عبثا حاولت أن أغمض عيناي وأتناوم. وبلا جدوى أعييت جنباي من كثرة التلوي في الفراش محاولا الهرب من ذلك الصخب. عقارب الساعة تشير إلى الواحدة والصرف وعيناي لم يغمض لهما جفن. وكَّلت الله على هؤلاء الجيران. حرّموا علينا النوم بالليل وبالنهار. تحت نافذتي مباشرة كانت فرقة من بنات الدرب يخبطن بكل ما أوتين من قوة طعارجهن وبناديرهن خبط عشواء، ويصحن بأصوات عالية لا أميز منها غير جملة واحدة يرددنها كثيرا: «هذا عيشور ما علينا الحكام ألالة.. في عيد الميلود كيحكمو الرجال ألالة..». أغلقت النافذة بإحكام، وغطيت رأسي ببطانية غليظة، ومع ذلك استمرت أذناي في التقاط تلك الأصوات المزعجة، وكلما غفوت أيقظني دويّ انفجار قنبلة أو صاروخ، متبوعا بصراخ الفتيات في الزقاق هلعا وخوفا.. يلي ذلك كله وابل من الشتائم وألوان مزركشة من «السبّان» و«المعيور». صياحهن وشتائمهن المزعجة تأتي مصحوبة برائحة احتراق «كواتشو»، رائحة منفرة لا طاقة لبشر على شمها. عند رأس الزقاق الضيق كانت جماعة من الصبيان قد أوقدوا النار في إطار عجلة وشرعوا يقفزون حولها ويتراشقون بإطلاق الصواريخ وفرقعة المتفجرات على بعضهم البعض. قنابل وصواريخ وطعارج وبنادر حرمت علينا التنعم بالراحة هذه الأيام. لم ينفعني في النهاية غير قطعة قطن حشوتها في كلتا أذناي بغية وضع حد لتلك الأصوات. شتان ما بين الأمس واليوم! عندما كنا أطفالا كنا أكثر تأدبا من هؤلاء. نحن أيضا كنا نشعل النيران ونقفز حولها ونفجر المفرقعات، لكن بعيدا عن الحي، حتى لا نزعج الناس. جيلنا كان مسالما، لم يكن يعرف قنابل «الزيدانية» و«السيغار» و«البوكيمون» و«الطيارة» و«النجوم»... الأولاد في عاشوراء كانوا يسعدون بألعاب بسيطة يصنعونها بأياديهم ولا يستوردونها من «الشينوا» كما اليوم. كنا نصنع من علب السردين شاحنات وسيارات نجعل لها أربع عجلات من «بوشونات» القناني ونجرها بالحبال.. وكنا نبدع في صنع المراوح باستعمال أغصان بعض النباتات. وكنا نتسابق في ما بيننا بالأحصنة الخشبية ونجوب سهول الدوار وجباله كلها ركضا ونحن نتخيل أننا نمتطي صهوة حصان... أما البنات فكن يبدعن في صنع الدمى من عظام الدجاج أو القصب، ويلبسنها لباسا محتشما ويمنحنها أفضل الأسماء، وتتفنن كل واحدة منهن في تزيين «عروستها» كما تشاء. وكان «عيشور» في ذلك الوقت مناسبة تضامنية بين مختلف الشرائح، لارتباطها بموسم إخراج الأغنياء للزكاة وتوزيعها على الفقراء والمحتاجين، وليس مناسبة لرشق الناس بالقنابل و«زمزمتهم» بالمياه. وفتحت عيناي على عقارب الساعة وهي تشير إلى العاشرة صباحا وأنا أنزع القطن عن أذني. «تفوووو».. لقد تأخرت عن العمل، وفاتني أن أسمع صوت المنبه!