تعتبر مسألة التدبير الترابي ، أساسا لبلوغ تنمية حقيقية ومتوازنة، بإمكانها الاستجابة لكل متطلبات المواطنين على الصعيد الترابي سواء من خلال الجماعات الحضرية أو القروية، الجهات، العمالات والأقاليم، غير أن هذا التدبير، لا زالت تعترض تقدمه مجموعة من الاختلالات التي أثرت على مردودية نتائجه و جودة خدماته، هاته الأخيرة يمكننا إجمالها في النقاط التالية:- _ ضعف الموارد المالية المرصودة لتدبير الشأن العام الترابي، الأمر الذي لطالما أثر سلبا على جاذبية الاقتصاديات الترابية وهو ما يفسر قلة تهافت المستثمرين عليها؛ _ ضعف تكوين المنتخبين واستمرار تدبيرهم للاقتصاديات الترابية بعقلية سياسية محضة عوض عقلية تدبيرية بحثة؛ _ ضعف اليات وقنوات التسويق الترابي، مما حرم الميزانية العامة للدولة، وعبرها المواطنون، من جني أرباح مالية مهمة كانت ستكون لها انعكاسات ايجابية على مسلسل التنمية؛ _ نقص في الموارد البشرية واللوجستية الكفيلة بالاستجابة الآنية للمرتفقين من جهة ، وتثبيت العدالة الخدماتية الجهوية من جهة أخرى الخ... كل هذا التأخر عن الإقلاع الترابي المتوازن والفعال، يمكننا تفسيره بغياب البعد الاستراتيجي في تدبير المجالات المرتبطة بمسألة التنمية الترابية المستدامة وخاصة في شقها الاقتصادي ، وذلك اعتبارا لكونه يشكل اللبنة الأساسية لمسار التنمية في ارتباط تام ومتناغم مع تطلعات المنظومتين الاجتماعية والثقافية لكون أن كل واحد منها مكمل للآخر. وفي هذا السياق ،ورغبة منه في تجاوز هاته المعيقات الاقتصادية بامتياز من جهة، والتعاطي بشكل إيجابي مع المتغيرات الاقتصادية الجديدة والمرتبطة في جوهرها بكل من تحديات العولمة المحكومة بجودة الخدمات وسرعة الآداء، وكذا باستعمال أحدث وسائل التواصل التكنلوجي السمعي والبصري من جهة أخرى، سعى المغرب إلى التعجيل بإدخال مجموعة من الآليات والتقنيات الجديدة في منظومة التدبير الترابي، وبالموازاة مع ذلك انخرط في اعتماد مشاريع تنموية كبرى تطلبت إعادة النظر في البنيات التحتية، الموارد المالية ، البشرية واللوجستية الموضوعة رهن إشارة الجماعات الترابية من أجل الاضطلاع بخدماتها، وذلك تهييئا لميلاد الجهوية المتقدمة المرتكزة على المقاربة الاستراتيجية الاستشرافية في التدبير ، وهو ما يستشف من خلال الإصلاحات الدستورية العميقة التي تم الإعلان عنها والتي دشنها أول دستور للمملكة ومرورا على وجه الخصوص بدستوري 1996 و 2011، المكرسين لميلاد مفهوم الإدارة الترابية الحديثة والمبنية على احترام الخصوصية والإنسية المغربية. إن تحديات المرحلة الراهنة والمستقبلية المرتبطة بتدبير الشؤون الترابية وخاصة الاقتصادية منها ، لتتطلب انخراط كل الفاعلين لفتح نقاش عمومي بناء وفاعل ، قوامه التشخيص الحقيقي لمتطلبات التنمية الترابية يمكن من إعداد برامج عمل ميدانية تستهدف الحاجيات الأساسية للمواطن ، وبالتالي نتقدم في هذا الباب بمجموعة من الاقتراحات التي نعتبرها من وجهة نظرنا قادرة على تجاوز النمط البيروقراطي الذي لازال يتحكم في تدبير المنظومة الترابية، ويمكن القول بأن مفهوم "الجماعة المقاولة" أصبح يفرض نفسه بإلحاح في هذا المجال ، ليس فقط لكونه أسلوبا قد أبان عن نجاعته في تحقيق نتائج إيجابية كان لها وقعا على تجويد الخدمات الترابية وتحسين المستوى المعيشي للمواطن، فضلا عن أننا نعتبر أن هذا المعطى يشكل نقطة التقاء بين ما أصبحت تعتمده جماعاتنا الترابية من مناهج تدبيرية توصف بأنها "حديثة" كشركات التنمية المحلية ، والشراكة قطاع عام –قطاع خاص، فإن التجربة أثبتت عدم فعالية هاته الأنماط لكونها لا تتعامل بالمنطق المقاولاتي المبني على منهاج رابح-رابح، إذلا يتصور من منظومتين- القطاع العام والقطاع الخاص- غير متكافئتين من حيث الموارد البشرية ، المادية واللوجستية أن تحققا نفس النتائج ، وبالتالي فلا مناص من نهج هذا الأسلوب التدبيري الذي يعطي للجماعات الترابية إمكانيات متعددة من أجل التفاوض في أفق الدخول في شراكة سواء كانت وطنية أو أجنبية، الأمر الذي لا يمكن بلوغه من وجهة نظرنا،إلا عبر تفعيل مجموعة من الآليات الكفيلة بالتأسيس لميلاد مفهوم التدبير الاستراتيجي بالجماعات الترابية، والمتمثلة أساسا في : إنشاء منتدى وطني للجماعات الترابية- يضم كل جهات المملكة- يكون بمثابة أرضية خصبة لبحث كل القضايا المرتبطة بالتنمية الاقتصادية وعبرها التنمية الاجتماعية و إصدار تقارير سنوية تكون بمثابة مرجع رسمي بالنسبة لكل الجماعات، وخزانا مباشرا لابتكار الأفكار والمشاريع؛ التسويق عبر إحداث خلايا للتواصل الداخلي والخارجي الإلكتروني، تسند إليها مهام التعريف بالمعطيات الجغرافية، والمؤهلات الاقتصادية والاجتماعية لكل جهات المملكة؛ ضرورة الانخراط المباشر واللامشروط في مسلسل وطني قوامه التشبيك الجماعي لبلوغ أسلوب"مجموعة الجماعات"، الأمر الذي وإن تم التعاطي معه بجدية سيمكن الجهات الضعيفة بنيويا واقتصاديا من الإستفادة من الجهات القوية اقتصاديا، لأن التجربة أثبتت أن قوة تنافسية الدول ترتبط بقوة تنافسية وحداتها الترابية؛ ضرورة الاحتكام لوسيلة تعاضد الوسائل من أجل تنفيذ المشاريع، الأمر الذي وإن أحسن التعاطي معه سيؤدي لا محالة إلى جذب الاستثمار ومن ثمة خلق التنافسية وبالتالي ميلاد مفهوم المقاولة الترابية؛ ضرورة حث الأحزاب السياسية على تنظيم دورات تكوينية بشكل مستمر لكل منتخبيها وخاصة في الأمور المتعلقة بالتدبير الترابي، لأن التجربة ، أثبتت أن جهل المنتخب الجماعي بأدنى أبجديات التدبير اليومي الترابي لازال مرتفعا ، وهو ما ينعكس سلبا على مردودية المشاريع الترابية، ويؤدي الى تبذير المال العام ، ما مرجعه إلى الطرق "العشوائية" في تدبير الاقتصاد الترابي، ومن هذا المنطلق، يمكننا اعتبار التدبير الاستراتيجي للاقتصاد الترابي بمثابة صمام أمان الإقلاع الترابي الاستراتيجي، مما يتطلب معه ضرورة إعادة النظر في مستويات تكوين المنتخبين، والقيام بالتحسيس بضرورة التعاون والشراكة بين جميع الفاعلين" أحزاب سياسية، قطاع خاص ، منظمات المجتمع المدني، ومواطنين" ؛ ضرورة التخفيف من ثقل المساطر الإدارية في مجال الاستثمار سواء الوطني منه أو الأجنبي، الأمر الذي يقتضي تعميم آلية الشباك الوحيد عبر المراكز الجهوية للاستثمار، هذه الأخيرة التي لازالت في حاجة إلى المزيد من الأطر والكفاءات البشرية ، الإمكانيات المالية واللوجستية الكفيلة بضمان انخراطها في عالم الاقتصاد الترابي الرقميNTIC؛ الجهوية المتقدمة، كخيار تنموي وتدبيري، من شأنه أن يقدم إطارا جديدا يضمن تنسيقا أكبر بين مختلف البرامج والأنشطة؛ ضرورة إشراك المجتمع المدني والساكنة في وضع تصوراتهم للتنمية الاقتصادية والاجتماعية الترابية، وذلك في أفق ضمان التكريس الحقيقي للأدوار الجديدة التي كفلها الدستور الجديد لهما ، بما سيؤدي إلى تبني التدبير التشاركي المبني على توزيع الأدوار بين مختلف الفاعلين و تفعيل مضامين دستور 2011 المبني على مبدأي المساءلة والمحاسبة؛ التخفيف من حدة الوصاية المفروضة على الجماعات الترابية ، وتعويضها بالرقابة القبلية، المصاحبة والبعدية ، هاته الأخيرة التي أبانت عن نجاعتها في تدبير المشاريع بالقطاع الخاص؛ دعم الإستقلال الإداري والمالي للجماعات الترابية، وبالمقابل تفعيل آليتي المحاسبة والمساءلة الدستوريتين المقرونتين بالتفتيش والمواكبة ، في أفق خلق أقطاب للتنمية الترابية؛ اعتماد التكوين المستمر لفائدة المنتخبين ، في المجالات المرتبطة بالتدبير واستعمال الوسائل التكنلوجية الحديثة الكفيلة بتوسيع رقعة تسويق المنتوجات الترابية وضمان فرص إضافية لجذب رؤوس الأموال الوطنية والأجنبية، هاته الأخيرة والتي لابد من تحفيزها عبر تقديم خصم ضريبي مهم لفائدتها، وبشراكة مع الجماعة الترابية ، مشروط بدفتر تحملات يلزمها بالاستثمار لمدة معينة وبتشغيل أبناء الجهة ، وضمان تكوين يتلاءم وأنشطتها؛ o اعتماد آليات التعاون والشراكة والتعاضد والتوأمة بين الجماعات الترابية داخليا ، والانفتاح على التجارب الأجنبية الناجحة في مسألة التدبير الترابي،والعمل على تفعيل الدور الرئيسي للتوأمة من خلال إحداث منتديات مشتركة لتبادل التجارب والخبرات الميدانية؛ o الانخراط في مسلسل إنشاء مجموعات الجماعات الترابية، وذلك لما لها من فوائد إيجابية تتمثل أساسا في تجميع الموارد البشرية ، المادية واللوجستية البين ترابية من أجل تحقيق مشاريع ضخمة بطريقة تضامنية وتشاركية؛ o الحرص على إعداد مخططات للتنمية الجماعية توازن بين الموارد المتاحة والنفقات والأهداف المتوقع بلوغها، ما يفرض خضوع المشروع لكل مراحل التخطيط الاستراتيجي ابتداء من التشخيص وانتهاء بتطبيق المشروع بما يمكن من تقييم نتائجه على المستوى القريب، المتوسط والطويل الأمد؛ o ضرورة التعامل مع القطاع الخاص كشريك أساسي في مسألة التنمية الاقتصادية الترابية، لماله من الكفاءات البشرية والموارد المالية واللوجستية ، ما يؤهله لأن يصبح شريكا حقيقيا إلى جانب الجماعات الترابية في مسألة صناعة القرار الترابي؛ o الحرص على انفتاح الجامعة على محيطها الاقتصادي، من خلال خلق مختبرات للتكوين تنسجم ومتطلبات التنمية الاقتصادية. إن الاعتماد على مثل هذه الوسائل التدبيرية الحديثة في تدبير شؤون الجماعات الترابية، لينم عن رغبة الدولة المغربية في الرقي بمستوى خدماتها الترابية إلى أحسن الأحوال وذلك أسوة بالدول المتقدمة في هذا المجال والتي اتخذت من التدبير الاستراتيجي أسلوبا لها في تدبير شؤونها الترابية، وهو ما تترجمه نسبة الجذب لرؤوس الأموال الأجنبية بما انعكس إيجابا على وتيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية الترابية والوطنية. إن العمل بهذه التقنيات الحديثة في المجالات المرتبطة بالتنمية الترابية ، ستعطي الفرصة حتما لتكريس النموذج الجهوي على أرض الواقع والعمل إلى جانب الجماعات من أجل بلوغ أهداف التنمية الترابية. إن اتجاه الحديث اليوم عن التدبير العمومي الجديد، القائم على إدخال أساليب إدارة الأعمال في المنظمات العامة، وإدخال قيم جديدة مثل المنافسة، قياس الأداء، التسويق، التمكين....، أصبح يفرض مراجعة الحدود بين القطاع الخاص والقطاع العام، وبين الحقول الاقتصادية والحقول الاجتماعية، كمدخل أساسي لإعادة صياغة المهام والأدوار والوظائف، بما يسمح باستثمار أمثل للخبرات والوسائل المشتركة والمشاريع، لخلق فعل جديد مؤسس على تقاسم الأدوار والمسؤوليات والمهام، في سبيل إحداث قطيعة مع المقاربات التقليدية لتدبير الشأن العام، الذي أفرز لنا ما أصبح يعرف بأزمة الحكامة، هذه الأخيرة التي أصبحت كثقافة ومنهجية جديدة، تساءل الآليات التدبيرية التقليدية أسسا وممارسة وعقلية