صاحبة السمو الملكي الأميرة للا حسناء تترأس حفل العشاء الدبلوماسي الخيري السنوي    مساعدات إنسانية لدواوير في جرسيف    من بينهم إذاعة إلياس العماري.. الهاكا تجدد تراخيص أربع إذاعات خاصة    الملك يعين الأعضاء الجدد باللجنة الوطنية لمراقبة حماية المعطيات ذات الطابع الشخصي    اثنان بجهة طنجة.. وزارة السياحة تُخصص 188 مليون درهم لتثمين قرى سياحية    ضبط شخص متورط في الذبيحة السرية بطنجة وحجز أكثر من 100 كيلوغرام من اللحوم الفاسدة    شاب ثلاثيني ينهي حياته في ظروف مأساوية بطنجة    "القسام" تنشر أسماء 4 مجندات إسرائيليات ستفرج عنهن السبت ضمن اتفاق وقف إطلاق النار    بوتين يقول إنه مستعد للتفاوض مع ترامب لإنهاء الحرب في أوكرانيا    السكوري: برنامج "وفيرة" نموذج للإندماج والتنقل المهني الدائري    إعلان نوايا مشترك بين المغرب والبرتغال لتعزيز العدالة في إطار كأس العالم 2030    أرقام فظيعة .. لا تخيف أحدا!    التعاون المغربي الموريتاني يُطلق تهديدات ميليشيات البوليساريو لنواكشوط    ترامب يطلق أكبر عملية طرد جماعي للمهاجرين غير النظاميين    توقيع عقد مع شركة ألمانية لدراسة مشروع النفق القاري بين طنجة وطريفة    كرسي الآداب والفنون الإفريقية يحتفي بسرديات "إفا" في أكاديمية المملكة    بالصدى .. بايتاس .. وزارة الصحة .. والحصبة    الدرك الملكي يحجز طن من الحشيش نواحي اقليم الحسيمة    على خلفية مساعي ترامب لزيادة حجم الإنتاج...تراجع أسعار النفط    دوامة    معرض فني جماعي «متحدون في تنوعنا» بالدار البيضاء    الفنانة المغربية زهراء درير تستعد لإطلاق أغنية « جاني خبر »    رواية "المغاربة".. نفسانيات مُركبة    غياب لقاح المينانجيت في الصيدليات يعرقل سفرالمغاربة لأداء العمرة    الذكاء الاصطناعي.. (ميتا) تعتزم استثمار 65 مليار دولار خلال 2025    محاكمة بعيوي في قضية "إسكوبار" تكشف جوانب مثيرة من الصراع الأسري لرئيس جهة الشرق السابق    ترامب يرفع السرية عن ملفات اغتيالات كينيدي ولوثر كينغ    مهدي بنسعيد يشيد بحصيلة الحكومة ويدعو لتعزيز التواصل لإبراز المنجزات    الصيد البحري : تسليم 415 محركا لقوارب تقليدية لتحسين الإنتاجية والسلامة البحرية    تركيا..طفلان يتناولان حبوب منع الحمل بالخطأ وهذا ما حدث!    إضراب عام يشل حركة جماعات الناظور ليوم كامل احتجاجا على تغييب الحوار    العطلة المدرسية تبدأ مع طقس مستقر    معهد التكنولوجيا التطبيقية المسيرة والمعهد المتخصص في الفندقة والسياحة بالحوزية يحتفيان بالسنة الأمازيغية    السلطات البلجيكية تحبط محاولة استهداف مسجد في مولنبيك خلال صلاة الجمعة    اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس: خطوة أولى نحو السلام أم محطة مؤقتة في طريق الصراع؟    تراجع التلقيح ضد "بوحمرون" إلى 60%.. وزارة الصحة في مرمى الانتقادات    "الطرق السيارة" تنبه السائقين مع بدء العطلة المدرسية    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    الكونفدرالية المغربية للمقاولات الصغيرة جدا والصغرى: مشروع قانون الإضراب غير عادل    تعيين الفرنسي رودي غارسيا مدربا جديدا لمنتخب بلجيكا    بورصة البيضاء تفتتح التداول بارتفاع    الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة…انتشار حاد لفيروس الحصبة وفقدان أرواح الأطفال    نادي أحد كورت لكرة السلة يحتج على قرار توزيع الفرق في البطولة الجهوية    تنفيذا لتعهدات ترامب .. أمريكا ترحل مئات المهاجرين    لقجع ينفي ما روجه الإعلام الإسباني بخصوص سعي "فيفا" تقليص ملاعب المغرب خلال مونديال 2030    العصبة الوطنية لكرة القدم النسوية تعقد اجتماع مكتبها المديري    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    مايك وان" يُطلق أغنية "ولاء"بإيقاع حساني    رقم قياسي .. أول ناد في العالم تتخطى عائداته المالية مليار أورو في موسم واحد    سيفعل كل شيء.. سان جيرمان يريد نجم ليفربول بشدة    جوائز "الراتزي": "أوسكار" أسوأ الأفلام    تألق نهضة بركان يقلق الجزائر    الحكومة تحمل "المعلومات المضللة" مسؤولية انتشار "بوحمرون"    عبد الصادق: مواجهة طنجة للنسيان    أخطار صحية بالجملة تتربص بالمشتغلين في الفترة الليلية    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تحولات القصيدة المغربية في الثمانينيات
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 08 - 10 - 2010

لا أهدف من وراء هذه المحاولة التي تضع على عاتقها رسم الملامح الكبرى للشعر المغربي في الثمانينيات أن أحيي نقاشا عمر طويلا حول مسألتي التحقيب والتجييل ومدى نجاعتهما في مقاربة الظاهرة الأدبية عامة والظاهرة الشعرية على وجه الخصوص، وأكتفي بالإشارة إلى أن التصنيف الجيلي لم يعرف طريقه إلى الشعر المغربي إلا مع منتصف الثمانينيات عندما وفر الإنتاج الشعري المغربي تراكما في التجارب سمح بفرز معالم ظلت تعلن عن نفسها باحتشام تارة وبجرأة واعتزاز بالنفس تارة أخرى. ومنذ ذلك التاريخ بدأ الحديث في المغرب عن أجيال الشعراء: شعراء الستينيات وشعراء السبعينيات وشعراء الثمانينيات...
ومع ذلك أبادر إلى القول بداية إن القصيدة المغربية الحديثة عرفت من التطور خلال هذه العشرية ما لم تعرفه خلال العشرين سنة التي سبقته. ولا معنى لأن نقول بهذا الخصوص إن الفضل في ذلك يعود إلى الشعراء الذين ظهروا خلال هذه الفترة بالذات، على الرغم من أنهم شكلوا بمجهودهم الإبداعي تجربة متميزة. لآن القصيدة المغربية هي صيرورة في الزمان والمكان ولا يجوز في الشعر الحديث عن القطيعة إلا بقدر ما هي تجاوز بالمفهوم الذي لا يمكن معه غض الطرف عما سبق من تجارب.
مع مطلع الثمانينيات ظهرت بالمغرب كوكبة من الشعراء أغلبهم كان على اطلاع واسع على الشعر العالمي بلغاته الأصلية، وخاصة اللغة الإنجليزية واللغة الإسبانية بالإضافة إلى اللغة الفرنسية.
إن هؤلاء الشعراء قد ولدوا في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، وترعرعوا في ظل خيبات الاستقلال السياسي. وهو ما يعني أن وعيهم قد تفتق على معايشة أحداث جسام عرفها المغرب، أفرزت جيلا من المثقفين يضع كل شيء موضع السؤال. الإشارة هنا إلى أحداث الدار البيضاء 81، وأحداث الشمال 84، والانتكاسات المتوالية التي عرفتها التجارب الديمقراطية بالمغرب منذ أواسط السبعينيات.
ومع أن الأحداث في حد ذاتها، مهما كانت عظيمة، لا تؤدي بطريقة آلية إلى تطوير القصيدة، إلا أن ذلك كان مدعاة لطرح أسئلة جذرية وعميقة عن مسار القصيدة.
وقد تبلورت مجموعة من تلك الأسئلة بشكل مباشر في الخطاب النقدي المغربي الذي رافق القصيدة آنذاك، والذي أضحى يعالج قضايا الشعر بجرأة أكبر. ولعبت الملاحق الثقافية للجرائد الوطنية دورا رائدا في هذا المجال (1). ولكن الوجه البارز لتطور نقد الشعر الحديث بالمغرب كشف عن نفسه من خلال إصدار كتب نقدية منحت أهمية كبرى للقصيدة العربية الحديثة بالمغرب.
قد تبدو تلك الكتب والمقالات بمقاييس اليوم، كلاسيكية بواقعيتها الفجة وعجزها عن القبض على ناصية القصيدة من حيث هي بناء فني قبل كل شيء، ولكن «المصطلح المشترك» و»درجة الوعي في الكتابة» و»ظاهرة الشعر المعاصر بالمغرب» وما تلاها من إصدارات نقدية وخاصة كتاب الشاعر عبد الله راجع «القصيدة المغربية المعاصرة: بنية الشهادة والاستشهاد» (2)، بالإضافة إلى الأطاريح الجامعية التي تناولت الشعر المغربي بالدرس والتحليل، كل هذه الجهود مست جوهر القصيدة المغربية وإن بشكل متفاوت، وكان مجرد ظهور كتاب في الموضوع يعد حدثا أدبيا وثقافيا كبيرا.
ولإبراز الأهمية القصوى التي أصبح الوعي النقدي يحظى بها مع بداية الثمانينيات، ينبغي التوقف عند ظاهرة أخرى كان الشعر العربي قد عرفها في وقت سابق، ونعني بها ما كان يعرف بالبيانات الشعرية، التي أصبحت تعبر عن وجه من أوجه التحول الذي عرفه الشعر الحديث بالمغرب، وهي في مجملها صيغة للاحتجاج على المشهد الشعري وطرح للبدائل.
ويمكن ألقول إن أقوى بيان صدر في هذه الفترة هو «بيان الكتابة « (3) للشاعر محمد بنيس الذي ما زال إلى الآن يحظى بفاعليته كمرجع أساس لتلك اللحظة الشعرية وباستشراف نادر للتحول الذي ستعرفه القصيدة المغربية الحديثة في العقدين الأخيرين.
لا يتسع المجال هنا للحديث عن جميع القضايا التي أثارها «بيان الكتابة»ونكتفي بالإشارة إلى أنه أعاد للتنظير الشعري اعتباره بعدما ظل مغيبا أو يكاد بالمغرب، ورسم صورة بئيسة للشعر المغربي الذي»لم يستطع طوال تاريخه أن يمتلك فاعلية الإبداع، أي القدرة على تركيب نص مغاير يخترق الجاهز المغلق المستبد، إلا في حدود مساحة مغفلة إلى الآن». وأنه في السبعينيات التي عرفت فيها القصيدة العربية تحولا في الأقطار الأخر، ظل الشعر في المغرب تنويعا على العمل السياسي، تابعا له. مما عرض النص الشعري للاختزال، «ما دام الحديث السياسي قد حدد وظيفة الشعر في الجواب على السؤال السياسي، لا السؤال الشعري- التاريخي. ويطمح إلى بناء وجهة نظر تستند إلى الخصوصية المغربية التي «لا يمكن، في حال إلغائها، نشدان أي ممكن من ممكنات تحول النص الشعري في المغرب».
وهكذا فإن «بيان الكتابة» هو في عمقه محاولة لصياغة مفهوم جديد للشعر المغربي الحديث. وذلك ضمن الحركة العارمة التي كانت تجتاح القصيدة العربية الحديثة عموما، وبمراعاة الخصوصية المغربية التي حتمتها الظروف السوسيو ثقافية التي لعبت دورا حاسما في صياغة السؤال الثقافي بالمغرب.
إن هذه المحاولات النقدية على اختلاف صيغها وتنوع رؤاها شكلت في واقع الأمر وجها من أوجه التحول الثقافي الذي أحدث رجة على مستوى المفاهيم والتصورات، ولا يمكن أن نتصور حجم ذلك التحول إلا إذا استحضرنا كم هي ماسة حاجة الإنسان إلى قضية يكتب عنها ويصارع من أجلها.
ليس مهما أن نكون اشتراكيين أو عدميين أو طوباويين، ولكن ما جرى في السبعينيات والثمانينيات بالمغرب، من قتل لرموز كبيرة لم ينع الأمل في استقلال حقيقي فحسب ولكنه بالإضافة إلى ذلك أخرس أصواتا إبداعية، كانت واعدة. (4)
ومن المفارقات التي تشد الانتباه أنه على الرغم من جسامة الأحداث التي عرفتها المرحلة، فإن أغلب شعراء الثمانينيات واجهوا الكتابة الشعرية بعراء إيديولوجي وبلا انتماء إلا للشعر. فلم يترعرعوا في كنف أفكار ماركس وماو، وربما لم يقرأوا كرامشي وسمير أمين، ومع ذلك يبدون في شعرهم مشاكسين لدرجة يعن لقارئ قصائدهم للوهلة الأولى أنهم لا يحسون بفداحة ما حولهم.
ليس لهم أساتذة داخل الحقل الشعري المغربي، فهم يكتبون وكأنهم يجدون في قتل الأب إثباتا للذات، مع أننا لا نعدم في أعمال بعضهم أثرا لأقدام محمود درويش أو أدونيس. أما الشعراء المغاربة السابقون فلا أثر لهم كمرجع للكتابة الشعرية لديهم.
ماذا يمثل هؤلاء الشعراء داخل المشهد الشعري المغربي؟ من الصعب الإحاطة بكل منعرجات هذا السؤال في ظل غياب دراسات شاملة عن «شعراء الثمانينيات»، خاصة أن أغلبهم ما زال يمارس الكتابة الشعرية إلى الآن. ومع ذلك يمكن أن أجازف بالمصادرة على المطلوب ، فأقول إن هؤلاء الشعراء لعبوا دورا حاسما في حداثة القصيدة المغربية.
لنسجل أولا أن عقد الثمانينيات حقق تراكما شعريا كميا كبيرا على مستوى الإنتاج الشعري. وحسب دراسة بيبلوغرافية أنجزها حسن الوزاني فإن الفترة الممتدة من 1980 إلى 1989عرفت صدور 141 عنوانا شعريا مقابل 71 في عقد السبعينيات، واحتلت الإصدارات الشعرية أكثر من 45 في المائة من مجموع الأعمال الأدبية الصادرة خلال الثمانينيات، التي ارتفع فيها عدد الشعراء من 57 شاعرا إلى 95.
من المؤكد أن هذا التطور الكمي أنتج في الثمانينيات حالة التباس كبيرة حول ماهية الشعر ووظيفته وجدواه. ومرد ذلك في المقام الأول إلى أن تيسير عملية النشر أدى إلى ظاهرة جديدة لم تكن معروفة على نطاق واسع، تتمثل في أن الشاعر نفسه هو من يتكفل بطبع وتوزيع مجموعته الشعرية. وهذه الظاهرة وإن وسعت من مقروئية القصيدة وانتزعت احتكار ترويج الكتاب الشعري من دور النشر التي كانت تتردد ألف مرة قبل أن تقبل على طبع ديوان شعري، إلا أنها سمحت بظهور أعمال لا ترقى إلى مستوى الخطاب الشعري.
أما عمق الظاهرة فيمتد إلى طبيعة الكتابة الشعرية نفسها، ذلك أن قلق الأسئلة الذي أفرزته المرحلة أفضى إلى هيمنة قصيدة النثر على أنماط الكتابة الشعرية الأخرى. ويمكن الجزم بأن الشعراء المغاربة لم يمارسوا كتابة قصيدة النثر بشكل واع بركائز هذا النمط من الكتابة الشعرية إلا مع بداية الثمانينيات. هذا على الرغم من أن بعض الشعراء العرب كانوا قد كتبوا قصيدة النثر منذ أواخر الخمسينيات (5). هل يمكن رد هذا التأخر في اكتشاف قصيدة النثر إلى الطبيعة المحافظة للثقافة المغربية، كما يذهب إلى ذلك الشاعر محمد السرغيني في أحد حواراته؟ (6)
لا شك أن قصيدة النثر قد جسدت، في جميع الحالات، مخرجا للأفق المسدود الذي وصلت إليه التجربة الكاليغرافية التي التأم حولها شعراء عدد من الشعراء في أواسط السبعينيات، الذين وجدوا في التركيز على البعد البصري في الشعر أداة تخفف عن القصيدة عبء «الالتزام» والواقعية».
وهذا ما يفسر أن أحد أبرز الشعراء الكاليغرافيين، وهو الشاعر محمد بنيس كان من أوائل من كتبوا قصيدة النثر بالمغرب، وهي قصيدة معروفة ومتداولة نشرت في بداية الثمانينيات بمجلة «الكرمل» الفلسطينية (7). وفي المقابل فإن شاعرا آخر ممن مارسوا كتابة القصيدة الكاليغرافية وانتموا إلى تجربتها وهو الشاعر عبد الله راجع ، وقف موقفا سلبيا من قصيدة النثر وكاد يخرجها من دائرة الشعر (8).
وعلى الرغم من هذا التعارض في الموقف من قصيدة النثر، إلا أنها على عكس ما حدث في المشرق العربي، لم تثر نقاشا ساخنا بين المهتمين بالشعر المغربي. ولعل السبب قي ذلك يرجع إلى أن النقاد والشعراء المغاربة كانوا على اطلاع كامل على جوهر السجال الذي أثارته القصيدة في لبنان والعراق ومصر. ومن هنا تم استقبال قصيدة النثر بالمغرب، بطريقة توحي بأن الساحة الشعرية المغربية كانت تنتظرها، وكأنها قدر القصيدة العربية.
وهكذا أصبحت القصيدة المغربية في الثمانينيات مطبوعة بالتعدد والتعايش بين قصيدة النثر والقصيدة الحديثة الموزونة وبقايا القصيدة العمودية.
وإذا كان هذا التعدد يعود بالخصوص إلى أن قصيدة النثر أصبحت تفرض نفسها كنص مفتوح بعدما تخلصت من سلطة التنظير التي مارستها سوزان برنار على الشعر العربي من خلال أدونيس وأنسي الحاج، فإن الانحياز إلى هذا النمط من الكتابة لا يفصح في حد ذاته عن أية خصوصية تميز القصيدة المغربية. إن هذا الهاجس سيعبر عن نفسه من خلال ما يمكن أن نسميه فضاء القصيدة، عن طريق الحرص على ذكر الأمكنة والرجالات والطقوس الصوفية والاجتماعية المحلية. ومن هذه الزاوية فإن القصيدة المغربية الحديثة في الثمانينيات أفرزت اختيارين شعريين كبيرين:
- اختيار أفقي يقوم على رصد التفاصيل اليومية، وعلى قوة المشاهدة، والصور التلقائية. وهو طريق رسمه عدد من الشعراء لأنفسهم خارج الشعر العالم. ولا داعي إلى التذكير بأن البساطة التي يقوم عليها هذا النوع من الشعر هي بساطة خادعة إذ سرعان ما تفصح لغتها السهلة عن عوالم معقدة تروى من معين الفلسفات العالمية الكبرى.
- واختيار عمودي يرقى بالقصيدة إلى ملكوت الرؤيا ويوظف من أجل ذلك كل التجارب الرؤيوية، التي تعتبر الظاهر مدخلا للباطن. ولا شك أن هذا النزوع نحو اعتبار القصيدة تجربة خاصة وفردية، تكتسي بعدا وجوديا، سيدفع إلى توظيف التراث والتراث الصوفي خاصة .
إن هذا التنميط الذي يتسم بالتعميم لا يلغي التنوع الذي يسود داخل كل اختيار، مما يسمح للمتبع على سبيل المثال بالوقوف عند الشعر الذي كتبته نساء. وعلى الرغم من التحرز الذي ينبغي أن نتعامل به مع مفهوم « الشعر النسائي»، وبالنظر إلى أن كل مقاربة مبنية على النوع لا تسعف في القبض على شعرية القصيدة، إلا أن المتتبع لما أنتج من مجموعات شعرية في الثمانينيات ليس بوسعه تجنب الأسئلة الملحة التي يطرحها الشعر الذي كتبته شاعرات.
ومن هذه الزاوية تجدر الإشارة إلى الازدياد المطرد في عدد الشاعرات بالمغرب خلال هذه الفترة بالمقارنة بالفترة التي سبقت. وهو أمر لا يتعلق بتطور كمي فحسب، بل إنه يعكس ملامح ظاهرة شعرية ما زالت بحاجة إلى مزيد من التبلور على مستوى الخطاب النقدي. ومن الأمثلة المتداولة في هذا السياق هيمنة تيمة الجسد على شعر الشاعرات المغربيات خلال هذا العقد.
إن هذا التنوع بملامحه الكبرى التي تمت الإشارة إليها في الرؤى الشعرية، جعل القصيدة المغربية الحديثة في الثمانينيات بحثا متواصلا عن أفق شعري ينهض بالقصيدة ويقترحها دالة على ما يمكن أن نسميه تجربة الكتابة. وهي تجربة أحدثت رجة في المشهد الشعري بناء على استراتيجية تقوم على التمرد الواعي الذي يستحضر تجارب عربية وغربية دون أن يعيد إنتاجها. ومن هنا نفهم حجم الاختراق الذي حققته التجارب الشعرية، والذي أدى إلى خلق مسافة بين شعراء الثمانينيات ومن سبقهم من جانب وبين شعراء الثمانينيات أنفسهم من جانب آخر. وبما أن الحيز لا يتسع للوقوف عند كل تجربة على حدة، فإن هذه المحاولة تكتفي بالإشارة إلى المظاهر العامة للقصيدة المغربية.
وأول ما يلفت الانتباه بهذا الخصوص أن القصيدة المغربية في الثمانينيات استطاعت أن تبني إيقاعها الخاص خارج نظام التفعيلة بصيغه التقليدية، وخارج الأبنية الصوتية للكلمات والجمل. إنه إيقاع يتلمس محاصرة اللحظة الشعرية بنوع من التساوق بين ما يسمى الإيقاع الخارجي والإيقاع النفسي الذي يتحقق بتواتر الصور الشعرية وفق ما يسميه بعض الدارسين الفاعلية النفسية. من هنا فإن القصيدة الثمانينية كتبت لتقرأ ولم تكتب لتنشد.
ولعل هذا المكون الأساس من مكونات شعرية القصيدة في الثمانينيات هو ما جعل الشعراء يعملون على تعميق البعد البصري للكتابة الشعرية (9)، وهم بذلك يستغلون الأفق الرحب الذي دشنته التجربة الكاليكرافية، ولكن بما يجعل البصري يخدم المستويات الأخرى ويتناغم معها.
ولا شك أن ما يمنح ذلك التناغم وجوده هو اللغة الشعرية التي تعد الوجه البارز لهوية القصيدة. ومع أننا لا نعدم من ظل مشدودا إلى التركيز على شعرية الكلمة وإيقاعها، إلا أن أغلب شعراء الثمانينيات اشتغلوا على اللغة من منطلق مغاير تستمد فيه الكلمة شعريتها من سياقها داخل الجملة. وهو ما يمنح الصورة دورا حاسما في بناء القصيدة العضوي عبر تانسل الصور وباستخدام مفرط في بعض الأحيان لعنصر السرد، جعل المسافة تتقلص بين النص الشعري والأنواع الأدبية الأخرى.
---
هوامش
1 - شكل الملحقان الثقافيان لجريدتي «الاتحاد الاشتراكي» و»العلم» في هذه الفترة سلطة مرجعية في الأدب المغربي عامة، والشعر منه بصفة خاصة.
2 - الأعمال التي أنجزت عن الشعر المغربي الحديث قليلة جدا بالنظر إلى الأهمية التي يحتلها في المشهد الثقافي المغربي. وإذا استثنينا المقالات التي تنشر في الملاحق الثقافية، والدراسات التي تصدر في المجلات والدوريات فإن عدد الكتب التي كرست لدراسة الشعر المغربي الحديث قليل، وتعتبر دراسة محمد بنيس وعبد الله راجع أهم ما أنجز في هذا الإطار إبان عقد الثمانينيات . راجع للأول: «ظاهرة الشعر العربي المعاصر بالمغرب»، دار العودة، الطبعة الأولى، بيروت 1979. وللثاني: «القصيدة المغربية المعاصرة، بنية الشهادة والاستشهاد»، منشورات عيون، الطبعة الأولى، الدار البيضاء 1987.
3 - مجلة «الثقافة الجديدة» العدد 19 سنة 1981، وقد أعيد نشر البيان ضمن كتاب محمد بنيس «حداثة السؤال» الصادر عن دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت 1985.
4 - أمثال عبد الإله كنون ومحمد على الهواري وغيرهما.
5 - من المعلوم أن قصيدة النثر في الأدب العربي قد ترسخت كنوع أدبي منذ النصف الثاني من عقد الخمسينيات حيث احتضنت جماعة «شعر» البيروتية هذا الوليد الجديد الذي بشر به أنسي الحاج ومحمد الماغوط وأخرون.
6 - يراجع الحوار الذي أجراه معه حسن مخافي في جريدة «الاتحاد الاشتراكي» العدد 6232 والعدد 6233 يومي فاتح وثاني شتنبر 2000.
7 الإشارة إلى قصيدة «موسم الواقعة». أنظر مجلة الكرمل، العدد 9 سنة 1983 ، ص 236 وما بعدها.
8 عبد الله راجع: القصيدة المغربية، بنية الشهادة والاستشهاد. مقدمة الجزء الأول. منشورات عيون المقالات. الطبعة الأولى. الدار البيضاء 1988.
9 بلغت العلاقة بين الشعر والتشكيل أوجها في «الرياح البنية» وهو كتاب مشترك أنجزه الشاعر حسن نجمي والفنان التشكيلي محمد القاسمي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.