تعصف مخاطر صعود القومية والبطالة والفساد، وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي بدول البلقان، وفق رؤية محلل سياسي، في ظل التوترات الناجمة عن التعددية العرقية والدينية والثقافية شديدة التعقيد، التي تتصف بها المنطقة. جاء ذلك على لسان الصحافي والمحلل السياسي الإنكليزي بول ماسون، في مقالة نشرتها الأسبوع الماضي صحيفة "ذا غارديان" البريطانية، وحذر من مؤشرات صعود القوميات، والتأزم السياسي الذي تعيشه دول المنطقة، ومن بينها كرواتيا التي شهدت مؤخراً انتخابات برلمانية لا تبشر بمستقبل مستقر. وأعرب "ماسون" عن تشاؤمه في تحقيق طموحات الشعب الكرواتي وتحسين الحالة الاقتصادية والسياسية التي تعيشها البلاد منذ زمن طويل، وذلك على خلفية الفشل في تشكيل حكومة جديدة على مدى 10 شهور، إثر الانتخابات. وأسفرت نتائج الانتخابات الأخيرة عن فوز حزب "الاتحاد الديمقراطى الكرواتي" ب 61 مقعداً من مقاعد البرلمان، البالغ عددها 151 مقعداً، مقابل 54 مقعداً للاشتراكيين الديمقراطيين. وعن حزب"الاتحاد الديمقراطي الكرواتي"، أوضح ماسون أنه الحزب الرئيسي ليمين الوسط في كرواتيا، ولا يخفي أعضاؤه تعاطفهم مع نظام "أوستاشاس" الحاكم فى كرواتيا وقت الحرب العالمية الثانية، وهو نظام مؤيد للنازية وكان تابعاً لدول المحور بقيادة أدولف هتلر الزعيم النازي الألماني. ويتساءل الخبير بالقول: "أين تتجه المنطقة في ظل اكتساب القوى اليمينية زخماً أكبر في جميع أنحاء أوروبا خلال السنوات القليلة الماضية، ما جعلها تحرز مكاسب انتخابية غير مسبوقة سواء على المستوى الوطني أوالأوروبي؟". وأرجع المحلل تزايد شعبية الأحزاب اليمينية إلى دعواتها لكبح جماح الهجرة والتضييق على المهاجرين، في ظل الدور الهام الذي لعبته شبه جزيرة البلقان خلال موجة الهجرة الأخيرة باعتبارها الطريق الرئيسة لتدفق المهاجرين القادمين من بلدان الشرق الأوسط التي مزقتها الحروب. وتشهد كراواتيا إلى جانب الجمود السياسي الذي مرت به مؤخراً، آفاقاً اجتماعية واقتصادية ضبابية، حيث تحتل ثالث أعلى مستوى لمعدلات البطالة في الاتحاد الأوروبي بعد اليونان وإسبانيا، فيما تصل نسبة البطالة 40% في بعض أجزاء البلاد. وأشار المقال إلى مشكلة هجرة الأدمغة، التي بلغت أعلى مستوياتها منذ انضمام البلاد للكتلة، في ظل ارتفاع نسبة الهجرة من الطبقة الوسطى المتعلمة؛ واستضافت ألمانيا على سبيل المثال 50 ألف مواطن كرواتي في عام 2015، وفقاً لمكتب الإحصاء الاتحادي في ألمانيا. وفي البوسنة المجاورة، تتجه جميع الأنظار نحو الاستفتاء الأحادي لصرب البوسنة المزمع عقده في 25 سبتمبر الجاري. وبعد أن قضت المحكمة الدستورية بعدم شرعية تحديد يوم ل"جمهورية الصرب" (إقليم داخل البوسنة والهرسك)، قرر الرئيس الشعبوي للإقليم "ميلوراد دوديك" إقامة استفتاء على استقلال الإقليم. وبما أن الاستفتاء سيتم في الإقليم ذو الأغلبية الصربية، فإنه ليس من الصعب توقع نتيجته، الأمر الذي يثير مخاوف البشناق (مسلمو البوسنة والهرسك). وتأتي مساعي القيادة الشعبوية المتطرفة لصرب البوسنة، في ظل نشاط خارجي عنيف للحليف الروسي في المنطقة، وحالة "الحرب الباردة" التي تشهدها العلاقة بين موسكو والاتحاد الأوروبي؛ فيما بدأ صرب البوسنة بتفعيل تحرك نحو الاستقلال مع اشتعال الأزمة الأوكرانية وتدخل روسيا المباشر في القرم. وينتظر كثيرون تحركاً في هذا الإطار من قبل الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي "الناتو"، إلا أن مكتب الممثل السامي في البوسنة (هيئة أسست لمراقبة الالتزام باتفاق "دايتون" الذي أنهى الحرب في البوسنة قبل نحو عقدين)، لم يتحرك سوى من قبيل النقد لخطاب "دوديك" ومساعيه، بالرغم من الصلاحيات الكبيرة التي يتمتع بها. ويبدو أن قادة صرب البوسنة، يحاولون استغلال الظرف الذي يمر به الاتحاد الأوروبي، حيث أظهر التعاطي الأوروبي مع الأزمة ضعفاً كبيراً، ينبيء بحالة شبيهة للحالة الأوكرانية في خاصرة أوروبا. وفي مقدونيا، لا يختلف الحال كثيرا عما سبق، فقد قامت مجموعات مسلحة، تنتمي للعرقية الألبانية، بمهاجمة قوات الأمن المقدونية. وتكمن المشكلة في المعالجة الخاطئة وغياب المساواة تجاه الأقلية الألبانية، من قبل الأغلبية المقدونية التي تتقلص عاماً بعد الآخر، كما في الحالة البوسنية. كما أن الصراع مع اليونان حول تسمية البلاد يبقى ملفاً شائكاً، وترفض أثينا الاعتراف باسم مقدونيا، الذي تعتبره اسماً يونانياً لأرض يونانية، الأمر الذي ألقى بظلاله على مساعي دمج مقدونيا في الاتحاد الأوروبية. وألقت أزمة اللاجئين، المزيد من الضوء على أهمية أن يلعب الاتحاد الأوروبي دوراً فاعلاً في ملفات مقدونيا، وأظهرت الأزمة أهمية الموقع الاستراتيجي الذي تتمتع به البلاد بالنسبة للقارة الأوروبية، جنباً إلى جنب مع كل من اليونان وصربيا. وتتميز المنطقة بموقع جغرافي استراتيجي، بين قوى دولية عظمى متنافسة، كما تحتضن أهم الطرق والممرات الدولية الاستراتيجية، التي تربط قارة أوروبا بآسيا؛ ما جعل منها ساحة للتدخلات الخارجية، من قبل القوى العالمية الكبرى، التي ظلت تسعى بشكل مستمر لفرض سيطرتها العسكرية، وبسط نفوذها السياسي والاقتصادي على المنطقة. أخيراً، يشير المحلل السياسي أن مخاطر الكراهية العرقية، وارتفاع معدلات البطالة، والفضاء العام المسيس، والهجرة، والفساد المزمن، التي تعّصف بالمنطقة، تشكل تهديداً حقيقياً بإشعال فتيل النزاعات والصراعات خلال الفترة المقبلة. *وكالة أنباء الأناضول