صدرت، في الفترة الأخيرة، الطبعة الثالثة لكتاب محمد بنيس "ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب" عن دار توبقال للنشر. مع صدور هذه الطبعة يتجدد لقائي بالكتاب، عبر أسئلةٍ لها حجةُ ترصيص مناطق النسيان الذي يسود اليوم ذاكرة معرفتنا الشعرية. هذه الطبعة الثالثة وفيةٌ للأولى في جميع الخصائص المعرفية، ولم يدخل عليها بنيس أي تعديل أو تغيير في النصوص أو في المنهج أو الوثائق، بعد خمس وثلاثين سنة على صدور طبعته الأولى، سنة 1979، عن دار العودة في بيروت. ذلك ما أشار إليه في الفقرة الأخيرة من الكلمة التي خص بها هذه الطبعة حين كتب : "هذه الطبعة الثالثة وفيةٌ للأولى في جميع الخصائص المعرفية. لمْ أدخلْ على منْهجها ولا على نُصوصها أوْ صياغتها أيَّ تعديل أو تغيير. وما قمتُ به يبقَى في حدود تنظيفِ الكتاب منْ أخطائه التقنيّة، واستدراكِ بعض النّواقص المتعلقة أحياناً باضْطراب وقُصور العبَارة أو تكْرار ما لا فَائدة في تكْراره." والزمن الفاصل بين تلك الطبعة والطبعة الحالية يضيء لنا تلقِّي الكتاب في رؤيته وخطابه؛ وضمن هذه الإضاءة أقتطعُ، اليوم، حالةً لها الشخصيُّ في استيعاب علاقتي بهذا التاريخ من جهة، ولها العام في الأثر الذي تركه الكتاب في مرحلة الثمانينيات من جهة أخرى. كان تلقي "ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب" مختلفاً بيننا، نحن الطلاب من "جيل الثمانينات" في كلية الآداب بتطوان : جيل البحث عن المناهج النقدية الحديثة. ورغم الاختلاف في التلقي، كان ثمة اتفاق ضمني أو علنيٌّ بيننا على الإقرار بوجود معرفة في الكتاب مختلفة عن المتداولة في الكتب النقدية السائدة آنذاك، من حيث تصور وتناول الشعر المعاصر. اتخذ الكتابُ موقعاً هاماً بين حالة تأملنا، ونحن طلبة، في النقاش الدائر داخل الجامعة، وبين ما كان يُنشر من شعر ونقد في الملاحق الثقافية المغربية. ولكن هذا الحوار والنقاش الموسعين، في وسط الطلبة، لم ينتقلا من الجامعة إلى النشر في الصحافة، إما لأسباب موضوعية، لها صلة بطبيعة المنابر، أو لأسباب ذاتية خاصة. من الطبيعي أن ينشغل طلبة كلية الآداب، في وضع كهذا، بأسئلة منهجية ومعرفية أتى بها الكتاب. وقد قادتنا إلى ضرورة العودة إلى الوثيقة، من أجل إعادة قراءة النصوص الشعرية المغربية في عدد من المجلات التي كانت متوافرة في خزانة تطوان، كمجلات "المعتمد"، و"كتامة"، و"الأنيس"، و"الحديقة"، و"الأنوار" وغيرها، في أفق نسج خيوط معرفتنا بهذا الشعر. وكانت الخطوة الأولى هي تبني السؤال الذي طرحه محمد بنيس عن الفرق النظري بين الشعر الحديث والشعر المعاصر. دافعٌ حيوي كان لهُ المعرفيُّ إبدالاً، والمنهجيُّ صوغاً وتركيباً. كان الأمر صعباً بالنسبة إلي، لأنني كنت قرأتُ "بيان الكتابة" لمحمد بنيس في وقت مبكر، حين صدوره سنة 1981، في العدد التاسع عشر من مجلة "الثقافة الجديدة". قراءة البيان سبقت اطلاعي على كتاب "ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب"، الذي لم يصل إلى أيدينا إلا في طبعته الثانية، في أواسط الثمانينات، أي بعد صدورها سنة 1985. لقد كان لزاماً علي أن أعيد ترتيب زمن تناول موضوع الشعر المعاصر، لأستوعبَ الإشكالَ الذي يطرحه الكتاب في وضع منسجم، تاريخياً على الأقل، مع "بيان الكتابة" المنشور بعد سنتين عن الطبعة الأولى للكتاب. فقد كان عليّ إما أن أعدَّ الكتاب حدثاً، أو أرى إليه تصوراً. والانتقال من الشرط الأول إلى الثاني يفترض وعياً بالزمن. في أي زمن نستطيع أن نستوعبَ الكتابةَ (الشعرية)، كما جاءت في "بيان الكتابة"، بما هي مغامرةٌ، نقدٌ، تجربةٌ، ممارسةٌ وتحرُّر؟ كانت مداخل اللغة، والذات، والمجتمع في "البيان" تمثلاً فاعلاً، وضعَ سؤالنا ضمن فعل التغيير، الذي ينبذ الانغلاق، ويركب المحتمل، ويبحث عن بلاغة تُغيِّرُ الأدلةَ من مواقعها التي تعودت عليها. ومن الطبيعي أن نضيف تأويلاتنا الخاصة إلى المبادئ الناظمة للكتابة والخلاصات المستأثرة بتطلعاتنا، كي تكون لنا كلمة في نقد المتعاليات، وتبادل الفعل مع الواقع ضد المصالحات القانعة، ثقافة ومجتمعاً. الوعي بالزمن هو الدرسُ الحقيقي الذي راهنَّا عليه، ونحنُ نتابعُ قراءة فصول كتاب "ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب". إجاباتنا كانت عسيرةً، والواقعٌ المعرفي الذي كنا نعيش فيه كان مُحبطاً. ولم يكن اختيارُ الشعر الأوربي، وخاصة الإسباني لدى شعراء الثمانينيات بشمال المغرب، من قبيل الترف، بل كان وجهاً آخرَ لمستوى تقاطع معنى حرية الكتابة بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط. وغياب المعنى هو الذي كان يصدمنا في الدرس الجامعي، إذ لم يفتح درسُ "المسرح الشعري" بالكلية أعيننا على أي سؤال معرفي أو منهجي، ولا على زمن السؤال. وكان اقتناعُنا ببؤس المحاضرات التي كنا نتلقاها عن الشعر المغربي هو الحدث الحقيقي، في ضوء جرأة جيل شاب، يرى أفقَ معرفته داخل المختلف عما يلقنه لنا هذه الدرس، من خلال تقدير معنى الحرية والتفكير والدفاع عن الاختيار. هل كانت المتكلمة في جرأتنا هي الذاتُ التي تحدث عنها "بيان الكتابة"؟ هذه الذات أراد البعض أن يلصقها بالرومانسية على حساب الدلالة التي نص عليها البيان، أو أراد البعض الآخر خارج المغرب أن يستبيحها بالسطو على "بيان الكتابة"، كما فعل الروائي الجزائري رشيد بوجدرة عندما نسبه إلى نفسه ونشره موقعاً باسمه في الجزائر؟ إن الصوغَ المعرفي لحالة الشعر المعاصر، كما جاء في الكتاب، صوغٌ مغربيٌّ، يقوم على معرفة جديدة، غير معهودة في الدراسات العربية المتداولة آنذاك، مثل كتاب نازك الملائكة أو عزالدين إسماعيل أو غالي شكري، وكانت مرجع الدروس أو الدراسات الجامعية المغربية. ولكن الربط بين "ظاهرة الشعر المعاصر" وبين "بيان الكتابة" كان مسيطراً على استيعابنا وإدراكنا لمنطق السؤال من جهة، وتعلقنا بإمكانية إيجاد جواب مختلف ومحتمل، في لحظة مغربية تقليدية تسيِّدُ الجاهز. ومن المفارقات التي ضاعفت عناصر الخلل في تعاطينا مع السؤال، صمتُ الشعراء المغاربة الذين استضفناهم في الأمسيات الشعرية التي كنا ننظمها بالكلية. لم يجبنا أي شاعر عن أسئلتنا، ومنهم من شمله متن كتاب محمد بنيس. فهل كان المشكلُ في موضوع الكتاب، أم في نوع مقاربته المنهجية، التي ألف فيها بين البنيوية التكوينية واللسانيات والشعرية والسميائيات، حتى يكون هذا الصمتُ معمماً بين الشعراء وحالةً معرفيةً تتربصُ بنا ؟ ولتجاوز الصمت، بشكل أو بآخر، استحال الانتقال إلى الظاهرة، ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب، عبر المتن المدروس، إلى تعارض واضح مع النقد الشعري السائد في المشرق العربي. هكذا ارتبط كتابُ "ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب"، في منظومة قراءتنا، بكتابي عبد الله العروي "الإيديولوجيا العربية المعاصرة" و"العرب والفكر التاريخي". وكانت التاريخانية مجالاً مسوغاً للتعرف على موضوع الأدب والفن، في ارتباطهما بتاريخهما، وبنمط إنتاج إيديولوجيا التحديث، وبالعطب السائد في الثقافة. مساحةٌ بريئةٌ لدى طلبة جامعيين يمسكونَ بالخيوط الأولى للتركيب النظري. وأول ما واجهناه مع الكتاب هو الإجابةُ عن سؤال "ما هو هذا الشعر المعاصر في المغرب؟". بداهةُ الجواب بالعادة المتداولة في الدرس الجامعي، مأزقٌ آخرُ لمضاعفة الصمت، فيما كانت أحكام ويقينياتُ المقالات النقدية تتلاحقُ في الصحف؛ فتخلينا عن السياب، والبياتي، وعبد الصبور، من أجل مساءلة النص المغربي بين حالة الشعر الحر وحالة الشعر المعاصر. لم نكن تقنيينَ بالفعل، بل بالقوة، لأن الدرس الجامعي لم يكن يتجاوز كتاب عبد الله كنون "أحاديث عن الأدب المغربي الحديث". ولم يكن السؤال ممكناً، لأن الدرس الجامعي لم يكن يتوفر على وعي بالزمن كي يطرح السؤال على التحديث. هل الممارسة الشعرية بالمغرب ظاهرة ؟ سؤال بدهي، رسمَ معالمَ تلقينا للكتاب من حيث الموضوع، ورافقت ممكناتُ تحققه كلَّ مستويات الأسئلة المنهجية. فهل كان مجال التهيُّب من هذا الحكم، لدى الممارسين والنقاد، هو الواقع أم الإيديولوجيا ؟ لم يجترح النقد الصحفي آنذاك مسوغَه في مساحة الصمت بين 1964 و 1975، التي حصر الكتاب فيها دراسة الشعر المغربي المعاصر، وفي مساحة الجدل بعد ذلك، لأن الممارسة حين تفتقد أسسَ نظريةٍ واضحة، يفقد مصطلحُ الشعر الحديث هويتَه. والتصريح بأن الشعر المغربي ظاهرة معاصرة، موقفٌ نقدي أعلن عنه الكتاب، الذي اختارَ متنَه في لحظة لم توجد فيها دراسات تدلُّ على التحولات الشعرية في المغرب. أضاء لنا نقاشنا حول الكتاب وضعيةً نقديةً لم تكن حاضرة في تلقينا السابق لدرس الشعر المعاصر. ومما زاد في قدرتنا على متابعة الحوار بيننا، سؤالُ المنهج الذي أطَّرَ بعض قراءاتنا باللغات الأجنبية. بل كنا نتوق إلى العثور على نموذج تطبيقي يمكننا من وصل الخطاب النظري بممارسة التحليل النصي، كي نقفَ عند حدود ونتائج تستطيع إقناعنا. وما لفت نظرنا هو قدرة كتاب "ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب" على إمدادنا بالتحليل الخاص بالقصيدة، وعلى نقل البنيوية التكوينية من مجال الرواية إلى مجال الشعر. هكذا أصبح كتاب محمد بنيس مرجعاً حقيقياً لبحوث الإجازة وما بعد الإجازة، فاشتغلت مصطلحاته بقوة كقيمة تداولية صمتتْ عنها بعضُ الدراسات التي أتت لاحقاً. ثم اتخذت علاقتي بأعمال محمد بنيس منحى آخر، بعد تعرفي عليه أستاذاً بكلية الآداب بالرباط، في بداية التسعينيات، رفقة أصدقائي من الطلبة الذين أتوا من شمال المغرب ليتابعوا دراستهم، ضمن دروس الشعر الحديث بالسلك الثالث. عندها أصبحت القاعدة الذهبية "الوعي بالزمن" تتعمق بشكل قوي، من خلال المحاضرات التي كنا نتلقاها على يديه، وتظهر في وضعية جديدة تمس الشعرية العربية في علاقتها بالشعريات العالمية. وبالعودة إلى مقدمة الطبعة الجديدة للكتاب، نستطيع أن نفهم سبب عدم تطرق بنيس ل "ظاهرة الشعر المعاصر" و"بيان الكتابة"، وتجنب تناولهما مع الطلبة طوال تلك السنة التكوينية، ذلك أنه كان أنجز أطروحته عن الشعر العربي الحديث، الصادرة بين 1989 و1991. بهذا العمل الجديد انشغلنا معه، ومنه أفدنا بما يقدم ممكنَ قراءةٍ مختلفة، مسكونة بالزمن المعرفي. وبانتسابي إلى درس الشعر الحديث، كان الحوارُ عميقاً أثناء إشرافه على بحثي في الدراسات المعمقة. كان البدءُ في البحث يدلني، شيئاً فشيئاً، على معنى الزمن في البحث الأكاديمي. وبصيغة معنى الزمن اختبرتُ، في بحثي الذي قمت به، وضعية البيت (الشعري) القديم والبيت (الشعري) الحديث، فتبين لي أن لهما بنْيتين محفوفتيْن بالمخاطر النظرية والتقنية. الإنصاتُ إلى الكبار، عندنا وعند غيرنا. والحرية تعني المغامرة. هاتان عبارتان موجزتان من عبارات محمد بنيس التي كان يقدمها لنا، وإيجازُهما في الكلام يؤدي إلى تعلم أبجديات الوعي بالزمن، كمدخل إلى ممارسة حفريات المعرفة. هكذا سلَّمني الوعي بالزمن للغواية، كي أعرف تاريخية السؤال النقدي في حداثة الشعر العربي وغير العربي. قلَّةٌ هم من أشرفَ محمد بنيس على رسائلهم الجامعية، وكنتُ أحدَ "عصابة الحفريات" : صفةٌ كان يحلو لهُ أن ينعتنا بها أثناء الحوار والعمل. وبأثر كتابة بنيس علينا، لغةً، وصياغةً، وأسئلةً... كنا معروفين بين الطلبة، وكأنما اقترفنا جُرمَ زمنٍ ذي بنيةٍ غير دالة. ما عاد الماضي بذلك إلى ماضيه، بل استشرفَ الآتي وجعل منه وديعته واستحقها. فهل كان سؤال بنيس دالاًّ في بنيةٍ مغربية ثقافية ومعرفية غير دالة ؟ باستحقاق الوعي بالزمن عثرت على مكان للتأمل في تاريخية الشعر، وبه تأملتُ ممارسةَ محمد بنيس وأنا أتهيأ لأعدَّ رسالة الدكتوراه بإشرافه شخصياً. وضعيةٌ قاسيةٌ وجدتني فيها. فعندما اقترحت عليه أن يكون المشرف على رسالة تتناول عمله الشعري كان موقفه هو الرفض ونصحني أن أبحث عن مشرف سواه. ثم امتدتْ أربع سنوات بين طنجة والرباط والمحمدية، أسافر في المكان والزمان، ألتقي به وأناقش وألح في الإشراف. وكان يكرر : "لا بد من الفصل بين المعرفة والأخلاق، كي نكون موضوعيين في البناء والحكم والاستنتاج". بهذا السفر السعيد انهارت مسلماتٌ وتهدّمتْ متعالياتٌ أمام المغامرة. ذلك هو درسُ الإبدال الذي كان مطلوباً في الوعي بالزمن، لتغيير كل من زاوية النظر ومكان التأمل. ثم استأنست بأخلاقيات البحث فأصبح الإشراف مقبولاً بعد أن أضفت في مشروع الرسالة متون شعراء مغاربة آخرين من جيل السبعينيات. وبعد ذلك آن أوانُ حقي في البحث والتساؤل. مع الشعر والتنظير اختبرتُ وعيي بالزمن، واقتربتُ من مساحات الصمت التي كانت تغطي بنيات هذا الشعر المغربي المعاصر، فيما الكتابةُ مفهومٌ يناقض مفهوم الشعر المعاصر. لقد أصبحت مع الأعمال الشعرية لمحمد بنيس أمام توجه جديد في الكتابة والأمكنة : من ديوان "ما قبل الكلام" إلى "الأعمال الشعرية" (في جزئين). كنت أصادقُ مغامرةً، أقتنصُ بعض تجاربها، أُسوِّي مكانها في فصول الدراسة، أبحث لها عن مسوغ نظري... أعرضُ على الأستاذ ما أهدمهُ لأنتقل إلى مدخل مختلف في كل لحظة. هكذا بنيت صداقتي مع محمد بنيس، شاعراً وأستاذاً جامعياً. وأتشرفُ بهذه الصداقة، التي دامت أكثر من خمس وعشرين سنة. *ألقيت هذه الكلمة بالمكتبة الوسائطية بالرباط يوم 25 يناير 2014، أثناء جلسة الاحتفاء بالشاعر محمد بنيس إثر فوزه بجائزة "ماكس جاكوب" 2014.