من الأشياء التى سحقوا بها جماجمنا بين جدران، فصولهم الدراسية، التأكيد على أن المغرب بلد فلاحي بامتياز. يتوفر، على أهم احتياطى للمياه الجوفية بشمال إفريقيا. سمعنا، عن سياسة التويزة وسقى المليون هكتار، وأننا سلة غذائية حتى لإخواننا العرب أصحاب الصحارى البترولية. ما أتذكره أيضا، من بعض لحظات صفاء سمرنا الطفولي تحت أضواء القمر، تلك القسمة المجحفة، التي تشير على بلدنا بقوافل ما لذ وطاب من الخضر والفواكه...، مقابل ذبابة واحدة على أبعد تقدير، لتجهيز عتادنا العسكري. كما تضمن مئات كيلومترات البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، توازننا الغذائي من لحوم السمك، وبنية تحتية ثمينة لكى نصنع باستمرار أبطالا دوليين فى السباحة وجل الرياضات المائية، قصد التنافس بقوة مع الآخرين على التتويج العالمي... . بعد انتهاء، كرنفالات القنب الهندي وتشظى حزمة الديماغوجيات التى تنخر الأدمغة كالسوس، اكتشفنا أنفسنا بدون هذا أو ذاك، فقط مجموعة إنسانية شاحبة، مصفرة، وبسحنة مكفهرة، جراء حروب الإجهاز المتغولة، على حقنا فى السعرات الحرارية، حيث أضحت أجسادنا قشرة متعبة، جوفاء. نستحضر أساطير عدة، عن أنطولوجيا الخبز بالمغرب: أول قطرات الحليب التى ارتشفناها من أثداء أمهاتنا، ربطت توفر الواحد منا على خزينة معلومة للخبز، بمدى القدرة على الخروج غانما بشيء من سنوات المدرسة. يلتصق، مطلق المشروع الوجودي والمجتمعي للفرد، بخبزة ممتلئة، طرية. اختزلت الأمثال الشعبية ماهيات العالم وممكناته، فى صنيع الخبزة- السحر. وقد تمحورت أغلب سياقات وصايا جداتنا، ثناء على فلتات الآدميين، الناجين من أنياب الحياة : "لقد أعطاه "ها" الله خبزة وأى خبزة!!..." حيث الخبزة كناية عن مكسب اجتماعى مهم. وقد صاغه أحدهم منذ زمان، بحدى بداهة، فقدت آنيا، أبسط مدلولاتها الواقعية : ""من تعلم قد يملك الخبز، ومن امتلك الخبز بإمكانه التعلم". أما مستوى النقاش السياسي، والأفق الإيديولوجى لخطاب القوى النضالية، فقد اصطبغ بتوصيفات عديدة، بناء على مضمون الحيز الزمكاني، والسوسيو سياسي، الذى يرسمه مفهوم الخبزة داخل الصراع السياسي. انكفاء، ميزان القوى سواء جهة الأحزاب والهيئات السياسية المناضلة أو لصالح تحالف المخزن. هكذا، يتأرجحنا : النضال السياسي ؛ النضال الحزبي، النضال الخبزي، النقابية السياسية، النقابية الخبزية الضيقة، المناضل التاريخي، المواطن الخبزي، إلى غير ذلك من اجتهادات أدبيات السياسة. لا شك، أن تفاعلات الشارع السياسى المغربي، وانتفاضاته الموسمية ضد حكامه، ظلت فى حقيقة الأمر موصولة بدوافع محض خبزية. بمعنى، حينما يغدو اليومى أكثر حجيمية. فى حين، لم يكن للنقاش السياسى العميق صدى أبعد مما يتردد داخل أقبية ودهاليز القلة القليلة من النخبة. لقد سقط أغلب شهداء الشعب، فى ساحة الوغى دفاعا عن حقوقهم الحياتية البسيطة والأولية. لم يخرجوا تجذيرا لثورة المفاهيم بالمنحى الإبستمولوجى للكلمة ولا استبابا لثقافة حروب التحرير الشعبية. لكن أشهر، رواية تاريخية عن هذا الصراع السيزيفى مع الخبز، تحيلنا على تلك السخرية الدنيئة لوزير الداخلية الحديدى السابق، إدريس البصري، شامتا من ضحايا انتفاضة الدارالبيضاء 1981، جراء الغلاء، قاذفا إياهم ب "شهداء الكوميرة !!!". والكوميرة، فى التداول العامي المغربي تسمية أخرى للخبز، وأهم قوت للفقراء كيف إذن يحدد الجوع والشبع، ميكانيزمات الحقل السياسي في بلد كالمغرب؟ حتما مستويات التأويل يتداخل فيها الذاتى بالموضوعي، وكذا تاريخية السياق السياسي، انسجاما مع الطبيعة المحددة لعلاقة الفرد بالدولة وأجهزتها الإيديولوجية. ثم درجات المواطنة، التى تأتت نتيجة التربية السياسية. تندرج فى هذا الإطار مسألتان أساسيتان، تتعلق الأولى بالمسار الشمولي، الكليانى للدولة /الدرك، ونوعية تدبيرها السياسي الممركز للسلط فى يد شخص واحد تدعمه أقلية أوليغارشية، وما يستتبع ذلك من انتفاء لعدالة اقتصادية فعلية، تخول توزيعا قاعديا لموارد البلاد، يحافظ حتما على الأوجه السليمة للبنات النسيج المجتمعي. وبالطبع، تروم ثنائية الجوع والشبع عن الاختزال الغرائزي البهيمي، لكى ترسم بكل شموخ وعنفوان، دلالاتها الإيتيقية الأصلية والأولية. مع تجنبنا، لكل سقوط بين براثين الخطاب الشعبوي الأرعن، نقول بأن الإنسان أسمى بكثير مع كونه قضية بطن. لكن فى المقابل أيضا، لا يختلف إثنان على أن المجتمع الذي ينتج وينمى الجوع، هو مجتمع ميت بكل المقاييس. بقيت شرور ونعم الجوع والشبع فى المغرب، محكومة بتأسيسات ميتافيزيقية وتيولوجية مغلوطة، ثم ذلك التوظيف السياسى الممنهج من قبل الدولة والقوى الوطنية. فالجوع والشبع مرة كسوة إلهية، حتى ولو كان صاحبنا أحد أهم رموز البطش ببنى البشر. فى نفس الآن، تصب السماوات شتى لعناتها إذا بقى أحدهم عازفا عن الانمساخ إلى طيف رقمي. فى الإطار نفسه، استثمر المخزن دائما الميتافيزيقا، لاستبدال جلده. يدحض خطاب معارضيه، ويبرر عجزه وفشله عن الإقلاع بالبلاد اقتصاديا واجتماعيا. لذلك، يحول الجوع إلى رغبة إلهية كما أنه امتياز أرضى للباحثين عن الفردوس الأخروي. ليست قضية الجوع عندنا، بموضة ظرفية، أو رجة إعلامية متأثرة بخلخلة اقتصادية ما غير محسوبة، كما يوهمنا الخطاب الرسمي بذلك، بل هو استراتيجية أولية للدولة المغربية يعود الأمر بنيويا إلى ذاته : ونحن نستحضر المبدأ الأساسي الذى راكم باستمرار الثروات الفاحشة عند دوائر الحكم، يوازيه استفحال متزايد للفقر إلى ما وراء الخطوط الحمراء بين فئة الجماهير الواسعة. احتضان المخزن لكبار الفلاحين الأغنياء، وتمكينهم وحدهم من أخصب الأراضي وأجودها، على حساب صغار الفلاحين الذين يتحولون فى كل الأحوال إلى أجراء مياومين وعبيد فى ضيعات هؤلاء، نظرا لغياب أى توجه وطني بخصوص نوعية العلاقة التي تقود المغاربة حقا نحو تحقيق اكتفائهم الذاتى من قمح وحبوب، ومنتوجات زراعية وحيوانية. التركيز على الفلاحة التسويقية المتجهة بشكل كبير إلى التصدير، حيث يحتكر بنيتها الإنتاجية والاستغلالية، حفنة من العائلات الإقطاعية.. أقول كيفما كانت أوجه المسألة، فالأمر لا يختلف على أن الجفاف والعجز يسكنان أصلا أمخاخ ودواخل الذوات البشرية القابضة على أقدارنا ومصائرنا، قبل أن تلقى الجغرافية بميزة ماأو تلك. أبسط قواعد التعريف المدنية، تحتفي بسيادة الإنسان على اختياراته. لو امتلكنا حقا الحس الوطني، وابتغينا لأنفسنا العزة والحياة، لكان علماؤنا الآن مثلا بصدد التفكير في أقصى مساحة ممكنة لصواريخ محلية الصنع، عوض أن يتخلص منا الزمان لقبيلة الناطحة والمتردية، حيث نتباهى بالكاد وياللمفارقة! انتفاخا بقصائد الأرض الخراب من مجارى وأزبال ومراحيض وقاذورات ... . هل أتتكم أيها الغرباء، ملحمة السياسة عندنا! بطيخ وبصل وزعفران... ثم مسح سديمى للأدمغة، وفوق ذلك عشر دولارات أترون كرما حاتميا من فارس السياسة للمنبطحين على بطونهم.. للمرة المليون، لا نعيش لكي نأكل. لكن من افتقد السعرات الحرارية الكافية، اختل توازنه واعتراه الخبل. كان الأجدر بنا اليوم، الدفاع عن حقنا الطبيعي في تلك الإنسانية التي تنخر عباب المفاهيم بالحديد والنار ومالها من قوة. لكن، الشاهد يشي فقط بمطلق سيئات ما نحن عليه. إننا قوم، انتهى أبد الدهر إلى سكينة ما تحت الحزام. تحيا الحكومة! أو إلى غياهب الجحيم دون رجعة! نشرئب، إلى حيث ذلك بمسحة أكثر من فذلكة الخبز، وصخب المطابخ، نستحيي؟! كيف لا نصرخ إذن، ملء ما تبقى لنا من الأزقة؟ كيف بنا لواقع يشتعل جمالا وعقلا، ولم لا شعرية للخبز؟! عن العربي أونلاين