تتعدد مصطلحات القيم وتترادف صيغها من المثل والمبادئ والأخلاق وحقوق الإنسان... لكن مفهومها يتوحد أو يتقارب حول كونها "مجموعة من المبادئ والمثل والضوابط الأخلاقية الموجهة للسلوك" أما مفهوم القيم الإسلامية فلا يجافي المفهوم العام للقيم، ولكنه ينفرد بخصائص مميزة، لكونها مستمدة من الوحي قرآنا وسنة لا من العقل وحده، وتتمثل تلك الخصائص في الثبات، خاصة ما يتصل بالاعتقاد والأحكام الشرعية والآداب العامة، لما تحققه من مصالح العباد الدينية والدنيوية، وهي بهذا المقصد قد ترتفع إلى درجة الضروريات التي تحفظ للأمة وجودها وهويتها واستمرارها؛ لأنها تندرج ضمن إطار المقاصد العامة للشريعة الإسلامية التي لا تتحقق للإنسان غاية وجوده -من واجب العبودية لله والاستخلاف على هذه الأرض- إلا بها. واعتبارا لكون القيم الإسلامية لا تدخل تحت الحصر وهي تشمل المساواة، والحرية، والعدل، والاختلاف... فإنني سأقتصر – في تناولها بالدرس– على المساواة، باعتبارها أصلا لباقي القيم. وبمنهج يتحدد كالآتي: 1. مفهوم المساواة؛ 2. أهميتها؛ 3. مصادر قيمة المساواة؛ 4. تطبيقات هذه القيمة في واقع التاريخ الإسلامي؛ • خلاصات. 1. مفهوم المساواة: تعني المساواة في اللغة: المماثلة والعدالة، والمراد بها في الاصطلاح: المماثلة والمشابهة بين الشيئين في القدر والقيمة. فإذا قلنا: الإنسان يتساوى مع أخيه الإنسان، إنما ذلك يعني أنه يكافئه في الرتبة، ويعادله في القيمة الإنسانية، وله من الحقوق مثل ما له، وعليه من الواجبات مثل ما عليه. وقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم، على هذه القيمة في خطبته الشهيرة - في حجة الوداع - التي تعتبر- بحق- دستورا للقيم، والتي أعلن فيها عن جملة من المبادئ والقيم التي تقوم على أساسها الحياة الاجتماعية للأمة وللإنسانية جمعاء، ومنها المساواة بين البشر، لكونها ترجع كلها إلى أصل واحد آدم وحواء، ومهما تعددت أجناسهم وأعراقهم، واختلفت ألوانهم ودياناتهم فإنهم إخوة، وبالتالي فلا تمايز بينهم ولا أفضلية لأحدهم على أحد، حيث قال صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى..."[1]؛ 2. أهمية قيمة المساواة: المساواة مبدأ هام في حياة البشر، أقره الشرع، ورضيه العقل، وأملته سنة التمدن والاجتماع، ومن أجل دفع التميز بين فرد وآخر للحصول على هذه الحاجة أو تلك المنفعة، كان لا بد من وضع قاعدة مستقيمة، تحفظ هذا الحق للجميع في ظروف متشابهة، فكانت المساواة أنسب قاعدة له، إذ عن طريقها يمكن أن تضمن الحقوق للبشرية كلها؛ 3. مصادر القيم: إن مصادر القيم – في معناها العام- تتعدد لتشمل ثقافة المجتمعات وأعرافها وتقاليدها وعقولها، أي ما استحسنه العقل فهو حسن وما استقبحه فهو قبيح، في حين أن المصدر الأول للقيم الإسلامية هو الوحي قرآنا وسنة، والمصادر الأخرى مندرجة ضمن الإطار العام بشرط الانضباط بضوابطه ومقاصده. ففي القرآن الكريم أكثر من دليل على التوجيه إلى المساواة بين الناس، باعتبارها قيمة ثابتة، لا يحق لأي كان أن يتجاوزها ليعلو على أحد من بني جنسه مهما كانت المبررات، وتباينت المواقع الوظيفية الموهمة بالتفاضل، قال تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" [سورة الحجرات، الآية: 13]، وزاد الأمر توضيحا حين حدد معيارهذا التفاضل في أمر واحد هو العلم والتقوى، قال سبحانه: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" [سور الحجرات، الآية 13]، وأما السنة النبوية فغنية بالأدلة الشافية على إقرار قيمة المساواة بين الناس سنورد بعضها فيما يلي: 4. التطبيقات العملية: لقد حفظت كتب السنة والسيرة نماذج رائعة للتطبيق الفعلي للمساواة في الواقع الاجتماعي، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي: أ. هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب أروع الأمثلة لنقل قيمة المساواة من مستواها النظري إلى المستوى التطبيقي؛ بحيث لم يكن يسمح بسلوكيات تخدش هذه القيمة وتتعارض معها، وقد شنع صلى الله عليه وسلم على أصحابها واعتبرها من أعمال وقيم الجاهلية التي جاء الإسلام بديلا عنها، أخرج الإمام البخاري في صحيحه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر الغفاري حين عير عبدا له بأمه: "أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس..."[2]؛ ب. كان صلى الله عليه وسلم يحرص على المساواة حتى بين جنائز المسلمين وأهل الكتاب، أخرج البخاري عن سهل بن حنيف وقيس بن سعد قالا: مرت برسول الله جنازة –وكان جالسا– فقام، فقيل له إنها جنازة يهودي، فقال: أليست نفسا؟"[3]؛ ج. وكان يساوي بين الناس في حق الحياة مهما اختلفت عقائدهم، أخرج النسائي في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل رجلا من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة..."[4]؛ د. لقد سار الصحابة رضوان الله عليهم على هديه صلى الله عليه وسلم، فهذا علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه - افتقد درعه – يوما من الأيام – فوجدها عند رجل نصراني، فاختصمه إلى شريح القاضي، فقال عليّ مدعيا: "الدّرع درعي، ولم أبع ولم أهب، وسأل شريح النصراني في ذلك فقال: ما الدّرع إلاّ درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذبٍ. فالتفت القاضي إلى أمير المؤمنين عليّ، فقال: يا أمير المؤمنين، إن النصراني صاحب اليد على الدّرع، وله بذلك حقٌ ظاهر عليها، فهل لديك بيّنة على خلاف ذلك تؤيد ما تقول؟ فقال أمير المؤمنين أصاب شريح، مالي بيّنة، وقضى شريحٌ بالدرع للنصراني، وأخذ النصراني الدّرع وانصرف بضع خطوات، ثم عاد فقال أمّا أني أشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يدينني إلى قاضيه، فيقضي لي عليه، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، الدّرع درعك يا أمير المؤمنين". ه. وهذا عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه– كتب إلى عامله في البصرة -وهو عدي بن أرطاة -فقال: "وانظر من قبلك من أهل الذمة من كبرت سنه، وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب، فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه". خلاصات نخلص بعد هذه المحاولة لتقريب الصورة للقارئ عن القيم الإسلامية عامة، وعن قيمة المساواة خاصة إلى ما يلي: • إن العودة إلى تراثنا الزاخر للكشف عن مكنوناته وجواهره والتعريف بها للأجيال الحاضرة والمستقبلة حاجة ملحة لإنصاف هؤلاء الأجيال، وإنصاف هذا التراث؛ • إن القيم الإسلامية كما تعامل معها أسلافنا رضوان الله عليهم، لم تبق في الإطار النظري تردد وتحفظ، ولكن كانت محل التطبيق والتفعيل، وكتب السيرة مليئة بالأمثلة الحية والوقائع الشاهدة؛ • المشكلة التي يعاني منها الكثير في زماننا، تكمن في الانفصال الحاصل بين النظرية والممارسة، وهي أزمة نحتاج لتجاوزها إلى أن نعيد النظر في سلوكياتنا وممارساتنا لنرتقي بهذا السلوك إلى نموذج يرضي الله تعالى ويزكو عنده.. ------------------------ 1. شعب الإيمان للبيهقي، ج: 11، ص: 130، رقم الحديث: 4921. 2. صحيح البخاري، ج: 1، ص: 52. 3. المرجع السابق، ج: 5، ص: 672، رقم الحديث: 1229. 4. سنن النسائي، ج: 14، ص: 379، رقم الحديث: 4668.