في انتظار الجولة الحاسمة من رئاسيات فرنسا, أظهرت نتائج الجولة الأولى مرة أخرى, الصعود المقلق لليمين المتطرف على صهوة خطاب عنصري و إقصائي يرفض الهجرة, يعادي الإسلام و المسلمين, و يعادي كذلك الوحدة الاوربية على جميع المستويات سواء كانت السياسية, الاقتصادية أو النقدية, كما يرفض في الوقت نفسه كل قيم التسامح الديني و التعايش السلمي و قبول الاختلاف و التعدد الثقافي, و هو ما يشكل تحديا حقيقيا لكل الدول الاوربية التي تعرف تواجد قوى يمينية متطرفة استطاعت أن تجد لنفسها موطأ قدم في المشهد السياسي الحاضر. و ازدهرت هذه القوى المتطرفة خاصة بعد تفجيرات 11 سبتمبر بالولايات المتحدةالأمريكية, و أصبحت فاعلا مؤثرا في المشهد السياسي بأوربا و هو ما يعكسه عقد قادة اليمين المتطرف بالقارة العجوز ̧ في يناير الماضي، مؤتمراً في ألمانيا لإقامة جبهة موحدة، وصف بأنه قمة أوروبية مضادة، وجاءت جميع خطاباتهم متشابهة، داعية للعودة إلى الدولة القومية و مراقبة الحدود و إنهاء سياسة استقبال اللاجئين, و فرض سياسات حمائية و انعزالية.
و في مقابل صعود اليمين المتطرف في العديد من البلدان الاوربية مثل فرنسا, هولندا و ألمانيا, نلاحظ غياب مثل هاته القوى السياسية بإسبانيا و التي لم تستطع أن تنافس الأحزاب الكلاسيكية في البلاد على السلطة, و كل ما استطاعت تحقيقه لم يتعدى بعض الأصوات المحدودة جدا في الانتخابات البلدية, هو ما يدعو إلى التساؤل عن العوامل الكامنة وراء ذلك, و في محاولة منه لمقاربة الظاهرة و الإجابة عن هذا التساؤل, قام المعهد الملكي الإسباني "إلكانو" بإجراء تحقيق شامل والذي خلص إلى عدم وجود أرضية خصبة لترعرع الفكر اليميني المتطرف لقرب زمن دكتاتورية فرانكو بكل ما تحمله من ذكريات مؤلمة و التي ترتبط في أذهان الإسبان بكل حركات اليمين المتطرف و الحركات الفاشية, كما يرجع فشل الأحزاب المتطرفة إلى قوة الحزب الشعبي الحاكم الذي يضم تيارات مختلفة من عائلة اليمين من المحافظ جدا الى اليمين الليبرالي المنفتح، الأمر الذي يجعله يأخذ بكل الحساسيات.
و وفقا للدراسة، و التي وضعت في إطار مشروع أوروبي، فإن صعود الشعبوية، و كذا الأحزاب المعادية للأجانب يمكن تفسيرها بوجود ثلاثة أنواع من العوامل, الاقتصادية و منها تزايد معدلات البطالة و تراجع مجتمع الرفاهية بسبب الأزمة الاقتصادية, السياسية و المتمثلة في انعدام الثقة في الطبقة السياسية و تزايد قضايا الفساد السياسي و المالي, ثم العامل الأخير و المتمثل في الهجرة, و رغم وجود هذه العناصر الثلاثة بإسبانيا، و على عكس معظم دول الاتحاد الأوروبي، لم تستطع القوى المتطرفة في البلاد ترجمتها إلى أصوات انتخابية كفيلة بتمهيد الطريق نحو مراكز القرار, هذا بالإضافة إلى أن الثقافة السياسية للمواطنين الإسبان تؤيد و بشكل كبير البقاء في إطار الاتحاد الأوربي, و كذا العولمة و التعايش مع أفراد من ثقافات مختلفة.
وعلى الرغم من الصعوبات الاقتصادية الناجمة عن الأزمة التي عاشتها إسبانيا، و كذا المستويات العالية للبطالة و الفوارق الاجتماعية و التي تعد من بين أعلى المعدلات في الاتحاد الأوروبي، تكشف الدراسة أن الإسبان لا يلقون باللوم على الاتحاد الاوربي و لا حتى على المهاجرين الذين أصبحوا في دول أوربية أخرى كبش فداء الأزمة الاقتصادية, حيث لا يتجاوز معدل الذين يؤيدون الخروج من الاتحاد مثلا نسبة 10% مقارنة مع نسبة 20% من الفرنسيين, 16% من الألمان, 25% من السويديين.
من جهتها, تقول كارمن غونزاليس إنريكيز، مؤلفة الدراسة أن "إسبانيا و البرتغال تقاسمتا و لمدة أربعة عقود تجربة مماثلة من حكم القومية الكاثوليكية و هيمنة الاستبداد و هو ما شكّل في الحاضر لقاحا ضد أحزاب اليمين المتطرف و جعل البلدين بمنأى عن موجة الأحزاب الشعبوية اليمينية على الرغم من الأزمات الاقتصادية و السياسية الخطيرة التي عانى منها البلدين".