بعد مرور أكثر من أربعة أشهر ونصف الشهر على توقيفه متلبسا بحيازة رشوة مفترضة، عبارة عن شيك بقيمة 886 مليون سنتيم، ومبلغ نقدي ب 50 مليون سنتيم، عقدت غرفة الجنايات الابتدائية المختصة في جرائم الأموال باستئنافية مراكش، أول أمس الخميس، الجلسة الأولى من محاكمة مدير الوكالة الحضرية بمراكش، خالد وِيّا، بعد أن أصدر قاضي التحقيق بالغرفة الثالثة المكلفة بجرائم الأموال، يوسف الزيتوني، أمرا بإحالته على المحاكمة، في حالة اعتقال، متابعا إيّاه بجناية «الارتشاء»، المنصوص عليها وعلى عقوبتها في الفقرة الثانية من الفصل 248 من القانون الجنائي، فيما تابع زوجته، «ص.ب»، وصديقه المهندس المعماري «سمير.م.ل»، بجناية «المشاركة في الارتشاء»، طبقا للفصلين 248 و129 من القانون نفسه، ومتابعتهما في حالة سراح، مع الاستمرار في وضعهما تحت المراقبة القضائية وحجز جوازي سفريهما ومنعهما من مغادرة التراب الوطني وإغلاق الحدود في وجهيهما. الجلسة الأولى من محاكمة المتهمين الثلاثة، الحاملين جميعا للجنسية الفرنسية، لم تستغرق سوى دقائق معدودة، قبل أن يتم إرجاء المحاكمة لجلسة الخميس 5 دجنبر المقبل، لإعادة استدعاء المهندس «سمير.م.ل»، الذي يتواجد مكتبه بحي «أكَدال» بالرباط، بعد أن تبيّن للمحكمة بأنه لم يتم تبليغه بالاستدعاء لحضور جلسة أول أمس. وقد تقدم المحامي عبد الله نادي، من هيئة مراكش، المؤازر للمتهم الرئيس بملتمس من أجل إخلاء سبيله ومحاكمته في حالة سراح مؤقت، وهو الملتمس الذي حجزته الغرفة، برئاسة القاضي أحمد النيزاري، للمداولة لآخر الجلسة، قبل أن تقضي برفضه. وبعد انتهاء الأبحاث الأمنية والقضائية بإحالة المتهمين الثلاثة على المحاكمة، تعيد «أخبار اليوم» تركيب قصة هذه القضية، مستندة إلى المعطيات المثيرة التي كشف عنها البحث التمهيدي، الذي أنجزته الفرقة الوطنية للشرطة القضائية، والتحقيق الإعدادي المجرى من طرف يوسف الزيتوني، قاضي التحقيق لدى استئنافية مراكش. الكمين الأمني كانت الساعة تشير إلى الخامسة والنصف من مساء الخميس 4 يوليوز المنصرم بمحطة الاستراحة «البركة» بطريق فاس.عناصر الفرقة الوطنية للشرطة القضائية أجرت آخر الترتيبات الأمنية للقيام بكمين لموظف سام موضوع شكاية بالارتشاء. وزعوا الأدوار بينهم وظلوا يرقَبون قدومه، قبل أن يتلقوا إشارة من المشتكي بأن «المسؤول الكبير» تحفّظ عن الدخول إلى القاعة الكبيرة للمطعم، وطلب منه اللقاء به داخل سيارته الوظيفية. دقائق قليلة بعد ذلك، تتوقف سيارة سوداء من نوع «هوندا أكورا»، كان يقودها مدير الوكالة الحضرية بمراكش، بزقاق يقع بين محطة الاستراحة المذكورة والقاعة المغطاة «النخيل». توجّه نحوها المشتكي، الذي لم يكن سوى المنعش العقاري والسياحي «رشيد.ح» حاملا معه علبة بلاستيكية كبيرة للأرشيف Boîte archive رمادية اللون تحوي مبلغا ماليا نقديا ب 50 مليون سنتيم. جلس بالمقعد المجاور للسائق وسلّم العلبة للمدير الذي وضعها بينهما، ثم حرّر شيكا بنكيا ناوله للمدير، الذي وضعه في الجيب الداخلي اليساري لسترته. تبادلا الحديث للحظات، قبل أن ينزل المشتكي من السيارة ويغادر المكان، دون أن يحمل معه العلبة الرمادية. في تلك الأثناء، تقدم ضابط الشرطة القضائية من مدير الوكالة الحضرية وأدلى له بصفته، مطالبا إياه ببطاقته الوطنية، فيما حاصرت سيارتان تابعتان للفرقة الوطنية سيارة المدير من الأمام والخلف من أجل منعه من الفرار، غير أن هذا الأخير لم يمتثل لتعليمات الشرطة، وشغّل محرك السيارة، دون أن يثنيه عن ذلك محاولة أحد الضباط نزع المفتاح من المقود. رجع المدير بسيارته بسرعة كبيرة إلى الخلف محاولا الفرار، فصدم أحد رجال الأمن، واصطدم بقوة بسيارة الشرطة من نوع «فولسفاكَن كادي»، محدثا بها أضرارا مادية كبيرة، قبل أن تتدخل عناصر الفرقة لتوقيفه، وتتم معاينة المبلغ المالي النقدي داخل العلبة الرمادية، وهو عبارة عن أوراق مالية من فئة 200 و100 درهم، التي تبين بأن عينة منها تحمل الأرقام التسلسلية نفسها للأوراق المصورة بمقر الفرقة، كما تم العثور على الشيك، الذي ثبت بأنه يحمل الرقم التسلسلي عينه للشيك الذي احتفظ المحققون بنسخة منه. عمولة بمليار و300 مليون سنتيم اعتبر خالد ويّا (50 سنة) القضية برمتها لا تعدو أن تكون سوى فخ نصبه له المشتكي، نافيا، في تصريحاته التمهيدية، بأن يكون طلب من المستثمر «رشيد.ح» أي رشوة، زاعما بأنه طلب، لحظات قليلة قبل توقيفه، من المشتكي أخذ المبلغ المالي الذي كان يحمله معه، غير أن هذا الأخير ترك هاتفه المحمول وغادر السيارة متذرعا بأنه سيذهب إلى سيارته الخاصة ليأتي بخاتم شركته للتأشير بالموافقة على العقد الموقع مع شركة زوجة المدير من أجل أن تتولى المواكبة والمصاحبة لمشروعه العقاري. وبخصوص الشيك بنكي بقيمة 886 مليون سنتيم المحرّر من طرف المشتكي لفائدة شركة زوجته «ص.ب»، وهي الشركة المسماة IFA CONSEIL ، صرّح وِيّا بأن هناك معاملة مهنية بين المشتكي وشركة زوجته، التي قال إنها توسطت في اقتناء قطعة أرضية مساحتها حوالي 20 هكتارا، قريبة من سوق «مرجان» بطريق الدارالبيضاء، يعتزم المشتكي إقامة مشروع عقاري عليها بشراكة مع مستثمر فرنسي، مؤكدا بأن مبلغ الشيك يبقى ناقصا عن العمولة المتفق عليها مع شركة زوجته، والتي تصل إلى مليار و300 مليون سنتيم، التي تناهز حوالي 3.5% من القيمة المالية للصفقة، أي أن قيمة العقار تتجاوز 37 مليار سنتيم. وقد وجّه المحققون المنتمون للمكتب الوطني لمكافحة الجريمة الاقتصادية والمالية، التابع للفرقة الوطنية للشرطة القضائية، أسئلة للمسؤول الموقوف، الذي يحمل الجنسية الفرنسية، حول مصدر المبلغ الكبير، المتجاوز ل 250 مليون سنتيم، الذي عثرت عليه الشرطة بفيلته بمنطقة «المعدن» بمراكش، خلال عملية التفتيش التي تمت بحضوره، وحول دواعي الاحتفاظ بهذا المبلغ الكبير بخزانة حديدية بمقر إقامته بدل إيداعه بالبنك، ليصرّح بأن جزءا من المبلغ، يصل إلى 100 مليون سنتيم، تسلمه من المشتكي بمنزله على مراحل، نيابة عن زوجته، كتسبيق عن المبلغ المتفق عليه مع شركتها التي قال إنها تتولى الاستشارة والمواكبة للمشاريع العقارية للمشتكي، بينما أوضح بخصوص بقية المبلغ بأنه كان يدخره، منذ عشر سنوات، من مبالغ مالية، تتراوح بين مليوني و4 ملايين سنتيم، كان يحصل عليها شهريا من مداخيل مطعم بالرباط تملك والدته ثلث أسهمه، والذي أشار إلى أنه يحقق رقم معاملات يناهز 50 مليون سنتيم شهريا، وهي المداخيل التي قال إن أمه تتنازل عليها لفائدته، لأن لديها مداخيل أخرى من عائد كراء عمارة بفاس يصل نصيبها منها إلى 4 مليون سنتيم شهريا، فضلا عن مبلغ زعم بأنه لم يعد يتذكره، قال إنه اقترضه من صديقه المهندس المعماري، «سمير.ل.م» المتابع معه في الملف نفسه، لتغطية مصاريف سفره للخارج، ومداخيل أخرى متحصّلة من بيع بقع أرضية بتجزئة في طنجة بشراكة مع والده. ثري فرنسي في قلب القضية تصريحات زوجة المدير «ص.ب» (37 سنة)، المزدادة بتولون بفرنسا، لم تكن أقل إثارة، فقد أكدت بأنها تعرفت على المشتكي، في بداية السنة المنصرمة، وأخبرها بأنه يعتبر ممثلا في المغرب لرجل الأعمال الفرنسي DENIS DUMONT (61 سنة)، المالك لسلسلة متاجر GRAND FRAIS ورئيس المجلس الإداري لهولدينغ DUMONT، وأبدى اهتماما بفكرة التعاون المهني بينهما في مجال المراقبة الصحية بمتاجر هذا الأخير بفرنسا، خاصة وأن شركتها تقوم بالخدمة نفسها لمتاجر «كارفور» وLA BELLE VIE بالمغرب، كما أخبرها بأنه يملك شركات متخصصة في البناء، مقترحا عليها تولي الشق المتعلق بسلامة وأمن أوراش البناء، مضيفة بأنه عرض عليها إنشاء شركة بدولة يكون فيها النظام الضريبي أحسن من فرنسا، التي تحمل جنسيتها، ووعدها بأن يشرف على هذه العملية محامون يعملون مع DUMONT، الذي قال لها إنه قام، بدوره، بتغيير موطنه الضريبي إلى سويسرا، مضيفة بأن المشتكي أقنعها بذلك ووقعت له على وكالة مصادق على صحة إمضائها، غير أنها قالت إنها ألغتها لاحقا، بعد أن ظلت تنتظر لعدة شهور، دون أن تتلقى منه أي رد بخصوص إحداث الشركة المذكورة. مهندس «مفروض» ورشوة «مشرعنة» عند الإدلاء بإفادته، خلال مرحلة التحقيق الإعدادي، أكد المطالب بالحق المدني «رشيد.ح» بأن مدير الوكالة الحضرية فرض عليه التعاقد مع صديقه المهندس المعماري «سمير.م.ل» (50 سنة) لإعداد التصاميم والحصول على الرخص الخاصة بمشروعين عقارين بمراكش، بدءا برخصة البناء وانتهاءً برخصة السكن، مع تتبع الأشغال والتنسيق مع كافة المتدخلين، من مقاولة مكلفة بالبناء ومكتب دراسات والمهندس الطبوغرافي. وتابع بأن قصة ابتزازه من طرف وِيّا ابتدأت منذ اقتنائه برفقة شريكه الفرنسي DUMONT لعقار قريب من سوق «مرجان»، موضحا بأنه وبعد أن حصل على رخصة التجزئة من بلدية مراكش، وشروعه في الإجراءات الإدارية للحصول على رخصة البناء، اتصل بمدير الوكالة الحضرية، الذي أكد له بأنه سيسلمه جميع الوثائق الضرورية، بل سيرخص له استثناءً ببناء مساحات أخرى غير قانونية داخل المشروع، مقابل رشوة بمليون و200 ألف أورو، أي ما يعادل مليارا و300 مليون سنتيم، وشرح له ويّا طريقة تسليمه الرشوة المذكورة، مشيرا إلى أن زوجته تحمل الجنسية الفرنسية، وعلى هذا الأساس يجب أن يحوّل لها المبلغ في حسابها البنكي بفرنسا. وتابع المشتكي بأنه، ومن أجل إضفاء الشرعية على المبلغ الكبير للرشوة، قام ويّا بتحرير عقد سلف يُقرض بموجبه DUMO NT زوجة المدير مبلغ 600 ألف أورو، كما قام بتحرير عقد إلغاء هذا الدين، الذي كان مفترضا أن يوقعه الثري الفرنسي بمجرد إيداع المبلغ المذكور في حساب الزوجة، وقد تظاهر المشتكي بالموافقة خوفا من تعرض مشاريعه للعرقلة. بعد مرور فترة أصبح خلالها المشتكي يرفض الرد على اتصالات ويّا، لينتقل هذا الأخير إلى مرحلة الابتزاز والضغط الصريح، إذ تقدم صديقه المهندس المعماري بشكاية، بتاريخ 9 ماي المنصرم، يطالب فيها بوقف أشغال بناء عمارة بالحي الشتوي الراقي، معللا ذلك بوجود مخالفات تعميرية جسيمة، قبل أن يأمر ويّا، وفي اليوم ذاته، بإيفاد لجنة مشتركة، مكونة من المصالح التقنية بالولاية والجماعة ومساح طبوغرافي، للقيام بمعاينة ميدانية للأشغال للوقوف على مدى مطابقتها للتصاميم وللضوابط وقواعد البناء. وأضاف المشتكي بأنه التقى المهندس في أحد المطاعم بمراكش، فأكد له بأن ويّا هو من ضغط عليه من أجل عرقلة مشروعي التجزئة والعمارة، مقترحا عليه الاتصال بمدير الوكالة، الذي قال المشتكي إنه جدد مطالبته بالرشوة الكبيرة، بل أكثر من ذلك كان ويّا يحتفظ بجميع الوثائق الخاصة بمشاريع المشتكي في فيلته بمنطقة «المعدن»، مستدلا على ذلك بأن الشرطة عثرت على ملفات مشاريعه بخزانة ويا الحديدية ووثائق أخرى بسيارته الوظيفية، وأضاف بأنه وجد نفسه مضطرا للتقدم بشكاية إلى الوكيل العام بمراكش، الذي أمر الضابطة القضائية بالاستماع إليه، ليجري الاتفاق على نصب كمين أمني لويّا، لافتا إلى أنه اتصل بهذا الأخير وضرب معه بمحطة «البركة»، وطلب منه المدير أن يحضر معه 300 مليون سنتيم نقدا، والباقي عبارة عن شيك في اسم شركة زوجته. قرائن ضد المدير بالرغم من إنكاره للتهم المنسوبة إليه في سائر مراحل البحث والتحقيق، فقد استعرض قاضي التحقيق ما اعتبره «قرائن مادية وحججا دامغة تحطمت أمامها الدفوعات الواهية للمتهم»، من قبيل تصريحات المشتكي، التي قال إن ما أعطاها مصداقية غير قابلة للجدل هو حالة التلبس التي ضُبط فيها المتهم بارتكاب جناية الارتشاء، وتابع بأن إقراره بإحضار المشتكي لمبلغ 50 مليون سنتيم ووضعها داخل سيارته، يعتبر حجة دامغة على أنها رشوة، وما يؤكد ذلك هو مكان اللقاء بمكان بعيد عن الأنظار، مشيرا إلى أنه لو أن ما يدعيه المتهم صحيحا حول الخدمة المزعومة التي قدمتها شركة زوجته صحيحة، لكان المكان الطبيعي لمعاملات من هذا الحجم هو مكتب إحدى الشركتين. قرينة أخرى مدحضة لادعاءات المتهم، وهي أنه لو كان ما يدعيه صحيحا بكون المبلغ المضمّن بالشيك هو لسداد الخدمات التي قدمتها شركة زوجته لفائدة شركة المشتكي، لتم الأداء عن طريق تحويل بنكي شفاف، وهو ما يؤكد بأن الأمر يتعلق برشوة. دليل آخر عرضه قاضي التحقيق في الأمر الصادر عنه، بتاريخ 5 نونبر الجاري، لإحالة المتهمين على غرفة الجنايات، هو أن شركة زوجة المتهم لم تنجز في الواقع أي خدمات للمشتكي، بدليل أن العقد الذي يتشبث به المتهم، المكون من 9 صفحات، هو مجرد اقتراح ولا يحمل توقيع المشتكي ويحمل، فقط، توقيع زوجة المدير، وأكثر من ذلك فإن من ضمن الخدمات المنصوص عليها في العقد، إبداء نصائح خلال عملية اقتناء العقار، والحال أن المتهمة، زوجة المدير، صرّحت، خلال مرحلة التحقيق الإعدادي، بأن اقتناء العقار لا يدخل في اختصاص شركتها، ليستنتج قاضي التحقيق بأن العقد والفاتورة المتعلقة به هما وثيقتان تم صنعهما من أجل تبرير مبلغ الرشوة. أما بالنسبة للزوجة المتهمة، فقد استنتج قاضي التحقيق بأنه لو كان ما تدعيه صحيحا، لتم سلوك مساطر شفافة في الأداء، فيما استنتج بخصوص المهندس المتهم، الذي يترأس هيئة المهندسين بالرباط، بأنه قدم «مساعدة ذكية» لمدير الوكالة، لكي يكون في موقع قوة لابتزاز المشتكي، وعرض ما اعتبره «قرائن» ضده، من قبيل أنه كان يضمّن محاضر الورش بعض المخالفات، دون أن يتخذ أي إجراء، بل لقد انتظر لحوالي 5 أشهر لكي يتقدم بشكاية حول تجاوز العلو المنصوص عليه في التصميم، أي بعد انتهاء صاحب المشروع من الأشغال الكبرى، خالصا إلى أن الهدف من ذلك كان هو وضع المشتكي أمام الأمر الواقع لكي يتصل بمدير الوكالة للبحث عن حلول لهذه الوضعية.