خطاب عنصري متشدد يعود إلى شاشات التلفزيون ويتصدر أعمدة الصحف في أوروبا، بنية الدعاية القصوى لأحزاب يمينية قد تعود إلى السلطة مرة أخرى. هذا ما يميز المشهد السياسي الأوروبي في الفترة الأخيرة، وذلك على وقع الأزمة الخانقة التي تتمثل في تصاعد المعضلات الاقتصادية والاجتماعية، مع تزايد عدد اللاجئين العرب القادمين من مناطق التوتر وتدفقهم على أوروبا. هذا الواقع أدّى إلى إعادة طرح العديد من التساؤلات حول طبيعة عودة اليمين وأسبابها والظروف التي تحيط بها. أظهر استطلاع ألماني حديث أن تأييد المواطنين للاتحاد المسيحي الذي تتزعمه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل انخفض إلى أقل مستوياته هذا العام، فيما ارتفع تأييدهم لحزب البديل الألماني "إيه آف دي" المعارض للاتحاد الأوروبي والمناوئ لعمليات إنقاذ اليورو إلى أقصى درجاته هذا العام. هذا الخبر ليس في معزل عن الظروف المحيطة بالقارة الأوروبية، سواء من جهة الشرق، أي منطقة الشرق الأوسط أو الجنوب أي أفريقيا بكل تعقيداتها أو الغرب من ناحية الرقابة والهيمنة الأمريكية التي تسلط على الأوروبيين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وما قبلها من محاولات التسلل إلى قلب الآلية السياسية للأوروبيين مع مقترحات ويلسون في نهاية الحرب العالمية الأولى. اليمين يعود اليوم بقوة إلى أوروبا، حاملا معه صورا وذكريات لا تتوقف فقط عند طبيعة نتائج الحرب العالمية الثانية وكيفية انتهاء الأنظمة الكليانية التي كانت تحكم ألمانياوإيطاليا وأسبانيا بين منتصف الثلاثينيات ومنتصف الأربعينيات، بل إن التساؤل المركزي في هذه اللحظة التي تمر بها أوروبا هو: ماذا في جعبة اليمين القومي الذي يعود من برامج وآليات للتخلص من العزلة والاختناق الأوروبي الحالي؟ وهل أن اليمين له فعلا تلك الحلول؟ وكيف استغلت التيارات القومية الظروف الداخلية والخارجية لأوروبا والغرب عموما للعودة بهذه القوة؟ مشترك سلطوي أحزاب اليمين المتطرف وافرة العدد ومتداخلة الاهتمامات ولها نزعات متعددة وصياغات خطابها متنوعة، وذلك يعتبر من بين أسباب تعدد تسمياتها، وسبب اختلاف المهتمين بتصنيف فئاتها. لكن ما يتفق عليه الباحثون هو وجود خصائص مشتركة لا يخلو منها واحد من هذه الأحزاب، وأن ثمة فئات رئيسة يمكن تمييزها في إطار اليمين المتطرف، وهذا ما يبرر التحالف القائم اليوم بين اليمين الفرنسي والألماني واليوناني والهولندي والإيطالي والأسباني في البرلمان الأوروبي. لقد تأسست العقيدة اليمينية الأوروبية على الدولة القومية، وهي جزء من الفلسفة الكلاسيكية التي نبعت مع ثورة الأنوار وساهمت في تقوية دعائم الدولة الحديثة وفق المنظومة الغربية. لكن وبتطوّر تاريخي معين امتزج بطفرة اقتصادية قادت إلى الاستعمار والتوسع في العالم، أصبحت المنظومة الغربية أكثر ملامسة للجشع والهيمنة وتملكت تلك الدول أحلام إمبراطورية حولت حقيقة التجاور الجغرافي بينها إلى اشتباك متواصل وصراع على المستعمرات والقيام بتحالفات في ما بينها وفق هذه الصيغ، وقد كان ذلك واضحا في تقسيم القوى الكبرى إبّان الحرب العالمية الثانية إلى محور (ألمانيا، إيطاليا، النمسا المجر، بلغاريا) وحلفاء (بريطانيا، فرنسا، روسيا، الولاياتالمتحدةالأمريكية). ويقول هابرماس في مؤلفه عن الفضاء العمومي أن تلك الحرب كانت "تعبيرا عن وصول العقلانية الغربية إلى لامعقوليتها". ولا تجرؤ الأحزاب اليمينية عادة على المطالبة الصريحة بنظام مؤسسي غير ديمقراطي، لكن أبرز قواسمها المشتركة هو نفورها من النظام الديمقراطي، وعداؤها للطبقة السياسية التقليدية، وهو ما يتجلى في حرصها على الانتقاص من شرعية النظم القائمة ونقدها للنظام التمثيلي البرلماني وما تعتبره جدلا فارغا بين الزعماء الطامحين إلى تحقيق مآربهم الشخصية عبر الاشتغال بالسياسة. كما تشن جميعها حملة شعواء ضدّ ما تصفه بالحرية المفرطة وضعف هيبة الدولة وتفكيك الكيانات الاجتماعية التقليدية ومعاندة طبائع الأشياء بالإفراط في المساواة. وقد أكد الزعيم اليساري الفرنسي جون لوك ميلونشون أن اليمين ظاهرة تعم كامل أرجاء أوروبا وذلك جراء "أزمة إنسانية عارمة مصدرها عدم مشروعية النظام الرأسمالي العولمي الذي تقوده أمريكا اليوم". ومن ذلك الحروب الكبرى التي قامت منذ تسعينيات القرن الماضي، و"غزو العراق الذي أدّى إلى الكشف عن عنف وتجبر المنظومة الدولية التي ترعاها الولاياتالمتحدة" حسب تصريحه، ويضيف ميلونشون في مقابلة إذاعية مع راديو مونتيكارلو الفرنسي أن الظرف السياسي العالمي المشحون هو "ضرورة بالنسبة إلى الولاياتالمتحدة وحلفائها حتى تبقى المنظومة على حالها". وقد استغل اليمين الأوروبي ذلك ليحول الأزمات التي تحدث إلى مادة لخطاب سياسي مشحون ومليء بالقومية المتعصبة. وقد عرفت أوروبا مع منتصف الثمانينات من القرن الماضي موجة انتشار الأحزاب اليمينية المتشددة، وهو انتشار حرك داخليا الخارطة السياسية الأوروبية لطلوع نجم اليمين المتشدد على حساب التشكيلات السياسية التقليدية، كما أثار خارجيا جملة من ردود الأفعال لاستهداف هذا اليمين المتشدد الشرائح الاجتماعية غير الأوروبية التي تسكن في أوروبا. وتتفق جميع أحزاب اليمين الأوروبي المتشدد على فكرة واحدة، وهي أن المهاجرين وأبناءهم وأحفادهم وما سيخلفونه من نسمات في المستقبل، هم مصدر الشر ومنطلق جميع المشكلات في أوروبا. كما يغلب على زعماء أحزاب اليمين المتشدد الأوروبي سلاطة اللسان والنزول في الخطاب إلى مستوى السجال اليومي والتنابز بالألقاب. وقد عرف ذلك عن يورغ هايدر في النمسا وعن جيانفرانكو فيني في إيطاليا وجان ماري لوبن في فرنسا. رؤى ضيقة النزعة اليمينية لا تتجاوز حدود الجغرافيا التي تريد حكمها، ولا تمتلك رؤى إنسانية إلا من تلك الزاوية التي تعني الاستعمار. إذ رغم أن السياسات الاجتماعية والاقتصادية التي يمثل الموقف منها معيارا تقليديا للتمييز بين قوى اليمين واليسار، فهي لا تمثل محور اهتمام الجيل الحالي من أحزاب اليمين المتطرف، ومواقفها في هذا الميدان تميل غالبا إلى تبني خيارات نيوليبرالية تعارض أي دور للدولة في إعادة توزيع الثروة أو توجيه دفة الاقتصاد، كما تتجلى نزعتها اليمينية عبر صراعها مع قوى اليسار الشيوعية والاشتراكية. لكن أبرز ملامح يمينيتها يبقى اهتمامها المفرط بموضوع احترام القانون وحفظ النظام، وهو موضوع مفضل لدى أحزاب اليمين التقليدي، لكنه في هذه الحالة يطرح بإلحاح أكبر وعبر خطاب أكثر راديكالية. ولتلك الأحزاب خطاب وطني خاص، يتجاوز أحيانا الاهتمام بالبلد الذي ينشط فيه الحزب إلى صياغة مطالب توسعية إقليمية ودولية. وينطلق مفهوم الوطنية هنا من منظور عرقي (عنصري أحيانا) يميل إلى إقامة فكرة المواطنة على أساس القرابة الدموية. كما يمتاز الخطاب الوطني لدى هذه الأحزاب بصياغته العدوانية ونزعته الإقصائية التي تكشف طبيعته الشوفينية واعتماده على فكرة الانتقاء التاريخي. ثم إن اليمين يرتكز دائما على الأحادية في الزعامة، ويستبطن العديد من الأفكار التي تتقاطع مع الستالينية (نسبة إلى ستالين الزعيم السوفييتي السابق)، إذ دائما ما توجد قيادة قوية وكارزمية، مما يدفع هذه الأحزاب إلى اعتماد بنى تنظيمية تكرس مركزية السلطة، وينحو بنشاطاتها منحى شعبويا ديماغوجيا في الشكل والمحتوى، وهو ما يظهر في ميلها المفرط إلى الصدام والمواجهة مع القوى السياسية التقليدية، وسعيها إلى استغلال مشاعر القلق وعدم الرضا لدى المواطن العادي. ظروف عودة اليمين تتفاعل العديد من المتغيرات لتؤدي إلى عودة قوية للتيار اليميني القومي في أوروبا، والذي يمارس سياسات تتميز بالتشدد تجاه القضايا العربية بشكل عام وخاصة مسألة المهاجرين العرب في أوروبا. ومن أهم تلك المتغيرات نجد المجتمعية والمؤسسية والسياسية والتعبوية. فالمتغيرات المجتمعية تتمثل أهمها في وجود اهتمام طارئ بمسائل محددة لا يغطيها خطاب الأحزاب التقليدية أو لا يوليها العناية الكافية من وجهة نظر البعض. عندها يتحول الموضوع إلى محور استقطاب تتكون حوله تدريجيا فئة من الناخبين تبحث عن صوت سياسي جديد يتفاعل مع اهتماماتها ويعبر عن مطالبها. وفي هذا السياق يلاحظ أن هذه الأحزاب استغلت تحول ظاهرة الهجرة إلى شاغل لقطاعات اجتماعية أصبحت ترى فيها مشكلة قصّرت الأحزاب التقليدية في العناية بها، فاتخذتها موضوعا للدعاية السياسية على نحو أدّى إلى النتائج الانتخابية المعروفة. هناك عامل مجتمعي آخر هو توسع كتلة الناخبين وحصول فئات اجتماعية جديدة على حق التصويت، وهو ما يعضده كون نسبة مرتفعة من ناخبي اليمين المتطرف تنتمي إلى فئة الشباب حديثي السن. أما عن المتغيرات المؤسسية، فتتعلق بالظروف التي تيسر (أو تعوق) الاعتراف القانوني بهذه الأحزاب وتقدمها على الساحة السياسية. ومن أكثرها تأثيرا طبيعة النظام الانتخابي وما يتضمنه من صيغ لحساب المعدلات والحصص الانتخابية وشروط التمثيل البرلماني للأحزاب، منها أيضا الشروط الدستورية والقانونية والقيود البيروقراطية على الاعتراف بالأحزاب سواء عند إنشائها أو أثناء نشاطها، مثل اشتراط حدّ أدنى من التوقيعات وتقديم ضمانات مالية. ويمثل التمويل عائقا مهما خاصة في البلدان التي تعتني بالتدقيق في مصادر تمويل الأحزاب ولا تقدم دعما ماليا إلا على أساس النتائج الانتخابية. وضمن هذه المتغيرات كذلك حظوظ الأحزاب الناشئة في اجتذاب وسائل الإعلام والحصول على تغطية مناسبة تضمن لها لفت انتباه القطاعات الاجتماعية المستهدفة بخطابها. أما عن المتغيرات السياسية، كوجود حزب مسيطر لا تبدو إزاءه بقية الأحزاب منافسا وبديلا سياسيا جديا، مما يدفع الناخبين المتذمرين إلى البحث عن خيارات بديلة. ومنها كذلك طبيعة رد فعل الأحزاب الأصلية على ظهور خطاب الأحزاب المتطرفة، حيث تجد الأولى نفسها عادة في مأزق بين مخاوف الابتعاد عن الناخب العادي وإغراءات منافسة الأحزاب المتطرفة على جمهورها. ولعل أهم المتغيرات السياسية الأخرى هو مستوى الاستقطاب الأيديولوجي داخل الطبقة السياسية، فكلما تقاربت رؤى الأحزاب التقليدية واتجهت إلى الالتقاء في منطقة الوسط سعت الأحزاب الجديدة إلى احتلال الفراغات المهجورة على أطراف الخارطة السياسية، والعكس صحيح. وعن المتغيرات المتعلقة بالقدرات التعبوية، فهي بالأساس سمة مشتركة بين هذه الأحزاب، وتتمثل في وجود زعيم كارزمي ذي مؤهلات تهيّئه ليحتل موقعا على الساحة السياسية، كما حصل مع لوبان في فرنسا وهايدر في النمسا وجانمات في هولندا وديلن في بلجيكا وغيرهم. يضاف إلى ذلك مدى قدرة الحزب على اجتذاب مصادر للتمويل تغطي تكاليف أنشطته، فضلا عن طبيعة البنية التنظيمية التي يختارها الحزب، حيث يلاحظ أن معظم الأحزاب التي حققت بعض النجاح بدأت بتكوين نواة صلبة على مستوى جهوي أو فئوي مثلت نموذجا لنجاحها ونقطة ارتكاز لانتشارها اللاحق. ورغم النجاح النسبي لأحزاب اليمين المتطرف شعبيا، ورسوخ قدم البعض منها سياسيا، وتأثيرها بشكل مباشر أو غير مباشر في صناعة الرأي العام وصياغة القرار السياسي في أكثر من بلد، فليس من المؤكد أنها ستزداد تجذرا اجتماعيا أو تقدما على الصعيد السياسي، فالموجة الحالية هي ثالث موجات التطرف التي انحسر مدّها في أغلب الحالات. والصعود المسجل الآن لا يمثل نجاحا لهذه الأحزاب بقدر ما يعتبر فشلا لطبقة سياسية أصابها الترهل ونال منها الفساد، وعرضا لمأساة مجتمعات أوهنتها الشيخوخة وتعرضت لأزمة قيم. عودة معركة الأفكار يقول دومينيك فولتون الباحث الفرنسي في الإعلام والخطاب السياسي إن "شكل نشاط اليمين تغير لكن عمقه وأهدافه لا يزالان على حالهما منذ نشأته الأولى". ويضيف فولتون إن أخبار صعود حزب متطرف مثل حزب البديل من أجل ألمانيا أو الجبهة الوطنية الفرنسية أو حزب رابطة الشمال الإيطالي لا يعكس قوة فعلية لهذه الأحزاب بل يعكس خطرا آخر أكثر عمقا وهو "تأثير الخطاب السياسي اليميني على المتلقي العادي الذي يترجم اقتناعه بالاقتراع وهذا جوهر العملية الديمقراطية في حقيقة الأمر". ويماثل فولتون صعود اليمين في أوروبا بصعود الإسلاميين في البعض من دول الربيع العربي بُعيد سقوط الأنظمة في تونس ومصر. فالأمر بالنسبة إلى الأوروبيين متعلق بتحلل الدولة القوية التي كانت السمة البارزة للدولة الأوروبية طيلة قرن من الزمن، أما الآن وبفعل العولمة فإن خصائص الدولة القومية في تراجع مستمر، و"الأمر يشبه ردة فعل العرب على الأمر، فمحاولات العولمة والهجمات الغربية المركزة على تلك الحضارة أدت إلى اختيار قطاع واسع من المواطنين في الشارع ما اختاره الإسلاميون ظنا منهم أن ذلك سيحمي هويتهم". ويقول فولتون إن هذا الصعود سوف يعيد الشارع الأوروبي وخاصة الفرنسي إلى الجدل العام حول الأفكار والأيديولوجيات، ويضيف في حوار له نشر في مجلة "هيرماس″ المتخصصة في علم الاجتماع، أن عودة الجدل حول التاريخ والفلسفة والإنسان بمناسبة صعود التيار اليميني يعدّ فرصة لإعادة الإنسان إلى قلب العملية السياسية، عوض أن تكون الدولة والقوة والانتشار العالمي محورها.