أنا على يقين بأن كل هذا لا استراتيجية فيه. الملك يتصرف بطبعه، وشخصيته هكذا، لأنه يريد أن يعطي صورة تختلف عن صورة والده أو جده أو باقي أسلافه. هذا ملك جديد في عهد جديد ينطبع بالحداثة. { لاحظنا، في الفترة الأخيرة، ظاهرة جديدة تتمثل في كون معظم الصحف الورقية والإلكترونية أصبحت تتابع الأنشطة الملكية. هل هذه نتيجة استراتيجية معينة أم أن الأمور تلقائية أو هي محض مصادفة؟ الجرائد المغربية كانت دائما تواكب الأنشطة الملكية إلا صحف المعارضة أو ما يشبهها. لكن اليوم، هناك توجه آخر، هو أن الصحافة المغربية تهتم بالملك أكثر من ذي قبل، لماذا؟ لأن الملك نزل إلى الميدان ولم يبق في القصر ومعاملته للناس معاملة طيبة وفيها كثير من التواضع، لهذا وقع هذا الاهتمام بالملك وصورته. ولكن، لا يجب أن ننسى أيضا مسألة مهمة جدا، وهي أنه منذ زواج الملك من الأميرة للا سلمى، رأينا لأول مرة حرم الملك وعلى «العمّارية» مثله أيضا. فهذه أول مرة نرى فيها زواج الملك في صورة يمكن وصفها بالوطنية في المغرب بأكمله، واتخذت أهمية كبيرة، ليس داخل حدود المملكة فقط، بل أيضا في العالم العربي وبقية العالم. لم نكن نرى زوجة الملك، وإذا سألتك عن زوجة الحسن الثاني يمكن أن تذكر اسمها، ولكن إن سألتك عن شكلها لن تعرف ذلك، لأنها كانت «مخبعة»، مثلها مثل والدة الملك. الآن، أصبحت زوجة الملك تلعب دورا اجتماعيا مهما، سواء داخل مؤسستها أو في ما يتعلق بمعاملتها كباقي الناس، إذ تزور الأحياء الشعبية، وقامت بجولة في ساحة جامع لفنا بمراكش وأكلت، هي وابنها ولي العهد، ما يأكله الناس. وحتى عندما تسافر في الخارج يمكن أن تراها في الشارع بدون بروتوكول، إذن هذه رؤية جديدة منبثقة عن الملك. لا ننسى أنه في أول سنة من ملكه، عندما كان في باريس أو مناطق أخرى، كان يتسوق بنفسه ملابسه ويتنقل في الشارع بزي عادي، ليس كما يلبس الملوك، بحيث كان يرتدي سروال «جينز»، ومعطفا، وبدون ربطة عنق. عندما لا يكون الملك في نشاط سياسي، كاجتماع مع رئيس الحكومة أو غيره من المسؤولين تراه كجميع المغاربة وكجميع الناس في العالم ككل. وكم من أشخاص أعرفهم شخصيا التقوا الملك يحكون عن تواضعه العجيب الذي يثير استغرابهم. والذين يلتقونه يتحدثون عن معاملته للناس بإنسانية وتواضع وسمو أخلاق. { وبحكم أنك رجل تواصل بامتياز، وسبق أن التقيت الملك بشكل متواتر، هل جاء كل هذا بتلقائية، أم أن الأمر مُنسّق في إطار استراتيجية تواصلية للقصر من أجل العمل على كل ذلك؟ أنا على يقين بأن كل هذا لا استراتيجية فيه. الملك يتصرف بطبعه، وشخصيته هكذا، لأنه يريد أن يعطي صورة تختلف عن صورة والده أو جده أو باقي أسلافه. هذا ملك جديد في عهد جديد ينطبع بالحداثة. هل تذكر أنه في العام الأول أو الثاني من ملكه، أنشأ مفهوم الأصالة و la modernité... { الأصالة والمعاصرة... لا، الأصالة والحداثة، ليس الأصالة والمعاصرة مثل «البام»، لكن الملك قدم رؤية فيها حداثة مع الحفاظ على التقاليد، ولا ننسى أنه، حيثما ذهب، إما يلبس الجلباب وأحيانا العمامة، كما يرتدي البذلة العصرية وربطة العنق. فلديه تشبث بتاريخ البلاد وتقاليدها، ولكن مع الحداثة دائما. فرؤيته في الدين فيها تسامح وانفتاح، وتاريخنا لم يكن دائما جيدا، لكن علاقتنا الآن مع الدول الأخرى انطبعت بهذه الأصالة والحداثة. الدين، حتى في دستورنا، منفتح ومتسامح، ولا يجعل الملك فقط أميرا للمسلمين، بل أمير لكل المؤمنين في كل الديانات السماوية. { قلت إنه لا توجد استراتيجية تواصلية للقصر، لكن نلاحظ أنه منذ اعتلاء الملك محمد السادس للعرش كان هناك تسريب لصور الملك ذات طبيعة إنسانية، من قبيل ارتدائه «طاقية» أو بجانب كلب قرب مسبح، وهي صور كانت تعرض للبيع في كثير من الأسواق والساحات العمومية... لديك الحق في هذا، ليست هناك استراتيجية، بل رؤية، وإذا كنت تقصد بالاستراتيجية رؤية، يمكنك قول ذلك، لكنني أقول إن هناك رؤية للملك بعيدة جدا، نابعة من حساسيته، وهو منذ كان وليا للعهد كان هكذا. منذ كان أميرا كان منفتحا ولديه أصدقاء ومتشبثا بالأصالة، لكن بانفتاح كبير. وهو لازال على هذا الحال، ويبدو لي أنه حتى ما ذكرت من صور للملك مع الكلب وغير ذلك لا يجعلنا ننسى أن الحسن الثاني أيضا كانت لديه مثل هذه الصور، لكن محمد السادس جاء أكثر منه. { وبالنسبة إليك كرجل إشهار، كيف يتعامل الملك بالنسبة لتواصل المؤسسات التابعة له أو للأمراء والأميرات؟ على هذا المستوى هناك اهتمام شخصي كبير للملك بالإشهار والتواصل، إذ هناك سنويا إشهار وملصقات ومطويات وأفلام مؤسساتية، والملك يقف على هذا شخصيا، والمستشارة زليخة الناصري تشرف على ذلك بعده... { لاحظنا بالموازاة مع الجولة الإفريقية للملك تسريب صور له وهو مع الجالية أو في زيارة للسفير الإيفواري الذي حاول تقبيل يده وأيضا مع ابنتيه وحفيدته، وهي صور تداولتها المواقع الاجتماعية، أليس كل هذا منظما؟ لا، ليس منظما. نحن ننسى أن مؤسسة محمد الخامس أسسها الملك عندما كان وليا للعهد، وكان في ذلك الوقت يرافق الفقراء والمعوزين، كان دائما هكذا ويتشبث بكل هذا منذ كان صغيرا. هذه عقيدته وهذا حبه للشعب المغربي وفقرائه وفنانيه وكتّابه الذين ساعدهم كثيرا. الثقافة مثلا في المغرب أصبحت تحظى بأهمية كبرى، لأن الملك أراد ذلك وأعطاها أهمية كبيرة، ومن كان وراء مشروع المسرح الكبير في الدارالبيضاء، ومثيله في الرباط، والمكتبة الوسائطية، ومعهدي الرباط وطنجة للفنون الجميلة؟ من كان وراء مهرجان موازين وهذه الطفرة التي تعرفها السينما في البلاد؟ الملك يحب الثقافة ومن يكون منفتحا على الثقافة يكون ذهنه منفتحا، لأنه يحب الحياة والجمال... وأنا عندما أرى حبه للفنون وتعامله ولباسه، أشعر بأن لديه دورا آخر، فضلا عن الجانب السياسي، هو دور المثقف العاشق للفن الذي لا يضع حواجز بينه وبين الآخرين. { وماذا عن الجانب التواصلي الذي أشرت إليه في هذه الجولة الإفريقية؟ الجانب التواصلي يتطلب استعدادا معينا من حيث الجانب الإنساني، وهذا يكون لديك أو لا يكون، والملك يتوفر على هذا الجانب طبيعيا. { تحدثت عن حب الملك للفقراء، لكن ألا توجد هناك آلة تواصلية وراءه تصنع مفاهيم وعناوين من قبيل ملك الفقراء وتسرب الصور التي تبرز الجانب الإنساني للملك... أقول لك شيئا مهما. أنا أعرف وجهه بشكل عميق... { (مقاطعا) هناك من يتحدث عن دور لك داخل هذه المنظومة التواصلية المحيطة بالملك ولو على سبيل الاستشارة.. لا، لا، تحدثنا، لكنني لم أقدم له أي نصائح، لأنه هو بنفسه يتوفر على رؤية أتفق معه فيها مائة في المائة. وبيننا احترام ولا أريد أن أدخل في هذا. الملك لديه كل هذا بشكل طبيعي. سأقول لك أشياء مهمة جدا لا يعرفها إلا القليل. في يوم من الأيام كنت في القصر الملكي، بمراكش على ما أظن، بدعوة من الملك وأظن أنه كان بمناسبة عيد ميلاده، وأعد لنا مفاجأة استغرب لها الجميع، لا يمكن أن يقوم بها رئيس دولة. كنا لديه ووصلنا لحظة العشاء وكنا قد لاحظنا غياب الموائد، فظننا أنه لن يكون هناك عشاء، وفجأة فتح أحد الأبواب على حديقة، فماذا وجدنا في العشاء؟ جامع لفنا وقد انتقل إلى القصر؛ بائعو المواد الغذائية بأروقتهم، يعرضون الطواجين والكسكس والحريرة وبائعو الحلوى وحتى الحلزون. كانت ليلة عظيمة. من أين جاءت هذه المفاجأة؟ مَن مِن رؤساء الدول أو حتى رؤساء الشركات يمكن أن يعد مثلها، إذا لم يكن لديه ذكاء وثقافة وفن وإبداع. الأثرياء الذين كانوا هناك تلقنوا درسا في التواضع من الملك. أذكر قصة أخرى، وقعت عندما كان لنا موعد مع الملك في قصر أگادير، وكان لقائي الأول أو الثاني معه، فجاءني مدير الديوان يطلب مني نزع ربطة العنق، تحفظت على ذلك لأنني سألتقي الملك، لكن الرجل أصر بكل لياقة على أن أنزع ربطة العنق، ففعلت، ودخلت عليه ووجدته هو أيضا بدون ربطة عنق وكان الاستقبال بدون تكلف وبكامل الارتياح، هل هناك سياسة في هذا؟ الملك هو هكذا، ملك ظل إنسانا محافظا على الإبداع، وعلى التواصل مع الناس. { ومع ذلك أصر على الجانب التواصلي المهني، وأثير انتباهك إلى حضور كريم بوزيدة، رجل التواصل المنضم حديثا إلى الديوان الملكي، ضمن الوفد المرافق للملك في جولته الإفريقية، أليس ما يجري من استثمار للإعلام التقليدي والجديد بخلية التواصل مرتبط بنشاط بوزيدة؟ بوزيدة لم يلتحق إلا في الفترة الأخيرة، وهو رجل أقدره، لكن الملك لم يكن ينتظر كريم بوزيدة أو نورالدين عيوش حتى يصبح هكذا. الملك هكذا نشأ وهذه رؤيته، وهو من يفعل كل ذلك. { هناك من يربط هذه «الهجومية» في التواصل الملكي... (مقاطعا) هناك من يقول هجومية، هناك من يتحدث عن استراتيجية وهناك من يقول «كايزيد فيه»، «أنا بعدا هكذا كيعجبني» وهذه طبيعته... { هناك من يربط ذلك مع وصول عبدالإله بنكيران إلى رئاسة الحكومة وظهوره الدائم في الصحف... لا، لا «وايلي تا انتوما الصحافيين»! لو كان هذا صحيحا لقلته لك، لأنني لا أخفي شيئا. هل الملك يريد أن يفعل مثل رئيس الحكومة؟ هو لا يريد أن يشبه أحدا. هو لا يشبه إلا نفسه. الملك أعرفه، لا يمكن أن يتدخل في ما يفعله بنكيران ولا يعنيه ما قلت... { لابد في هذا السياق من الحديث عن الناطق الرسمي باسم القصر، عبدالحق المريني، الذي يكتفي إلى حد الآن بقراءة بلاغات الديوان الملكي، ما هي إضافته إذن في تواصل القصر؟ أنا متفق معك، لكن المريني ليس مكلفا بالتواصل، هو فقط ناطق رسمي باسم القصر، لكن بوزيدة يمكن أن يدخل في شيء آخر من حيث تواصل القصر، وأنا أقدره لأنه كفء ويمكن أن ينجح في التواصل مع الصحافة مثلا... هل سيتواصل القصر مع الصحافة قلايبا ؟ يمكن، وأظن أنه قريبا سنصل إلى هذا، وتذكر أن الملك كان قد فتح أبواب القصر لصحف مغربية أنجزت ربورطاجات داخله. وقد أعددتُ ربورطاجا أنا كذلك، لكن في إطار الصداقة والاحترام الذي يجمعني معه. الملك يحب الاحترام، فإذا قامت الصحافة بعمل حرفي وفيه احترام يمكن أن تصل إلى التواصل مع القصر. وأنا على يقين من ذلك. لكنه لا يحب ما يفعله البعض من قبيل من كتبوا شهورا طويلة وأسبوعيا عما يأكله وعن سفرياته ولباسه وأمواله وشركاته وجعلوا منه «أصلا تجاريا» (Fond de commerce)، وهناك صحيفة تحدثت عن مرض الملك رغم صدور بلاغ من القصر يتحدث عن وعكة صحية عادية يمكن أن يصاب بها أي شخص، لكنهم اتصلوا بشخص «مختص زعما» ليتحدث عن فيروس ما... هذا سوء احترام لرئيس الدولة، إذن الصحافة يجب أن تتعامل مع الملك باحترام وتقدير ومهنية، ولتقل ما شاءت بحرية، لأنه لا يحب أن يمنع أحدا من التعبير بحرية. أظن أن الملك لا يحب إعطاء استجوابات لأنه ليس كالحسن الثاني الذي كان يحب أن يكون أمام الصحافيين و«يبيّن راسو»، أما محمد السادس فلا يحب «الشو»، فهو أولا يقرأ خطاباته مكتوبة، ويحبها أن تكون متقنة، «موزونة»، مختصرة، وهادفة، ومن هنا، لا يحب الندوات الصحفية وكثرة الاستجوابات واكتفى باثنين أو ثلاثة استجوابات، ثم إنه إن تحدث إلى صحيفة «أخبار اليوم» مثلا سيُقال إنه يشاطرها توجهها، لذلك، يفضل أن يحترم ويقدر الجميع. أظن أن العلاقة بين القصر والصحافة المغربية مقبلة على التغيير إذا كان هناك احترام للملك كرئيس دولة.