عندما كنت أعد هذا الملف حول الخبز، كنت أعي «مخاطر» البحث في هذا «الموضوع»، فكل حديث عن الخبز يؤدي إلى الثقافة، وكل «تناول» للخبز يؤدي إلى السياسة، وكل وجبة حديث سياسية هي إشارة ب»البنان» إلى علاقة السلطة بالخبز. وحينما عدت إلى كتب التاريخ وإلى تاريخ المغرب على وجه الخصوص، وجدت أن قدسية الخبز المغربي ارتبطت بهذا التلازم القوي، في إطار الصراع بين الحاكم والمحكوم، وبين الراعي والرعية وبين «السيد والعبد»، كما ارتبطت أيضا بتاريخ طويل من الأوبئة والمجاعات التي مسحت قبائل أو تسببت في هجرات أو جعلت المغرب الجغرافي يتغير، يتمدد ويضيق، ويتسع ويتقعر، كما جعل سلطة المخزن تطفح حتى موريتانيا وحوض السينغال ونهر النيجر، أو تنحسر حتى لا تكاد تطل من كوى أسوار فاس والرباط ومراكش. وحين نعود إلى مدونة المحكي والشعر الشفوي المغربي نجد هذا «التأريخ» البليغ لتلك «الحوادث» التي هزت عرش الطمأنينة المغربية. وفي كلام الشيخ عبد الرحمان المجذوب ما يعضد هذا حينما يقول بحكمته الثاقبة المسافرة في الزمن «الخبز يا الخبز / لوما كان الخبز ما يكون لا دين ولا عبادة»، وتلك حكمة تختصر علاقة المغاربة بالخبز، وكيف يتحولون إلى شعب صعب المراس في ظل الأزمة الاجتماعية وغياب العدالة والغلاء، حتى ليكون الحصول على شفير خبز أشق من الحصول على قيراط ذهب. والتاريخ دول، وها قد رأينا بأم أعيننا وبسواعدنا الفتية كيف عتل المغاربة الأرض تعتيلا في الأربعينات من القرن الماضي بحثا عن «خزائن» مطمورة، وكيف اتسع صدر المطبخ المغربي، حيث دخلت إليه أكلات ووجبات من النيئ والمطبوخ في كتاب «الحاجة أم الاختراع». ثم رأينا كيف أن المغاربة الذين عتلوا الأرض خرجوا في مظاهرات الكرامة في 81 و84 من أجل الخبز وحده، ضدا على السياسات الفاسدة التي جعلت من كسرة خبز أم المطالب في أزمنة الانحطاط. الخبز هو المطلب الديمقراطي الأول، لا تساوي حرية التعبير شيئا وبطون الناس تصفر فيها الريح، إنهم لن ينصتوا حتى لأشد الخطابات «دسما» وحماسة. وقديما قال الشاعر الحطيئة لأمير العدل عمر بن الخطاب: «ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ /زغب الحواصل لا ماء ولا شجر/أسكنت عائلهم في قعر مظلمة / فاصفح عليك سلام الله يا عمر». لقد كان الحطيئة يعلم علم اليقين أن لا عدالة يمكن أن تعوض أبا محروما من إطعام أولاده الصغار، مهما كان الجرم الذي اقترفه، لذلك توجه إلى عمر بن الخطاب بتلك الجراءة الكبيرة. نتيجة مظاهرات الخبز في المغرب أننا أصبحنا شعب «كوميرة» في قدحية أطلقها أعوان السلطة على حركات اجتماعية خرجت إلى الشارع من أجل المطالبة بحق أبنائها في الخبز الصريح الصحيح وفي الدقيق «الخالص» النقي وفي الشغل وفي الحياة الكريمة جمعا وفصلا وطردا وعكسا. هل قطعنا مع هذا التاريخ الاحتجاجي؟ لا أعتقد، إننا لا نزال في صلبه ونمشي في الطريق الطويل ل»كوميرة» نظيفة وكريمة ومن عرق الجبين. كلام كثير يمكن أن نقوله في هذا الباب، ولعلماء السياسة والاجتماع ومحللي الظواهر الاجتماعية أن يقفوا بتؤدة على المغرب الجغرافي الجديد، كيف يتكدس في مدار الدارالبيضاء والجديدة والرباط والقنيطرة بحثا عن الخبز، كيف نزحف بكل تعقيدات حياتنا في هذا المربع الضيق، نتصارع ونحتج وننهش بعضنا أحيانا وتنزل علينا عصا السلطة من أجل أن تردنا إلى «الرشد». وبين هذا وذاك خبز كثير يسيح في الطرقات، خبز بألف لوعة ومليون حكاية، فلولا الخبز ما كانت لا صلاة ولا عبادة.