذا كان حقيقة ذاتية تنبع من شخصية المواطن فإن المشاركة السياسية النزيهة و باعتبارها إجراءا سياسيا يتحتم أن يتيحها الهيكل السياسي لنظام الحكم في أي مجتمع ما حتى يتحقق التفاعل بين الاهتمام و المشاركة كنتيجة لهما من حيث تحديد علاقة الفرد بالدولة على أساس من يقظة الضمير و الإحساس بالمسؤولية . و إنه لمما يبعث على الأسى و الحسرة أن أزمة الديمقراطية في الوطن العربي و الإسلامي ، هي أزمة المشاركة السياسية و التي تبقى في هذا الجزء من العالم مجرد مشاركة شكلية غير فاعلة تخضع لانتخابات مزيفة و غير نظيفة تستأثر فيها السلطة الحاكمة بجميع الموارد المادية و الإعلامية و غيرهما من مقومات الفوز و تتسم بتلاعبها في النتائج و ممارسة كل أشكال الضغط و أنواع الإغراء . إنها مشاركة تفرز مؤسسات لا تمثل الخريطة السياسية الحقيقية مما يفضي إلى إبعاد الإرادة السياسية الحقيقية و تكون النتيجة أن تصبح المشاركة السياسية أبعد من أن تكون مبدءا سياسيا هادفا و إجراء نظاميا يحقق النتيجة الديمقراطية للممارسة السياسية بقدر ما تغدو مجرد أداة لدعم شرعية الحكم في مواجهة المعارضة و الرأي العام الخارجي و الذي كثيرا ما تضلله نتائج من هذا القبيل. إن المواطن أمام هذا الوضع يجد نفسه خاضعا لقرارات سياسية لم يسهم إسهاما حقيقيا في صنعها و أمام سياسة عامة للدولة لا تعبر عن آماله و طموحاته في تغيير الواقع اتجاه وضع أكثر نجاعة بالنسبة لأحواله السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية . إن وضعا من هذا القبيل كان و لا يزال له أثاره السلبية و التي تعكس ظلالها القاتمة في الوطن العربي على علاقة السلطة بالمواطنين باستخدام نظم الحكم فيه للعنف في مواجهة المعارضة و اللجوء إلى حلول القمع ، أو على علاقتها بمعاناة شعوبها من وطأة الخصاصة و البطالة و التفاوت الطبقي بسبب غياب السياسة الرشيدة في التنمية الاقتصادية و انعدام العدالة الاجتماعية أو في علاقتها بالقضايا القومية و ما يلاحظ من تردي الوضع إزاء الأخطار الخارجية و بالذات الخطر الإسرائيلي و المدعم من لدن الإمبريالية العالمية و ارتباط معظم الأنظمة العربية بالتبعية لها و لا سيما في المجالين المالي و الاقتصادي مما أدى إلى تضخم النفوذ و هيمنته على دول هذه الأنظمة و جعل القرار السياسي فيها بوحي من ذلك النفوذ . إن غياب الديمقراطية بمفهوم حرية و نزاهة المشاركة السياسية و ما ينجم عنه من آثار سلبية نحو مستقبل أفضل هو العائق الأساسي و الجوهري ، و الذي يحول دون ممارسة المواطن العربي لحقوقه الإنسانية في مدلولها الشمولي و ذلك باعتبار أن النظام الديمقراطي هو الذي يجسد الحضور الفعلي لكل الحقوق و الحريات و يبلور فعالية التنمية الاقتصادية في اتجاه إقرار العدالة الاجتماعية . إن الديمقراطية لا تتحقق بمجرد الإقرار للشعب بمبدأ السيادة و بالحريات العامة و المساواة و العدالة من خلال النص عليها في الدساتير و المواثيق و لكنها تتحقق من منطلق أن هذه السيادة هي حقوق للإنسان و ليست امتيازات يسعى إليها و من أن كل حق من هذه الحقوق يظل قاصرا عن نفاذ معناه ما لم يكن مرتبطا بالضمان القانوني و الفعلي للدولة و على مستوى الممارسة ليس فقط من حيث احترامه لهذه الحقوق و لكن أيضا من حيث حمايتها لها من عدوان أجهزتها عليها و من عدوان الآخرين و من حيث حرصها على نظافة تأسيس جميع الهياكل و الأشكال التي تعبر عنها. الديمقراطية لا يمكن أن تكون نظاما فصاميا أي لا يمكن أن تكون نظاما للحكم من غير أن تكون نظاما للمجتمع. و لا يمكن أن تحكم العلاقات بين الحكام و المحكومين دون أن تحكم العلاقات بين المحكومين أنفسهم. و من ثم فإن الديمقراطية لا تتحقق على أرض الواقع إلا بوجود الديمقراطيين و الذين يمارسون الشأن العام بوحي من تقاليدها و أعرافها و بوحي من ثقافتها. فليسوا ديمقراطيين أولئك الذين يشترون ذمم الناس بالمال للحصول على أصواتهم. و لسيوا ديمقراطيين أولئك الذين يتواطئون على صناديقها فيغيرون النتيجة و يزيفون الحقيقة. و ليسوا ديمقراطيين أولئك الذين يتآمرون في معركتها فيحملون معاول الهدم تجاه المنافس الآخر و قد يشنونها حربا بدافع من الغير ضد الفكر الحر و ضد الجرأة و الشجاعة و الشفافية. و ليسوا ديمقراطيين أولئك الذين ترشحهم بعض الأحزاب و تخضع في اختيارهم لمعيار المال و الجاه و موالاتهم للسلطة المشرفة على الانتخابات. و ليسوا ديمقراطيين أولئك الذين ساهموا أو يساهمون بشكل من الأشكال في العودة بالديمقراطية إلى سابق عهدها و سنوات نكستها و محنتها. كل هؤلاء ليسوا ديمقراطيين و ليسوا أهلا لممارسة الشأن العام بل تلفظهم الديمقراطية ذاتها. إن أهم مكونات الديمقراطية هو صناعة الإنسان الديمقراطي و هذه هي مهمة الأحزاب السياسية التي عليها أن تقوم بها .إذ من واجبها أن تؤمن بضرورة الديمقراطية لضمان البقاء و استمرار التطور و أن تطرح هذا الإيمان في صفوفها وبين أعضاءها و للجمهور عامة ليصبح جزءا من قناعة الجميع. ذلك أن الأحزاب السياسية هي الجديرة بالبقاء و في الميدان للنضال من أجل الديمقراطية و هي المنوط بها دستوريا صناعة الديمقراطيين. على أن قضية الديمقراطية في اعتقادنا ليست مجرد قضية قانونية أو سياسية فحسب و لكنها إضافة إلى ذلك ، هي قضية وضعية الإنسان الاجتماعية و الاقتصادية وأن الشكل القانوني وثيق الصلة بمجمل الأوضاع الاقتصادية و القوى المتحكمة في مصادر الثروة . فالديمقراطية في العصر الحاضر، تجاوزت مفاهيم القرن الثامن عشر و عاد مدلولها يشمل إلى جانب البعد السياسي مقتضيات البعد الاقتصادي للأمة، فلم يعد كافيا أن تكون الحقوق مكفولة بالقانون لكل المواطنين و إنما يجب أن تنهض للفرد حقوق اجتماعية و اقتصادية تجعله قادرا على ممارسة الحقوق السياسية. الديمقراطية بمفهومها الذي يستوعب كل عناصرها و قيمها هي الآلية للقضاء على كل مظاهر التخلف الاجتماعي الذي يبدو في الأزمات الاقتصادية للمجتمعات البشرية. وهي القناة الوحيدة للحيلولة دون جميع السلبيات التي تعوق تطور المجتمعات و تقدمها و تحول دون تدني مستوى المعيشة و دون التفاوت الفاحش للأجور و دون الهوة العريضة للطبقات و دو ن استمرار الأمية و تداول الرشوة و المحسوبية و استمرار البطالة و دون الظلم و القمع و الشطط في استعمال السلطة و استغلال النفوذ و الحط من كرامة الإنسان و آدميته و إهانته في ذاته و فكره و إرادته. إنه لا حرية مع الجوع أو الحاجة و أن حق التصويت لا ينفصل عن لقمة العيش و عن حق الفرد في مستوى كاف من العيش و عن حقه في العمل و الضمان الاجتماعي و حماية الأسرة و الطفولة و عن حقه في الصحة و التعلم و الثقافة. و على هذا الأساس يمكن القول أن المكونات الرئيسية للديمقراطية هي: أولا الحرية، فحقوق الإنسان المدنية و السياسية يمكن تلخيصها في كلمة واحدة هي الحرية. و الديمقراطية هي الشكل الوحيد و الملائم للحرية فلا حرية بدون ديمقراطية و لا ديمقراطية بدون حرية. فالنظام الديمقراطي هو الذي يتيح ممارسة الحريات الأساسية للإنسان و يفرض احترامها في جميع أشكالها و صورها. فهو النظام الذي يفرض احترام الإنسان في ذاته و في قيمته الإنسانية و يكفل حقه في الحياة و في تقريره لمصيره و عدم مؤاخذته بجريرة غيره و ضمان حقه في الدفاع عن نفسه و قناعا ته أمام القضاء النزيه و المستقل وفق القانون الذي وحده له السيادة على الجميع بقطع النظر عن الموقع الطبقي و الانتماء السياسي. إن تعدد الآراء و حريتها هو الذي يؤكد التلازم بين الديمقراطية و الحرية و هو الطريق إلى الحقيقة و اكتشاف الحلول الناجعة للمعضلات التي قد تكون مطروحة، مما يدعو إلى اعتماد الايجابيات و تلافي السلبيات و الالتفاف حول الموضوعية من خلال المسؤولية الجماعية في تدبير شؤون الدولة لصالح الأفراد و الجماعات. إن ما يفرض على الحرية من قيود و يوضع لها من حدود و من خلال الدساتير و القوانين لا يسقطها و إنما ينظمها و ينسق التعامل بوحي منها و يؤكد هذا ممارسة المواطن للحريات العامة جميعها في المجتمعات الأوروبية ممارسة حقيقية و واسعة باعتبار أن الحدود التي يضعها القانون على هذه الممارسة قليلة و محدودة. و أن واقع هذه المجتمعات يشهد مواطنوه تكريسا عمليا لهذه الحريات و هم آمنون و بالقدر الذي يحفظ آدمية الإنسان و كرامته على خلاف ما هو عليه الحال في دول العالم الثالث، ذلك أن النص على هذه الحريات يبقى مجرد حبر على ورق و لا يتجاوز النصوص إلى الممارسة و تظل الحريات مجرد شعار لا علاقة له بالواقع و لا بالإنسان الذي يكون كل هذا الواقع. و ثاني هذه المكونات، هو المساواة في بعديها السياسي و الاجتماعي، فإلى جانب تساوي المواطنين أمام القانون و أمام القضاء و أمام الإدارة بغض النظر عن كل الاعتبارات الذاتية و المالية و العائلية، فإن البعد الاجتماعي للديمقراطية لا غنى عنه لكرامة الإنسان و نمو شخصيته نموا حرا و طبيعيا فالتكافؤ في الفرص و التكافؤ في الأجور و التقليص من حدة التفاوت الطبقي و ضمان مستوى من المعيشة كاف للمحافظة على الصحة و الرفاهة العامة للإنسان، كل ذلك من مقومات الديمقراطية في جانبها الاجتماعي. و لذا فإن ما نحن في حاجة إليه هو التغيير الاجتماعي و الاقتصادي الشامل نحو الأفضل و أن هذا التغيير هو وحده الذي يجعل المجتمع قادرا على أن يخلق أسس الدولة الحديثة. و ثالث هذه المكونات هو المشاركة الحرة التي من أبرز نتائجها أن تكون السلطة السياسية في الدولة نابعة من اختيار حر للشعب و هذا يعني أن يكون القرار السياسي أو السياسة التي تتبناها الدولة هي حصيلة الإرادة الحرة للأمة و التي تحدد شرعية السلطة و مصداقيتها، السلطة التي تتوفر على الآليات و الوسائل لتكريس هذه الشرعية و بنائها من خلال الكفاءة و الفعالية و النزاهة في إدارة شؤون المجتمع و في تحقيق أهدافه و تجسيد هويته و قيمه و مثله. إن الكفاءة أو الفعالية كما يقول أحد الباحثين « هي في حد ذاتها توفر قدرا من الاستقرار السياسي و الاجتماعي و الشرعية في حد ذاتها توفر بدورها حدا أدنى من الاستقرار السياسي و الاجتماعي، و كل منهما يؤثر على الآخر سلبا و إيجابا و هما معا يحددان مستوى الاستقرار السياسي و الاجتماعي « . فالديمقراطية إذن هي أن يختار المحكومون حكامهم بكامل الحرية و النزاهة و أن يصنع الشعب قراراته و يضع دستوره بإرادته و أن تتاح له كل آليات التطبيق و الفعالية. و الديمقراطية هي نظام الحكم الذي يجسد دولة القانون و تهيمن على المجتمع فيه مبادئه التي هي سيادة القانون و الفصل بين السلطات و استقلال السلطة القضائية و نزاهتها و إقرار رقابتها على دستورية القوانين و على تصرفات الإدارة. الديمقراطية، هي النظام الذي يوفر المناخ الطبيعي و السليم لاحترام الإنسان في حقوقه السياسية و الاجتماعية، و إنماء طاقاته و قدراته الخلاقة و مصادرة كل ما يحول دون ممارسته لهذه الحقوق و مشاركته الفعالة في إدارة شؤونه و تدبير مصيره. لقد كانت التجربة الإسلامية أروع صورة للممارسة الديمقراطية في بعض حقب تاريخ الأمة العربية زمن الرسول عليه الصلاة و السلام و زمن الخلفاء الراشدين، ذلك أن التجربة و في مجال الحكم و من خلال التطبيق في إطار مقتضيات ذلك العصر قد جسدت و بما لا يقبل الشك جوهر الديمقراطية الحقيقية. لقد تجاوز الحكم ما كان معروفا قبل الإسلام من صراع و تناحر و ما كان سائدا من تفاوت و تمايز فقد تحقق التفاعل و التلاحم و استقر التطبيق الفعلي للمساواة بين الناس و أصبح العمل هو القيمة الاجتماعية التي تتحدد وفقها مكانة الإنسان و قيمته في المجتمع. كما تم تحديد العناصر الرئيسية التي تحكم العلاقات الاجتماعية و تحقق العدل و التوازن. فالإنسان مستخلف عن الله في الأرض و مستخلف عنه في المال. و الملكية الاقتصادية وظيفة اجتماعية و الناس شركاء في المرافق العامة. والتكافل الاجتماعي هو الرباط الذي يصل الناس بعضهم ببعض و الجمهور هو الذي يصنع القرار و يحدد المسار العام لسياسة الدولة في مجال الحكم و الاجتماع و الاقتصاد. و هكذا كان من آثار هذه التجربة أن وضعت جسورا للثقة المتبادلة بين السلطة و الجمهور و خلقت روح النقد الفعال و المسؤول و وسعت آفاق التعاون و التفاعل بينهما ونما الإحساس بشرعية التغيير و بمختلف الوسائل عندما يحصل الانحراف أو يتوقف النظام عن التعبير عن الناس. إن نجاح التجربة الإسلامية في مرحلة من التاريخ الإسلامي و على قصر أمدها كان من منطلق اعتماد الشورى في عمقها و من الأبعاد الفلسفية للحكم و التي توفر مناخا حرا و نزيها للتعايش بين الحكام و المحكومين مما أكسب الحكم مصداقية في اتجاه دعم البناء العام للمجتمع الإسلامي و الشامل لجميع ميادين تقدم الإنسان ورقيه. إن الشورى لا تستمد وجودها من مجرد ما تعارف عليه المسلمون و اعتادوا الاستدلال به في قوله تعالى « و شاورهم في الأمر « « و أمرهم شورى بينهم «. و لكن الشورى تجد مصدرها و بقوة أكثر في قوله تعالى « لا يسأل عما يفعل و هم يسألون «. إن الله هنا يصف نفسه وحده هو الذي لا يسأل و أن عدم مسؤوليته هي صفة من صفات الربوبية التي خص نفسه بها. و هكذا فإن الدلالة الواضحة للآية هي أن كل صاحب سلطة من البشر لا بد أن يكون مسؤولا و خاضعا للمسائلة و أن القضية عقائدية و إيمانية قبل أن تكون من قضايا الحكم و أن هذا المدلول هو تكريس للمبدأ الدستوري المعاصر و هو أن كل سلطة لا بد و أن تقابلها المسؤولية. و من ثم فإن الديمقراطية في الإسلام ليست قضية إرشاد أو تنظيم و ليست مجرد خطاب تنظيري و لكنها هي نظام الشورى الذي يختار فيه الشعب حاكمه و يخضعه للرقابة و المساءلة أيضا. على أنه سواء من حيث المبدأ أو من حيث جوهر الديمقراطية في بعدها السياسي و الاجتماعي، ليس هناك من خلاف بين مضمون الشورى في الإسلام و مفهوم الديمقراطية لدى الفكر السياسي المعاصر بل إن أحد المفكرين لاحظ أن « ما يسميه الفرنسيون بالحرية و يرغبون فيه هو ما يطلق عليه عندنا بالعدل و الإنصاف و ذلك لأن معنى الحرية في الحكم هو إقامة التساوي في الأحكام و القوانين. و لكن الخلاف فيما يبدو هو في الجزئيات و التفاصيل و في المصدر و التاريخ و أن الثغرة الكبرى و بالنسبة لأنظمة الحكم لدى العرب و المسلمين الآن هي في غياب المؤسسات التي تعبر عن المفاهيم الإسلامية، و التي تمكن من تطبيق الآراء تطبيقا سليما و نزيها و تضمن استمرار الأخذ بها و اعتبارها أو العمل على تطويرها في اتجاه التحرر و التحرير الكاملين للأرض و المواطن. هذا وقد كان طموح المغاربة قويا عبر التاريخ في اتجاه تحقيق الديمقراطية، فقد شعروا بفساد الحكم و بفساد الجهاز المحيط به في فترة من التاريخ إذ برزت الرغبة الأكيدة في الخروج من الحكم المطلق إلى الحكم الدستوري، و بدا ذلك واضحا من خلال عقد بيعتهم للسلطان عبد الحفيظ و الذي كما قيل وجهت بنوده إلى المستقبل. و قد واصلت الطليعة آنذاك العمل في اتجاه تحقيق الوضع الدستوري، فقدمت مشروع الدستور الذي نشرته جريدة لسان المغرب خلال شهري أكتوبر و نونبر لسنة 1908. و تضمن الدستور القانون الأساسي للأمة و النظام الداخلي لمنتدى الشورى و نظام الانتخابات العمومية و ما أسماه واضعو المشروع بقانون الجزاء المغربي إضافة إلى الإشارة للإسلام كدين للدولة و احترام مبادئ الأديان الأخرى و حق المواطن في التمتع بحقوقه، و حرياته الأساسية و حقه في التظلم ضد الموظفين و غيرهم من رجال السلطة إذا ما نالهم منهم ضرر أ و أصابهم أذى. كما وقعت الإشارة في الدستور إلى أسباب الخلل و التي تخول للمجلس الرفض أو طلب إعادة النظر إذا ما حدث ما يمس بالدين و جوهره أو يخالف نصا من القران، أو ما يمس بالاستقلال أو بحق من حقوق الأمة أو يضر بالعامة و الفقير أو يسبب ضررا لبيت المال. و هكذا أبان تسلسل الأحداث خلال هذه المرحلة من تاريخ الشعب المغربي، أن وعي المغاربة بأزمة الاستعمار الأجنبي لا يقل عن وعيهم بأزمة الحكم و أنهم كونوا قناعة خاصة بأن لا سبيل إلى النجاة من الاستعمار إلا بالنجاة من الظلم و الاستبداد و الحكم المطلق. على أن نضال الحركة الوطنية و الشعب المغربي قاطبة قد اشتد أواره، في الخمسينات و أعقب ذلك تأسيس جيش التحرير الذي أمضى عهدا مع أحد زعماء المغرب كان بنوده العمل من أجل إعلان استقلال المغرب و تحقيق النظام الدستوري بالبلاد. و تحقق الاستقلال بفضل نضال الجميع و بدأت معركة الدستور و الديمقراطية، إلا أنه و بحكم ما اعترى بداية الاستقلال من ظروف و ملابسات بدت فيما وقع من أخطاء في التعامل مع الاستقلال بسبب دسائس الاستعمار و أنصاره، كل ذلك أدى إلى عرقلة الحياة الدستورية، و كل ذلك لم يثن عزم الشعب المغربي من أن يواصل نضاله من أجل إقرار وضع ديمقراطي، فخاض معارك ضارية لتحقيق الإرادة الحرة من خلال مؤسسات نيابية حقيقية و نظيفة إلا أن هذا النضال اصطدم بشريط من المؤامرات على المشروعية و الديمقراطية. و كانت قمة النكسة في السبعينات و الثمانينات إذ جاءت الأحداث المتعلقة بالانتخابات لا لتؤكد استمرار التجربة الديمقراطية مع ما يتخللها من سلبيات تتمثل في التجاوزات و المضايقات و المظالم التي تعرض لها المواطنون في شتى المدن و القرى و على يد الإدارة و بعض رجال السلطة و إنما لتسجل في تاريخ المغرب و تاريخ الديمقراطية الضربة القوية لمصداقية الديمقراطية بما عرفته الانتخابات الجماعية و التشريعية من تزوير غير الحقيقة، و أقام مؤسسات لا تمثل الخريطة السياسية أي تمثيل. و هكذا فإن كل الاستشارات الشعبية و التي تمت حتى الآن لا يعبر جلها عن إرادة الشعب نظرا لما تخللها من مساس بحرية الاختيار و نظرا لأنها تمت في ظروف واكبتها اعتقالات و محاكمات و في غيبة عن توفر الضمانات القانونية لحقوق الدفاع و استقلال القضاء و حقوق الإنسان مما ينزع عن التجربة الديمقراطية ببلادنا كل مصداقية. و عسى أن تكون استحقاقات سنة 2009 بداية لنهاية أزمة الديمقراطية و عهود محنتها و نكستها.