للمسائية العربية د. عبدالحق عزوزي / أكاديمي مغربي شاركت الأسبوع الماضي في منتدى دولي قيّم عن آفاق العلاقات المستقبلية بين العالم العربي وأميركا اللاتينية نظم في أبوظبي تحت رعاية كل من معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان، وزير التعليم العالي والبحث العلمي، الرئيس الأعلى لجامعة الإمارات العربية المتحدة، والدكتور ليونيل إنتونيو فيرنانديز ريانا، الرئيس السابق لدولة الدومينيكان، وبدعوة كريمة من الدكتور علي النعيمي مدير جامعة الإمارات... وقد أحسست بنوع من القرب الجغرافي لأميركا اللاتينية على رغم بعدها عن المغرب الأقصى، لعوامل حضارية ولغوية، وأعني بذلك تواجد المستعمرة إسبانيا ولعقود في أميركا اللاتينية وما تركته هناك من بصمات متوسطية وأندلسية لا توصف. ثم لقرب إسبانيا من المغرب والتمازج التاريخي والحضاري بين الدولتين.. وقد ألقيت محاضرة تمهيدية في الجلسة الأخيرة المخصصة للتعاون التعليمي والثقافي، ذكّرت فيها بالمعطيات التالية: إن هذه الجلسة في المنتدى أفضل من الجلسة المخصصة للاقتصاد... لأن التعليم والثقافة وتبادل الخبرات ونقل التكنولوجيا والتجارب هي مفتاح التقدم والتنمية المستدامة، والتي من خلالها وحدها يمكن تحقيق اقتصاد متمكن وتبادل دائم... إنها الاستثمار في المعرفة التي هي معيار الرقي الإنساني، فالزمن الراهن هو ساحة المعركة والمعرفة هي السلاح الخالد، فالاستثمار في المعرفة هو استثمار في العامل البشري وهو جوهر التنمية الإنسانية التي هي بدورها نزوع دائم لترقية الحالة الإنسانية للبشر جماعات وأفراداً. إن الحضارات لا تتحاور فيما بينها وإنما ممثلو تلكم الحضارات هم الذين يتحاورون فيما بينهم، وبإمكانهم تجذير لبنات الأسرة الإنسانية الواحدة... وأفضل لبنة يمكن البدء منها هي قضايا البحث العلمي وتبادل الخبرات أينما كانت، أي الاستثمار المتبادل في الخلايا الرمادية، فالبشر وحدهم هم صانعو المعرفة، ويكفي الرجوع إلى معظم التقارير العالمية الجادة وعلى رأسها تقرير التنمية الإنسانية لسنة 2003 لتبيان ذلك، فلقد بات مستقراً أن المعرفة عنصر جوهري من عناصر الإنتاج، ومحدد أساسي للإنتاجية، بمعنى أن هناك تضافراً قوياً بين اكتساب المعرفة والقدرة الإنتاجية للمجتمع، ويزداد هذا التضامن قوة في النشاطات الإنتاجية عالية القيمة المضافة التي تقوم وبدرجات متزايدة، على كثافة المعرفة، والتقدم المتسارع للمعارف والقدرات.. (وهذه كانت من أهم الخلاصات التي خرجنا بها في منتدى فاس الأخير). والحال أن حظ مجتمعات أميركا اللاتينية والعالم العربي من التعاون المشترك في هذه المجالات ممكن خاصة إذا استعمل الإرث التاريخي الأندلسي والإسباني في أميركا اللاتينية... واستحضرت بعض الأسماء اللاتينية ذات الأصول العربية كالرئيس الأرجنتيني كارلوس منعم وإكواتوريان عبدالله بوكرام، وجميل ماهواد، دون أن ننسى الكاتبين المشهورين رضوان نصار وميلتون هاتوم وهما من خيرة الكتاب اللاتينيين والعالميين... واستحضرت في تدخلي ملك الاتصالات المكسيكي كارلوس سليم والبرازيلي كارلوس غصن مدير عام شركة «رينو» الفرنسية... وفوق ذلك أن التواجد العربي الإسلامي في العالم الأيبيري سبعة قرون ترك بصمات لغوية وفنية بل حتى بصمة في مجال الطبخ... وأكثر من 4000 كلمة إسبانية وبرتغالية أتت من هذا الإرث الحضاري العربي... وإذن فإن هناك تلاحماً لغوياً وإرثاً حضارياً وثقافياً بإمكانه أن يعطي للتعاون التعليمي والثقافي مغزى. وأول قمة نظمت بين المجموعتين كانت من مبادرة برازيلية، حيث كان الرئيس البرازيلي يسعى إلى خلق تكتل اقتصادي بين دول الجنوب في إطار من التعاون جنوب- جنوب، ولا ننسى أيضاً أنه كان يغازل الدول العربية ليحصل على مقعد دائم داخل مجلس الأمن الدولي في الأممالمتحدة... وكانت القمة الثانية في الدوحة سنة 2009.. وبقيت المقترحات دون نتائج ملموسة... وقد ذكرت بهذه الوقائع وبالاتحاد من أجل المتوسط الذي يجمع 43 دولة بما فيها كل الدول الأوروبية ودول الجنوب المطلة على الفضاء المتوسطي، وأول قمة عقدت كانت في يونيو عام 2008، والبرنامج كان طموحاً جداً، ولا يزال، إلا أن العوائق السياسية بما فيها مشكل الاحتلال الإسرائيلي تحول دون تحقيق أي تقدم... ولكن على الأقل خرجنا بمشروع الجامعة الأورومتوسطية التي سيكون مقرها بمدينة فاس... وهذا هو المطلوب: مشاريع في مثل هذا المستوى. ويتطلب ذلك أيضاً رغبة سياسية وتتبعاً من المعنيين في المجتمعات المدنية... وأخالف ما جاء به رئيس الدومينيكان السابق في المنتدى من أننا نمثل فقط المجتمعات المدنية ويصعب الخروج بتوصيات يكون لها بُعد لا يمكن أن تأخذه إلا الدول... والتعاون بين المجموعتين الدول/ المجتمعات المدنية ضرورة وهي الوحيدة التي بإمكانها أن تجعل مشاريع متعلقة بالتربية والتعليم والبحث العلمي تخرج إلى الوجود، والجامعة الأورومتوسطية التي ستضم عند فتح أبوابها أكثر من 3000 طالب ليصل العدد فيما بعد إلى 20 ألف طالب من ضفتي المتوسط ومن أفريقيا والعالم العربي أكبر مثال على ذلك... ونقلت في الختام من المغرب الأقصى إلى المدينة الخليجية التي أحبها أبوظبي، والتي آوت متخذي القرار والخبرة من كل دول أميركا اللاتينية، سماحة مدينة فاس عندما آوت مختلف المهاجرين والمتطلعين للعلم والمعرفة، ولذلك أصبحت فاس مدينة تعج بالعلم والعلماء وفيها أعرق جامعة في العالم هي جامعة القرويين... وقد ظلت فاس أيضاً مدينة تسامح ديني وقد ظهر ذلك عندما آوت في قرون خلت المئات من العائلات بمختلف أديانها ليصبحوا مواطنين يتمتعون بكامل حقوقهم في المدينة. وقد ذكرتهم بهذه السماحة لأقول بأن القواسم المشتركة موجودة ويجب تطعيمها الآن بأولويات المرحلة: التربية والتعليم وتنمية المجتمع. عن جريدة الإتحاد الإماراتية، بتاريخ 25 ديسمبر 2012