وكان من بين هذه المعاهد معهد عبد الكريم لحلو بالدار البيضاء، وكانت تواكبه آنذاك بالعاصمة الاقتصادية معاهد أخرى منها معاهد السادة محمد الحمداوي ومحمد العلمي والمدرسة المحمدية لمحمد بنيس. والسيد عبد الكريم من تجار طريق مديونة بالدار البيضاء بنى هذه المؤسسة العملاقة على أحدث طراز وهي أول مدرسة من نوعها من حيث الضخامة والروعة المعمارية تشتمل على أكثر من عشرين قاعة مع دار سكنى المدير وغرف جانبية وقاعة كبيرة معدة للصلاة ومطعم فسيح الأرجاء لأن المدرسة كانت داخلية. وعند إشرافي على هذا المعهد شرعت في تجهيزه ماديا وبشريا ليكون نموذجيا في برامجه وجدوى بيداغوجيته وحسن سلوك تلاميذه فبادر ثلة من كبار رجالات المغرب إلى تسجيل أبنائهم وكان من بينهم المجاهد الكبير الحاج عمر بن عبد الجليل. كانت المهمة صعبة لمثالية الرسالة لاسيما خلال السنتين الأوليين بحثا عن أجواد الأساتذة والمعلمين وترتيبا محكما للمسؤوليات وتمحيصا لمختلف الذرائع والماجريات، وكان علينا أن نفتح في آن واحد الفصول الخمسة المؤدية إلى شهادة الدروس الإبتدائية فلم نكن مسئولين عن تربية هذا الفريق الأول من التلاميذ الذين توافدوا على المعهد في مستويات مختلفة ومع ذلك كانت النتائج متوسطة رغم العراقيل لأنني جعلت على راس السنة الخامسة أستاذا مقتدرا له تجربة كبيرة هو الأخ محمد (فتحا) بنيس الذي يدير في نفس الوقت (المدرسة المحمدية) بنفس المدينة ولم تكن مهمة التعليم او الإشراف عليه من اختصاصي إلا أن المغرب كان مضطرا للاستعانة بأطره المختلفة في حقل التعليم فكنت تجد بين المعلمين أنفسهم مهندسا زراعيا لمراقبة الدراسة وهو المرحوم الشريف سيدي العابد الوزاني وابن أخيه الشريف سيدي أحمد الوزاني الحاصل على الإجازة في الحقوق مما أهله ليصبح بعد الاستقلال رئيسا للمحكمة الخاصة بالمغرب وهو من الأطر المثقفة التي لم تكن متوافرة آنذاك لأن المجازين في الحقوق كانوا يعدون على رؤوس الأصابع، بالإضافة للشريف سيدي عمر العلمي الذي كان مفتشا عاما للمعهد.. وقد حدثني ظروف شخصية بعد سنتين إلى العودة إلى عملي الإعلامي بالرباط الذي كان في حاجة ماسة إلى أعداد متزايدة من العاملين في هذا المجال نظرا لتشعب وسائل الإعلام الإخباري والسياسي وتوافر أجهزته. وكان لتقاعسي عن الكتابة والتأليف دور في عودتي عام 1952 إلى الصحافة الوطنية التي تطورت مجالاتها وتكيفت آلتها مع توتر المعطيات السياسية ولعل الحركة الوطنية قد اجتازت أصعب مراحلها في الكفاح خلال هذه الفترة. والواقع أنني توقفت طوال سنتين اثنتين عن أي إنتاج فكري وعطاء ثقافي إذ كان ما أصدرته في هذه الفترة هو أداة تعليمية ضرورية لم تكن في متناول مدرسي جغرافية المغرب فأصدرت أول كتاب في الموضوع محلى بصور وألواح توضيحية لسد الفراغ وقد جعل الكتاب رهن إشارة المعلمين في جميع المدارس مما اضطرني إلى تكرار طباعته خلال نفس العقد تلبية للطلبات الملحة. وقد صدرت الطبعة الأولى عام 1949 والطبعة الثانية عام 1956 (مطبعة لاسكي بالدار البيضاء) والطبعة الثالثة عام 1961 مطبعة دار كريماديس) بتطوان. وكنت قد أعددت قبل ذلك دراسة عن ابن الخطيب بعنوان: الفلسفة والأخلاق عند ابن الخطيب حصلت بها عام 1950 على جائزة معهد مولاي الحسن بتطوان وكانت الدراسة تشكل الجزء الثاني من دراسة مزدوجة حول شخصية ابن الخطيب، وقد أصدرت الطبعة الثانية من كتابي هذا عام 1983 مطبعة دار بيروت..