توصلت الإمارات وإسرائيل في 13 غشت لاتفاق لتطبيع علاقاتهما البينية، برعاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي وصفه ب"اتفاق سلام تاريخي". يأتي هذا التطور بشكل مخالف للمبادرة العربية للسلام 2002، التي أطلقها الملك السعودي الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، التي تهدف لإنشاء دولة فلسطينية معترف بها دولياً على حدود 1967، وعودة اللاجئين الفلسطينيين، في مقابل التطبيع مع إسرائيل. ما فعلته الإمارات كان العكس، وهو التطبيع قبل الوصول لحل نهائي للقضية الفلسطينية. بل إن الخطوة تأتي في ظل ضربات مزلزلة منيت بها تلك القضية على يد دونالد ترامب. وما تردد حول تعليق إسرائيل قرار ضم أجزاء من الضفة الغربيةالمحتلة كمقابل للتطبيع، رد عليه نتنياهو نفسه بأنه تأجيل مؤقت للقرار، ولم يتم التخلي عنه. لم يكن الإعلان عن تطبيع العلاقات الإماراتية الإسرائيلية مفاجئاً للبعض، في ظل حالة من التنسيق المشترك والتنامي المتزايد في مجالات التعاون المختلفة على المستوى الأمني والاستخباراتي والسياسي والاقتصادي في السنوات القليلة الماضية. لعل المحطة البارزة في هذا السياق، هو كون الإمارات أحد الداعمين الرئيسيين لصفقة القرن، سواء بحضورها مؤتمر البحرين في يونيو 2019، وهو المؤتمر الذي أعلن فيه جاريد كوشنر الجانب الاقتصادي من الصفقة. أو حضورها المؤتمر، الذي أعلن فيه ترامب رسمياً عن الصفقة في يناير 2020، تبعها إعلان الإمارات رسميا دعمها لها. الحسابات السياسية الداخلية حاضرة بقوة لعبت العوامل الداخلية دوراً بارزاً في الدفع بهذا الاتفاق في هذا التوقيت. بالنسبة ل"دونالد ترامب" فإنه يعتبر هذا الاتفاق إنجازاً يضاف لقائمة الخطوات النوعية التي أقدم عليها في فترته الرئاسية الأولى، خدمةً لإسرائيل ولمشروعها الاحتلالي الاستعماري. بدءاً بنقل السفارة الأمريكية للقدس، مروراً بالاعتراف بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل، والإعلان رسمياً عن صفقة القرن، وانتهاءاً برعاية اتفاق التطبيع الإماراتي الإسرائيلي. ويحاول ترامب استغلال كافة الأوراق الممكنة لترجيح كفته في الانتخابات الرئاسية المقبلة في نوفمبر 2020. ما يدفعه لذلك متغيران هامان، الأول هو ما رصدته استطلاعات الرأي الأمريكي، من تفوق "جون بايدن" على "ترامب" بفارق 14 نقطة. الثاني هو تعيين "بايدن" ل"كاملا هاريس" نائبة له، وتعد "هاريس" من أم يهودية وزوجها يهودي، كما أنها داعمة قوية لإسرائيل، وعلاقاتها باللوبي الأمريكي الموالي لإسرائيل "أيباك" قوية للغاية. وبالتالي يخشى ترامب من أن تكون هاريس سبباً في ضمان دعم جزء كبير من قاعدة الناخبين اليهود لبايدن. وفي سياق متعلق، في ظل الحديث عن موقف سلبي محتمل لجو بايدن من بعض دول الخليج، على رأسهم السعودية، هذا بجانب نسج أبوظبي خريطة تحالفية إقليمية جديدة بضوء أخضر أمريكي من قبل ترامب، فإنها تخشى أن تهدم كل تلك الجهود إذا ما خسر ترامب الانتخابات المقبلة. ووفقا لهذا التحليل فإن خطوة التطبيع تضمن للإمارات حماية أمريكية بضغط من اللوبي الإسرائيلي لها ولمشاريعها الإقليمية، سواء في وجود ترامب أو بايدن. أما بنيامين نتنياهو فلديه مشاكل سياسية داخلية عميقة، تتمثل في ملفين رئيسيين، الأول الملاحقة القضائية له، بتهمة الكسب غير المشروع. الثاني أزمة تشكيل الحكومة، والتي لم تخرج إلى النور إلا بعد إعادة الانتخابات البرلمانية ثلاث مرات متتالية. والآن تتصاعد الأزمة السياسية من جديد، نتيجة فقدان الثقة بين شركاء الائتلاف الحاكم، وسط تقديرات تشير لاحتمالية الإقدام على انتخابات برلمانية رابعة. وبالتالي تعد تلك الخطوة هدية مجانية تزيد من رصيد نتنياهو السياسي في الداخل، قد يستغلها في تلك الأزمة. أخيراً ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، والتي تأتي تلك الخطوة لتعمق من الاتجاه السياسي السائد في الداخل الإماراتي، والمتمثل في تعاظم دور أبوظبي من ناحية ومحمد بن زايد من ناحية أخرى في منظومة الحكم الإماراتية وصنع القرار وإدارة السياسة الخارجية. الحسابات الإقليمية.. العدو المشترك والتنافس حول قيادة الإقليم تعد إيران العدو الإقليمي الرئيسي بالنسبة لإسرائيل في منطقة الشرق الأوسط. وفي الفترة الأخيرة تصاعد التوتر بين الطرفين على وقع عدة انفجارات لعدد من المنشآت النووية والصناعية الإيرانية، أهمها مفاعل نطنز النووي. ويبدو أن إسرائيل متورطة بشكل أساسي في هذه التفجيرات. أما الإمارات وبرغم العلاقات الاقتصادية القوية التي تجمعها بإيران، إلا أن الأخيرة وسياستها في منطقة الخليج ومياهه، وميليشياتها العسكرية المنتشرة في عدة بلدان عربية، بالأخص جماعة أنصار الله "الحوثيين" تعد مهدداً جيواستراتيجياً حقيقياً للإمارات. ولا ينفي التواصل والتفاهمات السياسية بين طهرانوأبوظبي تلك الحقيقة. بل إن هذه التفاهمات لا تعبر عن حجم التوافق بين الطرفين، بقدر ما هي مخرج لحقيقة التهديد الذي تمثلة إيران للإمارات. إذ تحاول الأخيرة احتواء التهديد الإيراني، عبر نسج خط مستقل نوعاً ما عن السعودية، في اتجاه التقارب والتهدئة مع إيران. ثانياً تركيا، والتي تعد الخصم الإقليمي الرئيسي للإمارات، عبر صراع إقليمي محتدم بينهما، يشمل معارك صفرية بين الطرفين في كل الإقليم، من شرق المتوسط شمالاً للصومال جنوباً ومن الخليج شرقاً لليبيا وتونس غرباً. بل إن الإمارات تعطي الأولوية لتركيا كخصم إقليمي على إيران. وهو ما دفع وزير الدفاع التركي خلوصي آكار للتنديد بسياسات أبوظبي في ليبيا وسوريا، متوعداً بمحاسبتها في المكان والزمان المناسبين. أما إسرائيل، وبرغم العلاقات الاقتصادية القوية التي تجمعها بتركيا، فإن العلاقات السياسية منذ عام 2010، تشهد حالة من التوتر وعدم الاستقرار، تزايدت في الأونة الأخيرة على وقع الموقف التركي من القضية الفلسطينية، بالأخص من حركة حماس وصفقة القرن. كما لم ينجح الاتفاق المبرم بين تركيا وإسرائيل عام 2016 في إنهاء حالة التوتر هذه. والذي وصل ذروته في مايو 2018، حينما تبادل الطرفان طرد السفراء. ولم يتراجعا عن هذا القرار حتى الآن. في ضوء المعطيات السابقة، فإن خطوة التطبيع هذه غالباً ما ستتضمن الاتفاق بين الطرفين بالإضافة لأطراف عربية أخرى كمصر والسعودية، وأوروبية كفرنسا واليونان على المواجهة الإقليمية مع إيرانوتركيا. وإن كان يواجه هكذا تحالف تعارض في الأولويات بين هذه الأطراف، فإسرائيل والسعودية تعطيان الأولوية للمواجهة مع إيران، فيما تعطي الإمارات ومصر واليونان وفرنسا أولوية المواجهة مع تركيا. بجانب المواجهة مع أعدائهما المشتركين، فإن الجانبين الإسرائيلي والإماراتي يهدفان من تلك الخطوة لتعظيم دورهما الإقليمي على حساب الآخرين، وامتلاك قدرة أكبر على التأثير في التوازنات الإقليمية في المنطقة. فالطرفان يجمعهما تفاهمات ومشتركات إقليمية، سواء الموقف من حركات الإسلام السياسي، على رأسها حركة حماس وجماعة الإخوان المسلمين، والتوافق في قضية شرق المتوسط، ودعم صفقة القرن أو خطة السلام الأمريكية التي أعلن عنها ترامب في بداية العام الحالي. وفي سياق هذه الصفقة، يمكن القول إن خطوة التطبيع تأتي كأحد خطوات صفقة القرن التنفيذية، التي يتم تطبيقها فعلياً تدريجياً عبر خطوات متفرقة، لتجنب ردود الفعل المعارضة لها. أيضاً في ذات السياق يمكن أن يكون رغبة أبوظبي في لعب دور فاعل في القضية الفلسطينية، عبر القيام بدور الوساطة، بعد أن أصبحت على علاقة رسمية وعلنية بين طرفي الصراع، منافسةً الدور المصري والتركي، أحد دوافع هذا الاتفاق. تداعيات التطبيع على التوازنات الإقليمية وصراع المحاور تشهد منطقة الشرق الأوسط صراعا بين ثلاث محاور إقليمية، المحور السعودي الإماراتي المصري، والمحور التركي القطري، والمحور الإيراني. وبرغم قرب إسرائل من المحور الإماراتي في مواجهة المحورين الآخرين، فإنها تراقب من بعيد تلك الصراعات المركبة، وتحاول استغلالها والاستفادة منها دون التورط المباشر فيها، لتصبح في النهاية القوة المهيمنة والأقوى في المنطقة. إن خطوة التطبيع الأخيرة قد تدفع إسرائيل لأن تكون أكثر انخراطاً ضمن تحالفات الإمارات الإقليمية. وما قد يحسم تلك الإشكالية مستقبلاً، ثلاث متغيرات، الموقف التركي، الموقف الإيراني والانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة. تلك المتغيرات لا تحسم فقط مدى الانخراط الإسرائيلي في صراع المحاور، بل تعد محدد لماهية تداعيات هذا الاتفاق بشكل عام. بالنسبة لتركيا، هل ستحاول إصلاح علاقاتها مع إسرائيل لتحييدها عن صراع المحاور الإقليمية؟ لتحول دون دعم إسرائيلي للموقف الإماراتي في مواجهة تركيا من ناحية، ولتتمكن أنقرة من تقريب وجهة نظرها مع إسرائيل في شرق المتوسط من ناحية أخرى. أم ستتجه تركيا لمزيد من تمتين علاقاتها مع إيران بشكل أكبر كماً وكيفاً؟ لتعدل بذلك موازين القوة الإقليمية، التي ستزداد اختلالاً في المنطقة بعد هذا التطبيع لصالح خصوم أنقرة، ومن ثم بإمكان أنقرةوطهران وفق هذا التصور، مواجهة تحدياتهما المشتركة من ناحية وإصلاح الخلل في موازين القوة الإقليمية من ناحية أخرى. أما إيران فعلى الأرجح ستحاول ردع الإمارات عبر أذرعها في الإقليم كجماعة الحوثيين، لمنعها من استغلال خطوة التطبيع في مواجهة إيران وحلفائها في المنطقة. ما قد يعيق جهود التحالف الإسرائيلي الإماراتي الإقليمي. خاصة أن هذا التطبيع يعني أن إسرائيل سيكون لها موطأ قدم، قد يصل حد التواجد الاستخباراتي، في أحد الدول المطلة على الخليج العربي كالإمارات، والتي تمتلك حدود بحرية مشتركة مع إيران. أي أن تركيا وردود فعلها على هذا التطبيع سواء بإصلاح علاقاتها مع إسرائيل أو مزيد من التقارب مع إيران، سيمثل محدداً مهماً في التأثير على مدى انخراط إسرائيل ضمن المحور الإماراتي الإقليمي، فيما ستحدد إيران وردود فعلها على هذا الاتفاق المدى الذي يمكن أن تذهب إليه الإمارات في تحالفها الجديد المعلن مع إسرائيل. أخيراً الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، بالأخص موقف كل من بايدن وترامب من الأطراف الإقليمية المركزية في المنطقة، إيرانوتركيا وإسرائيل ومصر والسعودية والإمارات، الذي يعد عامل حيوي في التأثير على تداعيات هذا القرار وارتداداته الإقليمية. في المحصلة، تأتي خطوة تطبيع العلاقات الإماراتية الإسرائيلية ضمن عدة سياقات، أهمها حالة التنسيق والتعاون المتنامي بين الطرفين، للدرجة التى يمكن القول معها إن خطوة التطبيع هي مخرج نهائي لتلك المدخلات التمهيدية. وضمن سياق إقليمي يتعلق بإعادة الترتيبات الإقليمية في المنطقة في السنوات القليلة الماضية. كان من أهم مؤشرات تلك الترتيبات، تشديد الخناق على إيران، وتصعيد المواجهة مع تركيا، وتوجيه عدة ضربات للقضية الفلسطينية بهدف تصفيتها.