قد يبدو مصطلح الاتجار في البشر مستفزاً في وقت يُفترض فيه أن مسيرة البشرية نحو تحرير الإنسان من أشكال العبودية قطعت أشواطاً، وأن الانجازات المدنية في مجالات تكريس مبادئ كرامة البشر وتوطينها في الممارسة أصبحت قيماً شبه مشتركة. ومع ذلك، مازال الاتجار في البشر من أعقد وأكثر جرائم العصر الحديث وأخطرها مساساً بالكرامة الإنسانية، لا أدلّ على ذلك ما أكده التقرير الأول لمكتب الأممالمتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة UNODOC لعام 2006، حين خلُص إلى نتيجة مفادها أنه لا يوجد تقريبا بلد محصن ضد هذه الآفة، وأن هناك 127 بلداً تُعدّ مصدراً لضحايا الاتجار في البشر، نظير 137 بلداً كوجهة لهم. يتخذ الاتجار في البشر، بحسبه خرقاً لحق الإنسان الشامل في الحرية والتحرر من العبودية من كل أشكالها، مظاهر متعددة، يمكن إجمالها في: الاتجار بالأطفال من خلال البيع والعمل في المواد الإباحية والسياحة الجنسية، الاستغلال الوظيفي من خلال العمل القسري، الرقيق الأبيض الذي يمارس عليه الاستغلال الجنسي. أما ضحاياه فتمسّ تحديداً الأطفال، والنساء، وخدم المنازل والعمل القسري، وضحايا نزع الأعضاء. ليس المغرب في منأى عن هذه الظاهرة، فهو أحد البلدان المعنية بامتياز بهذه الآفة، لأسباب موضوعية مرتبطة بموقعه الجغرافي والجيواستراتيجي، كنقطة تقاطع لعدة تيارات حضارية وبشرية، ولانفتاحه على التدفقات الدولية من كل الآفاق. فالمغرب لم يعد، على سبيل المثال، مجرد مصدّر للعمالة نحو الخارج، كما لم يستمر نقطة عبور للهجرة النازحة من إفريقيا جنوب الصحراء، بل أصبح منذ سنوات موطن استقرار لموجات واسعة من المهاجرين من إفريقيا، وحتى من أوروبا وآسيا، مع كل ما يترتب عن هذه النزوحات المتزايدة بانتظام من آثار، وفي صدارتها مظاهر الاتجار في البشر. لذلك، تم تصنيف المغرب في تقرير وزارة الخارجية الأمريكية للعام 2011 الخاص بالاتجار في البشر، ضمن بلدان الفئة الثانية، أي الدول التي لم تستجب حكوماتها بشكل قطعي للاتفاقيات الخاصة بمكافحة الاتجار في البشر، لكن تبذل مجهودات من أجل تطوير التشريعات والقوانين ذات العلاقة، وتسعى إلى تحسين الممارسة من خلال فرض احترام القانون ما أمكن. ومع ذلك، يحتل المغرب، إلى جانب تونس، في التقرير نفسه مرتبة متقدمة بالمقارنة مع كل من ليبيا وموريتانيا والجزائر، التي صُنفت مجتمعة في الفئة الثالثة، أي في صنف البلدان التي لا تحترم حكوماتها الاتفاقيات المناهضة للاتجار في البشر، ولا تبذل جهوداً من أجل تطوير التشريعات والممارسة في هذا المضمار. يبدو المغرب في موضوع مكافحة الاتجار في البشر متأرجحاً بين السعي إلى تطوير التشريعات والقوانين ذات الصلة بهذه الآفة، وعدم القدرة على محاصرة ظاهرة الاتجار في الممارسة. وبعيداً عن لغة التهويل والتضخيم، تشكو الحياة اليومية المغربية من تزايد ظواهر من قبيل: أطفال الشوارع، الاتجار بالأطفال، الدعارة، خدم المنازل، وتشغيل القاصرين، والهجرة والتهجير بكل أنواعه، ناهيك عن السياحة الجنسية..ومن الواضح أن كُلفة الانفتاح، والتسامح، والدعوة إلى التعايش مع الوافد، والمرونة في السماح بانسياب رؤوس الأموال، أي الاستثمارات، والبشر، ستفعل فعلها في توسيع دائرة الاتجار في البشر، إذا لم تتم صياغة قوانين وتشريعات متطورة وعميقة لمناهضة الظاهرة وكذلك إذا لم يُفرض احترام قواعد هذه المناهضة وآلياتها في الممارسة. لذلك، يُعتبر إصدار قانون جيد ومتطور يجرم الاتجار في البشر أولوية قصوى، ستُعزز الخطوات التي أقدم عليها المغرب منذ سنوات في مضمار التوقيع والمصادقة على اتفاقيات منع الاتجار في البشر، وفي مقدمتها « اتفاق باليرمو لسنة 1949، والبرتوكول الخاص بمنع وقمع ومعاقبة الاتجار في الأشخاص لعام 2000، والذي صادق عليه المغرب سنة 2011. بيد أن «القوننة» وحدها لا تكفي لمكافحة آفة الاتجار في البشر، بل تحتاج عملية من هذه الطبيعة والحجم إلى استراتيجية وطنية قادرة على التعبئة الشاملة من أجل بناء التأييد حول خطورة هذه الظاهرة، كما تحتاج إلى سياسات عمومية ذكية تستثمر الإمكانيات الواسعة التي أتاحتها الوثيقة الدستورية الجديدة في باب الحقوق والحريات، وتوظف القدرات المؤسسية المتاحة لتحرير المجال العام المغربي من الممارسات المشينة والضارة بكرامة الإنسان.