في 13 غشت الجاري، أعلن البيت الأبيض عن التوصل إلى "اتفاق سلام" بين الإمارات وإسرائيل، برعاية أمريكية. الاتفاق جرى إعلانه بشكل مفاجئ، وأكدت الإدارة الأمريكية أن الاتفاق سيوقع من الطرفين في غضون أسابيع في البيت الأبيض، بحضور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وولي عهد الإمارات محمد بن زايد، وطبعا تحت رعاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. الاتفاق، الذي أطلق عليه اسم "اتفاق أبراهام"، وصفه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ب"التاريخي"، بينما اعتبر نتنياهو، يوم الإعلان عنه بأنه "يوم تاريخي"، وتحدث ولي عهد الإمارات، محمد بن زايد، عن "خارطة طريق"، يرى أنها ستؤدي إلى سلام شامل في المنطقة بين الدول العربية وإسرائيل. وهي كلها أوصاف تحاول أن تبرز أهمية الاتفاق وجدواه للمنطقة ككل، وسط رأي عام عربي وإسلامي رافض، وبين دول عربية وإسلامية أساسية اعترضت أو لها تحفظ تجاه الخطوة الإماراتية، كون الاتفاق يتعارض على الأقل مع المبادرة العربية للسلام لسنة 2002. وإذا كان الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي يبدو مفاجئا، إلا أن ثمة شبه إجماع على أن العلاقات بين الطرفين تعود إلى نحو عقدين من الزمن على الأقل، بحيث تطورات بهدوء وشملت مجالات الأمن والاقتصاد والدبلوماسية، ما يستدعي العودة إلى البحث في تطورات تلك العلاقة حتى خرجت من السر إلى العلن؟ وما الذي ستربحه الإمارات من كسر الإجماع العربي بشأن التطبيع مع إسرائيل؟ وما النتائج المتوقعة للاتفاق على القضية الفلسطينية وعلى المنطقة العربية ككل؟ من السر إلى العلن رصدت تقارير بحثية عديدة تطور العلاقات الإماراتية الإسرائيلية، لتؤكد أن الاتفاق المعلن يوم 13 غشت الجاري لم يضف شيئا سوى أنه أخرج تلك العلاقات المديدة من السر إلى العلن؛ على سبيل المثال، تعرض تقرير حول روابط إسرائيل بدول الخليج نشره مركز "أتلانتيك كونسيل" الأمريكي في يوليوز الماضي، إلى وقائع ثقيلة في العلاقات الإماراتية الإسرائيلية تحديدا، منها دعوة إسرائيل إلى المشاركة في "دبي إكسبو" 2021، وهو معرض دولي لأهم الابتكارات البشرية، حيث من المقرر أن يشارك طيارون إماراتيون وإسرائيليون في مناورات دولية مشتركة عديدة، وقد رصد التقرير، كذلك، استثمارات صناديق سعودية وإماراتية بمليارات الدولارات في مشاريع لملياردير أمريكي إسرائيلي يُدعى آدم نيومان، كما رصد التعاون البحري بين شركة "موانئ دبي" وشركات تابعة للملياردير الإسرائيلي، أدان أوفر. تقرير آخر للمركز العربي للدراسات وتحليل السياسات نشره خلال غشت الجاري، رصد وقائع أكثر، شملت مجالات اقتصادية وعسكرية ودبلوماسية، وذلك منذ سنة 2008. يفيد تقرير المركز، الذي يديره المفكر الفلسطيني عزمي بشارة، أن هيئة المنشآت والمرافق الحيوية في أبوظبي (المسؤولة عن الأمن والسلامة) وقعت في 2008 عقدا بقيمة 816 مليون دولار مع شركة "آي جي تي إنترناشونال"، وهي شركة سويسرية يمتلكها رجل الأعمال الإسرائيلي، ماتي كوتشافي، من أجل شراء معدّات مراقبة للبنية التحتية الحيوية في الإمارات، بما في ذلك منشآت النفط والغاز. وزوّدت الشركة نفسها، أبوظبي، بثلاث طائرات مسيّرة، تهدف إلى تعزيز قدراتها الاستخباراتية والأمنية. كما زودت الشركة شرطة أبوظبي بنظام مركزي للمراقبة الأمنية يعرف باسم "عين الصقر"، وقد بدأ العمل به رسميا في يوليوز 2016. وفي غشت 2018، اشترت الإمارات من مجموعة "إن إس أوNSO " الإسرائيلية تكنولوجيا متطورة لقرصنة الهواتف المحمولة؛ بغرض التجسس على معارضيها في الداخل والخارج، ومن تعتبرهم خصومها، من بينهم صحافيون ومثقفون. وهي الصفقة التي طالبت منظمة العفو الدولية، في يناير 2020، إسرائيل بإلغاء منح ترخيص التصدير لهذه المجموعة التي استُخدمت منتجاتها في هجمات وصفتها المنظمة ب "الخبيثة" ضد نشطاء حقوق الإنسان في دول عديدة، من بينها الإمارات. على المستوى العسكري، تشارك الإمارات في مناورات وتدريبات عسكرية عديدة إلى جانب إسرائيل، منها مناورات "العلم الأحمر"؛ وهو تمرين متطور على القتال الجوي، تُشرف عليه القوات الجوية الأمريكية. وفي مارس 2017 ثم في أبريل 2019، شارك سلاح الجو الإماراتي في تدريبات عسكرية تعرف باسم "إينيوهوس" في اليونان، وقد شاركت إسرائيل، أيضا، في هذه التدريبات. أما بعد الهجمات التي تعرضت لها ناقلات نفط قرب ميناء الفُجيرة في ماي 2019، فقد صرح وزير الخارجية الإسرائيلي السابق، يسرائيل كاتس، أن إسرائيل باتت جزءا من "التحالف الدولي لأمن وحماية الملاحة البحرية وضمان سلامة الممرات البحرية"، وهو التحالف الذي أنشأته الولاياتالمتحدةالأمريكية، ويضم كلا من السعودية، والإمارات، والبحرين، وبريطانيا، وأستراليا، وألبانيا، ويهدف إلى تعزيز أمن وسلامة السفن التجارية التي تمر عبر الممرات البحرية. ثمة معطيات ووقائع أخرى رصدها موقع "فرانس 24′′، الذي تتبع بدوره تطور العلاقات الإماراتية الإسرائيلية من السر إلى العلن، وأفاد التقرير أنه في أكتوبر 2018، شارك وزير الاتصالات الإسرائيلي السابق، أيوب كرا، في مؤتمر "المندوبين المفوضين للاتحاد الدولي للاتصالات"، الذي أقيم تحت رعاية محمد بن راشد آل مكتوم، حاكم دبي ورئيس الحكومة الإماراتية، وقد ألقى الوزير الإسرائيلي كلمة في المؤتمر بحضور المسؤولين في الإمارات. وقد تميزت سنة 2018، كذلك، بمشاركة رياضيين إسرائيليين في بطولة "غراند سلام للجودو" التي أقيمت في أبوظبي، ونظمها الاتحاد الدولي للجودو تحت العلم الإسرائيلي. وقد رافقت وزيرة الثقافة والسياحة الإسرائيلية، ميري ريغيف، منتخب بلدها إلى أبوظبي، حيث كانت لها زيارات إلى مؤسسات إماراتية، بل وإلى مساجد هناك. أما في غشت 2019، فقد نشرت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية تقريرا إخباريا عن إبرام دولة الإمارات صفقة ضخمة بقيمة 3 مليارات دولار مع إسرائيل لتزويدها بقدرات استخباراتية متقدمة، تشمل طائرتي تجسس حديثتين. وقد كشفت "هآرتس" في أكتوبر من السنة عينها عن عرض شركة أمنية إماراتية على ضباط سابقين في الاستخبارات الإسرائيلية العمل لديها برواتب فلكية تصل إلى مليون دولار سنويا. وفي دجنبر 2019، أعلنت وزارة الخارجية الإسرائيلية تلقيها تهنئة رسمية من الإمارات بمناسبة عيد "حانوكا" اليهودي، وفي الشهر عينه أكدت وزارة الخارجية، كذلك، زيارة سرية قام بها وفد رسمي إسرائيلي برئاسة المدير العام للوزارة يوفال روتم، التقى فيها بدبي مسؤولين إماراتيين كبارا ووقع اتفاقا رسميا بشأن مشاركة إسرائيل في معرض "إكسبو 2020" الذي تستضيفه الإمارات. أما في فبراير 2020، فقد كشف موقع "أكسيوس" الإخباري الأمريكي، عن خبر لقاء سري بين إسرائيل والإمارات كان قد جرى في دجنبر 2018 بالولاياتالمتحدة لتوقيع اتفاقية عدم اعتداء بينهما، في خطوة وصفت بأنها تمهد لتطبيع العلاقات بين البلدين. وخلال فبراير 2020 أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو أنه التقى عبدالفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة السوداني في أوغندا، من أجل النظر في إمكانية تطبيع العلاقات بين السودان وإسرائيل. وقال مسؤول سوداني لاحقا إن الإمارات من نسقت اللقاء بين البرهان ونتنياهو. الخطوة المهمة، فتتمثل في نشر السفير الإماراتي لدى واشنطن، يوسف العتيبة، مقالا في يونيو 2020 بصحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية، يصف فيه علاقات حكومة أبوظبي مع إسرائيل ب"الحميمة". وأشار فيه إلى أن إسرائيل والإمارات من خلال علاقاتهما العميقة والطويلة مع الولاياتالمتحدة بإمكانهما خلق تعاون أمني مشترك وأكثر فعالية. ويعد مقال العتيبة في الواقع خطوة كان الغرض منها، على ما يبدو، التوطئة والإعداد للإعلان عن "اتفاق سلام" في 13 غشت 2020، حيث إن المقال تضمن شرحا وافيا للدوافع التي دفعت الإمارات إلى التحالف مع إسرائيل، وليس مجرد تطبيع. دوافع حكام الإمارات والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا اتجهت الإمارات نحو التطبيع، بل التحالف مع إسرائيل؟ خصوصا وهي تعلم أن الاتفاق لن يلقى القبول، لا عربيا ولا إسلاميا، ويبدو أنه ضد توجهات الفلسطينيين بكل فصائلهم، وهو ما حصل بالفعل، حيث إن الاتفاق اعترضت عليه دول عربية رئيسة مثل السعودية التي أعلنت تشبثها بالمبادرة العربية لسنة 2002، علاوة على رفضه بقوة من قبل إيران وتركيا وباكستان وماليزيا وتونس والمغرب. بعض التحليلات ذهبت إلى أن الهدف من الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي هو إنقاذ الرئيس الأمريكي ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نونبر المقبل، وضمنا دعما لرئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو الذي يعاني صعوبات سياسية قد تؤدي إلى سقوط حكومته والمضي نحو انتخابات برلمانية رابعة، وفي الوقت عينه محاولة للتقرب من اللوبي اليهودي في أمريكا، والاستفادة من خدماته، خصوصا وأن الإمارات تلاحقها تهم بجرائم ارتكبتها في اليمن وليبيا ومناطق أخرى. لكن علاء بيومي، محلل سياسي مصري، اعتبر أن الاتفاق أبعد من أي حسابات انتخابية أمريكية أو إسرائيلية، وعدّه مسعى ضمن مساع أخرى "لبناء تحالف بين الإمارات والدولة العبرية، لإعادة تشكيل التحالفات الإقليمية في المنطقة"، مستندا في ذلك إلى العديد من المؤشرات المختلفة التي سبق عرضها أعلاه، وكذا إلى تصريحات بعض كبار المسؤولين الإماراتيين أنفسهم، ومنهم السفير الإماراتي يوسف العتيبة في مقاله بصحيفة "إيديعوت أحرنوت". يعزز هذا الطرح تصريحات وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية، أنور قرقاش، الذي قال لوسائل إعلام إسرائيلية إن اتفاق بلاده مع إسرائيل ليس إجراء رمزيا، لأن أبوظبي تريد أن ترى علاقات ثنائية واسعة يتم تطبيقها "في أسرع وقت ممكن"، موضحا "نحن لا نتحدث عن عملية بطيئة للغاية أو تراكمية. هناك قطاعات نريد أن نطورها مع إسرائيل". وقد كشف قرقاش أن هناك "فرقا تتقابل للنقاش حول عديد من مساحات المصالح المشتركة في إسرائيل والإمارات". ومن بين تلك القطاعات الزراعة والأمن الغذائي والأمن الإلكتروني، والسياحة والتكنولوجيا والتجارة. وقد عبّر مقال السفير الإماراتي في واشنطن، يوسف العتيبة، عن هذا التوجه بوضوح شديد، حيث جاء فيه أن "الإمارات وإسرائيل يمكنهما تشكيل تعاون أمني أقرب وأكثر فعالية"، وأنهما يمكنهما "توسيع روابطهما الاقتصادية والمالية"، بالإضافة إلى التعاون في مجالات أخرى، مثل "المياه والأمن الغذائي والتكنولوجيا والعلوم"، مؤكدا أن "الإمارات يمكنها أن تكون نافذة مفتوحة تربط الإسرائيليين بالمنطقة والعالم، بحكم أن الإمارات باتت مركزا دوليا للطيران والنقل والتعليم والإعلام والثقافة". تشير هذه التصريحات إذن، أننا أمام توجه مدروس ومقصود من لدن حكام الإمارات، وليس مجرد هفوة أو مبادرة مفاجئة، خصوصا وأن مقال العتيبة تحدث عن الإمارات بوصفها، إلى جانب إسرائيل، تملك "أكثر الجيوش قدرة" و"أكثر الاقتصادات تقدما وتنوعا" في المنطقة، في إشارة ضمنية إلى أن قادة الإمارات ينطلقون في مساعيهم إلى التحالف مع إسرائيل من اعتقادهم بأنهم يقودون الدولة العربية الأكثر قدرة عسكريا واقتصاديا، وأن علاقتهم بإسرائيل جزء من مشروع استراتيجي لتأكيد تقدمهم العسكري والاقتصادي في المنطقة وضمانه. لا يتعلق الأمر بتطبيع سياسي أو اقتصادي بين الدولتين إذن، بل ببناء تحالف سياسي وأمني واقتصادي بينهما. تعتقد الإمارات أن لديها نموذجا معينا، بلغ درجة من التطور والتقدم يحتاج فيها إلى حليف إقليمي قوي، يمنحه القدرة على مزيد من السيطرة والهيمنة في المنطقة، أمام النماذج المنافسة، خصوصا تركيا وإيران. وتوضح دراسة صادرة عن معهد "تشاتم هاوس" في يوليوز الماضي أن الإمارات باتت تتبني نموذجا آخر للحكم والسياسة الخارجية. تريد الإمارات تحت قيادة محمد بن زايد أن تبني إمبراطورية اقتصادية، تمتلك موانئ عبر الخليج وبحر العرب، والقرن الأفريقي، وربما أكثر، وأن تمتلك القوى العسكرية والاقتصادية والناعمة لتدافع عن مصالحها الاقتصادية وتوسعها، ولكنها، في الوقت نفسه، تعتمد على نموذج حكم فردي، يقمع مختلف أنواع المعارضة، وينشر أفكاره وأسلوب حكمه في المنطقة. وتشير الدراسة إلى النفوذ الكبير الذي يمارسه محمد بن زايد على ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، والعلاقة الوثيقة التي تربطهما، وكيف أن الأخير يعتبر ابن زايد نموذجا ومعلما له. كما توضح الدراسة الدور الكبير الذي لعبته الإمارات في دعم الانقلاب العسكري في مصر سنة 2013، وفي دعم الجنرال خليفة حفتر، للسيطرة على ليبيا بالقوة العسكرية، وهي المساعي التي أفشلها الدعم العسكري التركي لحكومة الوفاق في طرابلس، وكذا إلى دور الإمارات في دعم المليشيات الانفصالية في جنوب اليمن، والتي غيرت من خريطة القوى السياسية هناك، وكلها عوامل تأثير واضحة للدور الإماراتي الجديد. كل تلك المؤشرات تؤكد، بحسب علاء بيومي، المتخصص في السياسة الخارجية الإماراتية، أننا أمام تحالف حقيقي متنام بين الإمارات وإسرائيل، يتخطّى فكرة التطبيع الطوعي، أو المفروض من الخارج، بل هو تحالف نابع من توجه استراتيجي لقادة الإمارات الذين يرون في التحالف مع إسرائيل ضرورة لضمان تفوقهم العسكري والاقتصادي في المنطقة، وأن التحالف مع إسرائيل سوف يضمن لهم دعم إسرائيل في واشنطن للحصول على مزيد من نظم الأسلحة المتقدمة، والتعاون الاستخباراتي والأمني ضد خصومهم المشتركين، ومزيد من التوسع الاقتصادي المشترك، وإعادة بناء المعسكرات وموازين القوى الإقليمية في مواجهة ليس فقط إيران، ولكن مع أطراف أخرى، كالتحالف التركي – القطري، خصوصا من خلال تشجيع مشاريع إسرائيل واليونان ومصر، للتنقيب عن غاز شرق المتوسط، وتصديره إلى أوروبا وإقصاء تركيا منه، ومن خلال دعم الديكتاتوريات والاستعانة بروسيا والصين وتقليل الاعتماد على أوروبا والولاياتالمتحدة، ومواجهة مطالب بعض حكوماتهم بالديمقراطية والحريات، وهذا ما يفسر سرعة ترحيب الرئيس المصري، عبدالفتاح السيسي، بالإعلان الإماراتي الإسرائيلي، وحديث المسؤولين الأمريكيين عن أن دولا عربية أخرى في طريقها إلى إعلان تطبيع علاقاتها مع إسرائيل. نحن أمام تحالف متنام بين بعض الدول العربية وإسرائيل، تتزعمه الإمارات، يهدف إلى إعادة بناء المعسكرات وموازين القوى في المنطقة. تحالف كان يحلم به بعض متشددي المحافظين الجدد واليمين المتشدد وأنصار إسرائيل، ولكنه بات يتبلور على أرض الواقع، انطلاقا من المصالح المتصورة لبعض الحكام العرب. نتائج اتفاق "أبراهام" من المتوقع أن يكون للاتفاق نتائج متباينة، بعضها لصالح إسرائيل التي قد تتجذر أكثر في الفضاء الخليجي، لكن بعضها الآخر سيكون سلبيا على القضية الفلسطينية، وعلى التضامن العربي، خصوصا إذا كان خاليا من أي شروط تتعلق بدفع إسرائيل لتقديم بعض التنازلات بغرض تسوية القضية الفلسطينية. لنرى كيف أن الاتفاق سيفتح الطريق أمام إسرائيل للتجذر في الفضاء الخليجي أكثر، بدافع البحث عن شرعية متوهمة، وهي القوة الاستعمارية الأخيرة في المنطقة. وقد شكلت قضية التطبيع ورقة سياسية مافتئ نتنياهو يستعملها في كل انتخابات إسرائيلية، هذا في الوقت الذي كان يقود فيه حكومة متطرفة، جعلت من تعزيز الاستيطان والتهويد، بل وضم أكبر مساحة ممكنة من الأراضي الفلسطينية المحتلة هدفا انتخابيا وسياسيا لها. وإذا كانت الاتفاقية العربية لسنة 2002 قد رفعت شعار "الأرض مقابل السلام"، فإن اليمين الإسرائيلي بزعامة نتنياهو يطرح شعارا بديلا هو "السلام مقابل السلام"، وهو شعار ينبني على منظور معين للقوة، مفاده أن السلام يأتي بالاستعداد للحرب، أي أن تكون إسرائيل تهديدا للعرب، ذلك التهديد الذي يمكن أن يؤدي إلى سلام متفق عليه بين الطرفين. حسب تقرير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، فإن اليمين الإسرائيلي يدرك أن تطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية، وعقد اتفاقيات سلام معها، قبل التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية، ينزع أحد أهم عناصر القوة من الفلسطينيين، ويعزلهم عن عُمقهم العربي، ويسهل على إسرائيل تهميش قضيتهم، والتفرد بهم، وكسر إرادتهم، وفرض الاستسلام عليهم. وتستمر إسرائيل، تحت قيادة نتنياهو، في إنكار أن القضية الفلسطينية هي لب الصراع العربي-الإسرائيلي، وتسعى إلى إيجاد مصالح مشتركة بينها وبين عديد من نُظم الحكم العربية من دون حل القضية الفلسطينية، كالقول بأن العدو المشترك هو "الخطر الإيراني"، وقوى التغيير الديمقراطي في المنطقة العربية، والحركات الإسلامية على أنواعها. وهو تصور باتت تقاسمه معها أنظمة عربية، خصوصا الإمارات ومصر والسعودية. من هذا الباب، يُعد توقيع اتفاقية سلام مع الإمارات العربية المتحدة، نصرا استراتيجيا لإسرائيل، لأنه يمنحها شرعية لم تحصل عليها منذ أزيد من 70 عاما، كون الاتفاق يدمج إسرائيل في مواجهة دول أصيلة في المنطقة مثل إيران وتركيا، على حساب قوى مجتمعية نبتت في التربة العربية مثل الأحزاب والحركات القومية والإسلامية. ولعل من نتائج هذا التوجه تعزيز سياسة إسرائيل والإدارة الأمريكية لتصفية القضية الفلسطينية وفرض الاستسلام على الشعب الفلسطيني، من خلال خطة الرئيس الأمريكي المسمّاة "صفقة القرن" التي تتبنى رؤية اليمين الإسرائيلي المتطرّف لحل القضية الفلسطينية بجميع مكوناتها، خصوصا منها شرعنة الاستيطان في الضفة الغربية وتهويد القدس. وبما أن الاتفاق يأتي بعد اعتراف أمريكابالقدس عاصمة لإسرائيل، وضم الجولان نهائيا، فإن الاتفاق الإماراتي يعزز حسم موضوع القدس بعد اعتراف الإدارة الأمريكية بها عاصمة لدولة الاحتلال ونقل سفارتها إليها. ولعل هذه النتائج هي ما دفع إسرائيل خلال السنوات الأخيرة إلى تعزيز علاقاتها بالإمارات العربية المتحدة، والبحث عن تحالف استراتيجي معها، وقد ساهمت مجموعة من العوامل في ذلك، منها أن الإمارات كانت تشكل دائما جزءا من محور عربي يضم إليها السعودية ومصر والأردن والبحرين، ولهذا المحور نفوذ في عدد من الدول العربية. وتتطلع إسرائيل إلى أن يشجع توقيع اتفاقية سلام مع الإمارات دولا عربية أخرى إلى الحذو حذوها. والحقيقة أن إسرائيل طرف غير رسمي في هذا المحور، وهي تسعى إلى أن يمنح وجودها فيه شرعية وعلنية. كما تأمل إسرائيل أن يؤدي "الاتفاق" إلى تدفق الاستثمارات الإماراتية والخليجية إليها. وفي المقابل، تسعى إسرائيل إلى أن تجعل من الإمارات منصة اختراق وتصدير نحو بقية دول الخليج في عدد من المجالات، وفي مقدمتها الأمن السيبراني، والخدمات المتعلقة بالتجسّس، والتكنولوجيا المتطورة، والمعدات العسكرية. وتسعى، كذلك، إلى زيادة نشاط الشركات الإسرائيلية، وتأسيس فروع لها في المنطقة. وفي هذه الحالة ستؤدي الإمارات دورا ينسجم مع المصالح الإسرائيلية والأمريكية في المنطقة، وينسجم أيضا مع المحور العربي الرافض لقوى التغيير الديمقراطي في المنطقة. كما ستكون الإمارات محطة تجسّس إسرائيلية متقدمة تجاه إيران أساسا. لذلك، لم تستسغ جل القوى المدنية والمجتمعية في المنطقة العربية والإسلامية الخطوة الإماراتية، ورفضتها كل الفصائل والقوى الفلسطينية، كما تحفظت عليها دول عربية وزانة مثل السعودية، التي أعلنت وسط رفض عربي واسع للاتفاق عن تشبثها بالمبادرة العربية للسلام في 2002، ناهيك عن دول أخرى مثل المغرب وتونس والأردن وقطر والسودان. هذه الأخيرة اعتبرت حكومته أنها غير مخولة بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، لأن ذلك يهدد المرحلة الانتقالية في السودان التي تشارك فيها قوى سياسية مختلفة ولها مواقف متباينة من التطبيع مع إسرائيل. هكذا، وعلى خلاف توقعات الإدارة الأمريكية بأن تلتحق دول عربية بالاتفاق الإماراتي الإسرائيلي، حيث كانت الأصابع تشير إلى السودان والسعودية وسلطنة عمان، جاءت مواقف تلك الدول لتخيب آمال الإدارة الأمريكية، ما يجعل الخطوة الإماراتية تبقى منفردة لحد الآن، لكن تحفظ تلك الدول لم يصل إلى درجة الدعوة إلى رد فعل عربي مناهض للإمارات، كالذي حدث في نهاية السبعينيات مع مصر، حين أبرمت اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل، وأدى ذلك إلى طردها من الجامعة العربية لسنوات. الملاحظ أن الموقف العربي لن يصل إلى ذلك المستوى مع الإمارات، لسبب رئيس هو أن السعودية ومصر، أساسا، تقف بجانب الإمارات في اتفاقها مع إسرائيل، على الرغم من الموقف السعودي الأخير بخصوص التشبث بمبادرة السلام العربية لسنة 2002. ذلك أن الغرض من الموقف السعودي ليس إدانة الإمارات، بل سحب ورقة ضغط فعالة من قبل دول إسلامية غير عربية، خصوصا إيران وتركيا، التي وجدت في الاتفاق الاماراتي فرصة للطعن في المحور الذي تمثله، وعلى رأسه السعودية، التي تقدم نفسها زعيمة للعالم الإسلامي، لكنها باتت متهمة من قبل تلك الدول بأنها تخلت عن القضية الفلسطينية، كما تخلت عن قضية كشمير. فمنذ شهور ودول باكستان وماليزيا وتركيا تضغط من أجل اجتماع لمنظمة المؤتمر الإسلامي حول قرار الهند التراجع عن منح منطقة كشمير المسلمة الحكم الذاتي، وبينما كانت باكستان تنتظر دعما من الدول الإسلامية عبر منظمة المؤتمر الإسلامي، تراخت السعودية في الاستجابة لذلك، إرضاء لصديقتها الجديدةالهند، ما أغضب باكستان التي عززت من تحالفها مع الصين، وباتت تتجه نحو تخفيف علاقاتها الاستراتيجية مع السعودية. ولعل الموقف الباكستاني الرافض للاتفاق الإماراتي الإسرائيلي ينطوي على هذا البعد أساسا، إنه يشكك ضمنا في أهلية السعودية لزعامة العالم الإسلامي، وهو التشكيك الذي تقوم به تركيا عمليا بشكل مستمر، وقامت به قبل ذلك إيران من ثورتها في 1979. لقد استغلت إيران وتركيا الإعلان عن الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي للهجوم على الإمارات، ومن ورائها المحور العربي الذي تمثله، بل تضغط من أجل اجتماع منظمة المؤتمر الإسلامي لاستصدار موقف يدين الإمارات، وفي ذلك محاولة من قبل الدولتين لتكريس دورهما زعيمتين للعالم الإسلامي، وفي الوقت عينه محاصرة للإمارات والسعودية من داخل المنطقة العربية، خصوصا وأن أيا من الدول العربية دعت إلى اجتماع للجامعة العربية لتدارس الخطوة الإماراتية في علاقتها بمبادرة السلام لسنة 2002، باستثناء السلطة الفلسطينية، التي اعتبرت الاتفاق "طعنة في الظهر"، ووصفها آخرون بأنه خيانة. إن قيادة الإمارات اختارت مواصلة تقربها من واشنطن وتحقيق أجندتها الإقليمية المتوافقة مع الأجندة الإسرائيلية، وهذا التوجه قد يصمد لبعض الوقت فقط، في ظل تنامي الحاجة لدى الشعوب العربية إلى الحرية والديمقراطية والتوزيع العادل للثروة، التي قد يكون بالإمكان كبحها بالقوة لبعض الوقت، لكن عملية الكبح ستؤجل الانفجار فقط، الذي يهدد كل الأنظمة التسلطية على المديين المتوسط والبعيد.